تدوين-نصوص
ننشر في تدوين عبر سلسلة من الحلقات رواية "الوارث"، هذه الرواية التي تعتبر أولى الروايات الفلسطينية والتي فقدت في أعقاب نكبة 1948، وعثر عليها في إحدى الجامعات الإسرائيلية بعد 63 عاما على فقدانها.
وفيما يلي نص الحلقة السابعة عشرة:
فتح عزيز عينيه في صباح اليوم التالي فرأى نجلاء جالسة على كرسي بجانب سريره وعلائم الاضطراب الشديد ظاهرة في وجهها. وقد تحقق من هيئتها أنها لم تنم الليلة الماضية بطولها. وللحال خطرت في باله المأدبة وجعل ينبه دماغه ليتذكر حوادثها. وأول ما ذكر منها استير وتهكمها به وعبثها بعواطفه فشعر بألم منها واحتقار لها. ثم تذكر الكولونيل وتزلفه إلى استير وجبنه فودّ أن يقابله مرة اخرى ليثأر لنفسه منه ومن أصدقائه الذين على شاكلته ومرّ بخاطره بعد ذلك استرساله في الشرب وسكره وغيابه عن الوجود ولكنه لم يدر كيف وصل إلى المنزل ومن استقبله هنا وكيف بلغ سريره وهل علم الشيخ بكل هذه التفاصيل؟
ولما تمثلت له هذه الحقيقة طار رشده. ثم عاد فنظر إلى نجلاء. وكانت هي تنظر إليه وتحاذر أن تزعجه أو تشعره بوجودها إلى جانيه فخجل منها كثيراً وأكبر إخلاصها له وعنايتها به وشعر بعاطفة شديدة نحوها وعزم على أن يسألها عما كان لا يزال يجهله من أمره. فاستوى في سريره يريد أن يتكلم فشعر بدوار في رأسه وخور في قواه فعاد واضطجع وهو يقول: عفواً يا نجلاء إني مريض!
فتنهدت نجلاء وقالت: لا بأس عليك بإذن الله. فابق في سريرك هذا النهار لئلا تشتد عليك الحالة وسأخرج أنا من الغرفة لئلا أزعجك بشيء.
قال: لا. لا تخرجي بل ابقي هنا ولا تفارقيني وسامحيني عما مضى.
قالت: اسامحك؟ وعلى ماذا؟
قال: على كل ما ظهر مني بحقك من الجفاء وسوء المعاملة. وقولي لي كيف وصلت أمس ليلاً إلى المنزل؟
قالت: لا تسألني عن هذا لأنه يؤلمني.
قال: وهل رآني عمي أو علم كيف وصلت؟
قالت: لا. إنه لم يرك ولم يعلم شيئاً.
وأدرك عزيز أن وصوله الى المنزل كان في أشنع حالة فزفر زفرة حارّة وجعل يذم تلك الوليمة ويلعن المسكر ويقسم أنه لن يتعاطاه ما دام حياً. وقد قال ذلك بصوت خافت ثم قال لنجلاء: ويخيل إلي أنك بقيت تنتظرين عودتي حتى رجعت.
قالت: نعم بقيت ووالدتي ننتظرك حتى جاءوا بك فأدخلناك إلى هنا ونحن نحاذر كل حركة لئلا يستيقظ عمك ويعلم بالحادثة. وقد سأل عنك في هذا الصباح فأرسلت أخبره بأنك لا تزال راقداً وأظن أن والدتي أخبرته بانك منحرف الصحة ولا بد من بقائك هنا هذا النهار.
قال: حسناً فعلت والدتك لأني مريض حقيقة وأشعر بحمى شديدة.
قالت: ابق إذاً وسأذهب أنا قليلاً إلى والدي ولا ألبث أن أعود.
قالت هذا وخرجت وبقي عزيز وحده يتفكر في حالته وفي ما صار إليه بسبب استير. ثم ذكر ديونه وقرب مواعيد وفاء بعضها ولم يكن لديه ما يفي شيئا منها فطار عقله وأيقن بافتضاح أمره.
