تدوين- نصوص
ننشر في تدوين عبر سلسلة من الحلقات، رواية "وزير إعلام الحرب" الصادرة عن دار الشروق للنشر والتوزيع عام 2019، لكاتبها وزير الإعلام الفلسطيني الأسبق نبيل عمرو.
وفيما يلي نص الحلقة الرابعة عشرة:
نعيم cv
في الخامس من حزيران يونيو 1967 ، وعلى الساعة العاشرة صباحا، ومع خبر سقوط ثماني طائرات معادية وفق رواية صوت العرب، لم يتذكر الحلاق أنه بلغ من العمر ثلاثين سنة منها تسعة عشر عاما بعيدا عن الدوايمة، كان يراها بالعين المجردة حين يقف على أعلى قمة جبل من جبال كفر عرب وفي الليل كانت تبدو كقلادة من نور، إذ أقام الإسرائيليون مكانها مستوطنة.
الماضي بفعل الفرح صار مرشحا لأن يمحى من الذاكرة، بل إنـه محـي بالفعل، والحاضر فتح بابا من أمل ورجاء جملة واحدة أحدثت انقلابا في المزاج، وأضاءت النفوس المظلمة بنور سحري عرفه المنكوبون لأول مرة جاءنا الآن ما يلي. لم تكن هذه المرة بلاغ انقلاب عسكري أنجزه ضابط وصل إلى ميكروفون الإذاعة، ولم تكن بداية وعد من حزب استولى على السلطة بعد أن أطاح بالطغمة العميلة، والطغمة هي الكلمة المجمع عليها من قبل رواد الإنقلابات في وصف العهد الذي كان قبل ساعة سيد البلاد، إلا أنه صار له اسم ومكان مختلفين العهد البائد ومزبلة التاريخ.
تذكر نعيم كيف كان بادئ الأمر يبتهج لبلاغات الإنقلابات. كان وعيه الغض والهلامي يصدق بأن الانقلابيين الثوار لم يفعلوا ما فعلوا إلا من أجل إعادته إلى الدوايمة، فهم مسخرون كما يقولون لخدمة أحلامه وآماله. ومع توالي الانقلابات وبلاغاتها ووعودهـا وبقاء نعيم على حاله حلاقا في كفر عرب، وليس له من الدوايمة غير النظر إليها من على قمة جبل شاهق، لم يعد يطيق سماع هذه الكلمة، بل إنه رأى في الانقلابات المتواترة من بغداد ودمشق، استخداما فظاً وزائفا لوجعه وأمله، غير أن جاءنا الآن ما يلي التي تزف بشرى إسقاط ثماني طائرات كأول وجبة في حرب التحرير المنتظرة، كانت ذات إيقاع مختلف بثت فرحا انتشر في روحه كانتشار رائحة الزعتر في سهل كساه الربيع، وبدا كمستنبت للأمنيات المتحققة. الحلاق الذي رقص بجنون بعد التقاطه كلمة السر ومفتاح السعادة، لم يتذكر لحظة الفرح ما كان يتذكره كل يوم وكل ساعة في زمن لجوئه إلى كفر، عرب، سقطت قريته في قبضة العصابات اليهودية صيف العام 1948.
قبل وصولهم إليها كانت أخبار المذابح في العديد من القرى قد سبقتهم، وصار الخوف على الحياة والعرض هو ما يؤرق الشيخ عبد الرحمن زعيم القرية والمسؤول عن سكانها الذين يعدون بالمئات. تشاور مع معارفه وأقربائه وقرروا صعود الجبل نحو كفر عرب وانتظار فرج الله في رحاب وضيافة صديقه وحليفه وجاره في الأرض الشيخ جابر أبو الجود.
كان الشيخ عبد الرحمن مطمئنا إلى حسن استقبال صديقه. كان عشمه بشيخ كفر عرب في محلّه، وما أن لفى عليه حتى أخذه بأحضانه، وأفرد له مكانا في بيته الكبير. وتوالت الأيام والأسابيع وقبل أن يعدّ زمنه في ضيافة أبو الجود بالشهور، قرّر الرحيل للعيش في بيت خاص به استأجر عقدين على مقربة من بيت صديقه، وطلب من الصبي نعيم أخذ نصف الأسرة والذهاب بها للسكن في خيمة قيل له أنها بمثابة إثبات لحقه في كوخ سوف توفره وكالة الغوث وشهادة إثبات لأملاكه في قريته
لم يقدر الشيخ جابر على حبس دموعه التي انهمرت وهو يشاهد شيخ الدوايمة مرتحلا إلى عقد مستأجر، ربما لم تنهمر الدموع لهذا السبب، فما أن يسكن شيخ أقتلع من أرض عزّه وجاهه وأملاكه في مكان آخر، فذلك يعني أن الدوايمة ذهبت إلى غير رجعة، وأن سيّدها صار لاجئا حتى الممات.
كل مخيم أقامته وكالة غوث اللاجئين خصص فيه ساكنوه خيمة كبيرة كمدرسة، التحق بها نعيم مع عشرات من الأولاد واظب على الدراسة مع أنه كان يقطع كل يوم خمسة كيلو مترات ماشيا من كفر عرب إلى المخيم ذهابا وإيابا، صيفا وشتاءً، غير أنه استفاد من القانون الذي فرض على المدارس جميعا بأن يحلق التلاميذ شعورهم على الصفر، تحوطا من غزو القمل.
تحت شجرة السرو العالية التي صار اسمها شجرة المدرسة، اصطنع حلاق من أهل المدينة صالونا في الهواء الطلق، كان نعيم يراقب عمل الحلاق، فالتقط المهنة، وسمح له المعلم بأن يعاونه، فاكتشف فيه موهبة حلاق واعد، ولأن كفر عرب في ذلك الوقت كانت بلا حلاقين، فقد أسس صالونه فيها. بدأ بالحلاقة في فناء المدرسة، وحين قامت الحرب، كان الصالون العصري لصاحبه نعيم أحد معالم الجمال والحداثة في كفر عرب.
وفر له الصالون دخلا معقولا، البعض يدفع لقاء الحلقة قروشـا قليلة، والبعض الآخر يحلق بالدين على وعد بالسداد حين ميسرة. التلاميذ علـى الصفر والمعلمون والقادمون من دول الخليج لهم حلقة الفرينكو، أما العرسان الذين يزدهر موسمهم في الصيف فيدفعون إلى جانب علبة شوكولاتة السلفانا ديناراً وأكثر وبوسعنا تخيل كم كانت مهنة نعيم مربحة ومدعاة للتطلع نحو أمور أخرى.
بعد أن مات الشيخ عبد الرحمن شاع أنه لم يمت بفعل مرض وإنما بفعل قهر. تضاعفت مسؤوليات نعيم وازدادت في داخله رغبة في أن يقتحم أسوار العائلات العريقة فما الذي ينقصه؟ حياة مستقرة ودخل يوفّر بحبوحـة عـيش.
سمعته في المهنة تضاهي سمعة أفضل الحلاقين في المدينة. همس في أذن زبونه:
= هل ابنة الشيخ جابر أبو الجود ما تزال فارغة؟
أجابه الزبون:
على حد علمي نعم، خير إن شاء الله.
قال الحلاق:
حين استضافونا في بيتهم رأيتها وهي تلعب مع أخواتي في الساحة، لا أكتمك، إنني أفكر في خطبتها، وأتوسل إليك أن تستطلع لي الأمر.
أجفل الزبون من المفاجأة، ولكي لا يكسر خاطر الحلاق، وعده خيرا.
مضت أيام كابد فيها نعيم كل صنوف عذاب الإنتظار واحتمال
الرفض.