وإنه لكذلك إذ فتح الباب ودخل الشيخ نعمان ومعه نجلاء ووالدتها. وما كاد الشيخ ينظر إلى وجه عزیز وانقلاب سحنته حتى تقبض ولكنه أظهر اهتماماً شديداً بأمره وأمر باستدعاء الطبيب في الحال ثم جلس إلى جانبه يحادثه ويسليه. وكان عزيز قد اطمأن لعدم اطلاع عمه على ما حدث فانطلق لسانه بالكلام وأخذ يتودّد كثيراً إلى نجلاء ووالدتها وكان ذلك من أكبر أسباب ارتياح الشيخ وسروره.
وبقي عزيز في المنزل أربعة أيام وهو في حالة المرض. وكانت نجلاء لا تفارقه وهي تهتم به وتُعنى براحته حتى تعوفي تماماً.
وكان قد شعر بارتياح شديد إلى نجلاء ولم يعد يتجنبها كما كان يفعل أولاً. وقد أنست هي به ولم تعد ترى إلا طيبة النفس منشرحة الخاطر.
غير أن عزيزاً لم ينسَ استير وقد شعر بانه أساء إليها في ليلة المأدبة فعزم أن يكتب إليها يستغفرها واغتنم فرصة انفراده في غرفته في أحد الأيام فكتب إليها رسالة في غاية الرقة والاستعطاف وأرسل بها إلى البريد مع أحد خدام المنزل وبات ينتظر الجواب. وقد صحت عزيمته أن يزور استير بحال خروجه من المنزل ويصلح ما جرى.
وكان الشيخ نعمان يقضي أكثر ساعات نهاره في مطالعة الصحف وتنسم أخبار الحرب وقد ازداد ولعه بهذه المطالعة وأصبح حديث الحرب شغله الشاغل فلم يكن يزوره زائر أو يجتمع بإبن أخيه عزيز أو أحد المستخدمين في المحل إلا وموضوع الحرب أهم مواضيع الحديث بينه وبينهم. وألف عزيز هذا الموضوع وكان يطالع الصحف وقد وجد فيها تسلية عما به من الهم في أثناء وجوده في المنزل.
ولما كان ذات يوم في مخدع عمه يتذاكران قال له عمه: إني معجب كثيراً بسرعة حركة الجيوش الألمانية وانقضاضها على أعدائها. وها أنها بعد أن فرغت من بلجيكا انقضت على فرنسا وأخذت تمعن فيها اكتساحاً وتدميراً وهي ترمي بهذه السرعة إلى الوصول الى باريس والاستيلاء عليها قبل أن تتمكن وروسيا من تأهبها.
قال ولكن روسيا يا عماه قد أحبطت هذه الخطة واضطرت ألمانيا أن تحول قسماً كبيراً من جيوشها من الميدان الغربي.
قال: نعم ولم تكن ألمانيا تنتظر مثل هذه السرعة في التعبئة من روسيا فهي قد احتلت بروسيا الشرقية كلها تقريبا وتوغلت في النمسا فاحتلت غاليسيا ومزقت شمل النمساويين. وكان النصر الذي أحرزه الروس في الميدان النمسوي من أعظم الانتصارات في التاريخ ولكني لا أظن أن روسيا ستواصل أعمالها الحربية بمثل هذا النجاح إلى النهاية، لأن أقل فشل يعرض لها سيكون له أشد تأثير في قوة جيوشها المعنوية. قال: وهل تظن يا عماه أن ألمانيا ستظل فائزة في الميدان الغربي إلى النهاية؟
قال: إنها ستظل فائزة إلى أن يستكمل الحلفاء أهبتهم.
قال: ولكن غواصاتها أخذت تفعل العجائب في البحار وهي لا تلبث أن تقطع كل مدد عن فرنسا وتحصر انكلترا وتمنع عنها المواد الغذائية من الخارج.
قال: قد يكون هذا لأن الغواصات الألمانية قد ظهرت في هذه الحرب سلاحاً ماضياً جداً في جانب الألمان.