كره مهنته وتمنى لو أن الأرض تنشق وتبتلع صالونه المزين بحبال الخرز الملون حين عاد الوسيط صاعقا روحه بكلمتين "مفيش نصيب".
انشغل بال الحلاق طويلا لمعرفة سبب الرفض، ولكثرة ما ألح على الوسيط حصل على جواب يقصم الظهر.
= بصراحة سألت قريبتي التي ترتبط بصداقة متينة مع آل أبو الجود، هـل ما تزال ابنة الشيخ فارغة؟ وأبلغتها كذلك أن نعيم الحلاق يفكر في خطبتها لطمت صدرها بكفيها وقالت: " يا خيبتي حلاق ولاجئ وبدو يناسب جابر أبــو الجود.
الرقص الهستيري الذي اندلع مع الحرب كلمة سره ذلك المشروع المشؤوم، مشروع اقتحام أسوار الأسر العريقة. تلك الأسوار العالية أكثر مما قدر نعيم. لو لم يكن لاجئا لما صار حلّاقا، ولو ظلت الدوايمة وهو الإبن البكر لشيخها وملّاك الأرض فيها، لكانت ابنة الشيخ جابر ربما من نصيبه.
وضعت الإذاعات بعد انتقالها من الصخب إلى الهدوء، جدول أعمال جديد لاهتمامات الإخوة المواطنين.
فرضت سؤالا أوليا اختلف القوم على الجواب عنه، هزيمة ام نكسة؟. بدأ المواطنون الكرام يفتشون في قواميس النحو والصرف والمفردات، عن الفرق بينهما، وجد القوم حكاية ينشغلون بها، أحد مؤلفي المخارج وجد حلا للأحجية. ما الذي يضر لو قلنا إنها نكسة وهزيمة في ذات الوقت؟
أحيانا يرغب الناس بمادة جدل بحكم التعوّد والحاجة، وقد تولت الإذاعات بث مادة من العيار الثقيل حين نقلت للجمهور الكريم نبأ اعتزال زعيم الأمة للقيادة والتحاقه بقطاع المواطنين كواحد منهم لا أكثر وربما أقل، ثرثرات كثيرة تداولها الناس بعد انتشار النبأ.
كل من يهزم لابد وأن يستقيل، وماذا نفعل باستقالته بعد كل ما تسبب به، وهل سنراه يوما يسير في مظاهرة، أو يصطف في الطابور أمام الجمعيات الاستهلاكية رفقا بالرجل إرحموا عزيز قوم ذل لنسجل له شجاعة الاعتراف بالمسؤولية وجرأة القرار بالنزول عن العرش.
أبو علوان وهو يتابع الحوارات الدائرة حول بطله، كان محايدا هذه المرة، يحتاج إلى أن يسمع كي يكون فكرة أخيرة تفضي إلى قرار أخير. استهوته حكاية أن الرجل كان شجاعا بالاعتراف وبنى عليها نظرية تقول شجاعة الاعتراف ستقود إلى شجاعة أهم هي اصلاح الخطأ. تغاضى عن كل الإهانات
التي سمعها والتي لو قيلت قبل الحرب بيوم واحد لحملته على إسالة الدم دفاعا عن بطله ورهانه عقله صار كطفل تقذفه أرجوحة إلى أعلى وأسفل. يقينه الذي كان راسخا صار رخواً، فما أصعبها من ساعة حين يجد المرء نفسه يواجه نفسه، وهذه المرة بلا يقين يتكئ عليه.
أغلق جهاز الراديو ومنحه فترة سماح لا يعرف كم تطول هو ليس بحاجة إلى سماع الأوامر وارشادات التعاطي مع الوضع الجديد، قال لنفسه راية بيضاء رفعناها وكفى.
الصمت الذي ساد المقهى بفعل إغلاق، الراديو كان ينطق بلسان فصل الختام. عبرت في خاطره صورة كوكب الشرق أم كلثوم، وقد خلعت لباس الميدان وجلست على قارعة الهزيمة. كان آخر ما سمع منها "مصر التي في خاطري وفي دمي". اغرورقت عيناه بالدموع وهو يسمع "أنا إن قدر الإلـه ممـاتي لا أرى الشرق يرفع الرأس بعدي".
وعبر في خاطره محمد عبد الوهاب بعد أن خفّض من وتيرة الكلام واللحن والصوت، داعيا سماء الشرق إلى أن تطوف بالضياء، وأن تنشر شمسها في كل سماء. قبلها كان قد سمع استنجادا بالقوة الاستراتيجية المتموضعة في ثنايا التاريخ القديم، هتف بها صاحب لأجل النبي ومدد فضيلة المنشد الكحلاوي مستحضرا ابن الخطاب عمر طالبا منه سرعة التدخل لأن
أرض الإسلام في خطر.
سليل جبل العرب وحفيد سلطان باشا الأطرش وشقيق أسمهان، تولى تهدئة خاطره وبث أملا في نفسه حين غنّى شعبنا يوم الندا فعله يسبق قوله لا تقل خاب الرجاء إن للباطل جولة.
همس لنفسه جولة جولة، والباطل لا يعمر.
كان مغموما. لم يكن صافي الذهن كي تقلب المعادلة من الذي يسبق الفعل أم القول، ثم من هو الباطل؟
كيف استطاع أبو علوان النوم ليلة انقلاب الأثير، هو لا يعرف إلا أنه نام على وسادة من أغنيات هادئة عادت للوعد بذات الأمنيات التي لم تتحقق، إلا أنها أرجات وسلمت للغيب.
كانت ليلة بلا أحلام مزعجة ولا كوابيس. وحين استيقظ والشمس قد ملأت الكون، ودعت أهل كفر عرب إلى يوم عادي، فطن إلى أنه نسي حلاقة ذقنه ثلاث أيام كبيسة، أو لعل عقله الباطن أمره بتأجيل التزين إلى ما بعد النصر أول ما فعل بعد استيقاظه الهادئ، أن توجه إلى جاره نعيم. ولما وجد باب الصالون مغلقا، قدّر أنّ الحلاق نام مثله بعد أن سهرا وقلقا معا، وكابدا مشقة انتظار نصر رأوه يتسرب من بين أيديهم ويبتعد إلى ما وراء الإستحالة قرع الباب، ولما فتح الحلاق قدّم لجاره كأسا مليئة بقهوة مركزة تطرد النعاس وتوقظ الحواس:
= خذ اشرب يا صديقي وافتتح هذا اليوم بحلاقة ذقني.
= تكرم.
تأنى نعيم وهو يعزف بالموسى على وجـه جــاره، محاذراً أن لا تفلت شعرة واحدة، ولما تأكد من نعومة الوجه الذي تخلص من وعناء الحرب، رش على الأصداغ الناعمة كل ما في الصالون من صنوف العطر، بدا كما لو أنـه يجهز ميتا. كان قد أوقف دما نزّ من جرح سطحي بأن حك الجلد بالشبة إختفى الدم والتأم الجرح.
وجد أبو علوان نفسه قادرا على استنباط تعليق "الـعـرب يـا صـديقي بحاجة إلى أطنان من الشبة كي يتوقف نزيف جراح قلوبهم". رد الحلاق: لا تقلق ستشفى جراحهم بسرعة فهم متعودون.
غطت كفر عرب غيمة شديدة البياض، مصنوعة راياتها من قماش تم توفيره على عجل في مصانع النكسة المنزلية، وعلّقته على الحبال كغسيل تخلّص من قذارة الوهم، ودون جاءنا الآن ما يلي كان راديو الترانزيستور المخبأ في جيب أحد الزبائن الذين ينتظرون دورهم للحلاقة، يعلن للمرة الألف إلى المواطنين الكرام، من لا يرفع راية بيضاء على سطح داره فسيجد نفسه فوق أو تحت ركامه.