قال: والمدافع الضخمة؟ ومطاود زبلين العظيمة التي أخذت تبعث بها من حين إلى آخر على أراضي أعدائها تحمل الموت الزؤام؟
قال: نعم. كل ذلك أدوات هائلة ليس عند الحلفاء ما يماثلها ولكن الحلفاء لا يلبثوا أن يقاوموا كل سلاح بمثله أو بأمضى منه لأنهم أغنى من ألمانيا وجيوشهم أكثر عدداً من جيوشها وقد ينضم إليهم غيرهم أيضاً فتصبح الكفة الراجحة في جانبهم بلا شك.
قال: وماذا تظن إيطاليا يا عماه؟ فهل تظل على حيادها أم تدخل الحرب وفي أي جانب تكون؟
قال: إن ايطاليا ستدخل الحرب بلا شك إذ لا يمكن أن تظل على حيادها دون أن يكون لها حصَّتها من الغنيمة ولكنها لا تدخل في جانب ألمانيا والنمسا لأن مصلحتها أن تقاوم النمسا لتستولي على البلدان الإيطالية العنصر. وهذا ما تتطالّ إليه منذ زمان.
قال: ولكنها مرتبطة بمحالفة مع ألمانيا والنمسا فكيف يمكنها أن تخون حليفتها؟
قال: إن للسياسة وجوهاً كثيرةً يا ولدي. فسترى إيطاليا لنفسها أو يرى الحلفاء لها مخرجاً يبرر عملها.
قال: وقد قرأتُ في الصحف الاخيرة أن اليابان أيضاً دخلت الحرب. فهل يعني ذلك أنها سترسل جيوشها إلى أوروبا؟
قال: إن اليابان أعقل من أن تفعل هذا ولكنها ستكتفي بالاستيلاء على ما لألمانيا في المياه الصينية واليابانية من السفن وتستولي على حصن كياوتشاو. وهي إنما تفعل كل ذلك لمصلحة نفسها أولاً وإكراماً لحليفتها إنكلترا ثانياً.
قال: يظهر إذا أن العالم كله سيخوض غمار هذه الحرب وأن هذه الحرب ستقلب وجه الأرض.
قال: نعم وا أسفاه إنها ستقلب وجه الأرض ولكن بعد أن تسقط عشرات الملايين من البشر تحت حدود السيوف وتتناثر أشلاؤهم في مجازر الوغى وتهدم ديارهم وتغنم أموالهم ويُغصب عقارهم وتذهب نساؤهم وأولادهم فريسة الجوع والشقاء وسائر أنواع البلاء.. ويل للإنسان ما أشرّه وأكفره! فبينا نراه يرفع يده إلى السماء متهدّدا باسم الشرع كل فرد من الامة يعتدي على أخيه أو يغصب حقاً من حقوقه تراه يسلمه باليد الأخرى سيفاً ويأمره أن يذهب ويقاتله، حتى إذا عاد ظافراً نال على ذلك أسنى المكافأة. وبينا نراه مجتهداً في اختراع أشد الآلات فتكاً وأعظمها إبادة وتدميراً ليرسلها إلى ميادين الحرب نراه من الجهة الأخرى يصحبها بأعضاء جمعيات الرحمة لمداواة المرضى وأساوة المجروحين. وهو إنما يريد بكل ذلك أن يجمع بين القسوة والشفقة، وبين الظلم والرحمة وبين العنف واللين ولا جرم أن كل ذلك فصول تمثيل مضحك يريد الإنسان أن يموه بها على نفسه وأبناء جيله ولكنه مهما تنكر تحت تلك الاثواب تمويهاً وزوراً ومهما تستر بما يسميه تمدناً، فهو لا يزال عن التمدن بمراحل.
وكان عزيز قد راقه هذا البحث فتأمل قليلاً في كلام عمه ثم قال - إذا كان الإنسان على ما نرى - كلما ازداد تمدناً إزداد همجيةً وكلما ازداد علماً ازداد شراً فمتى يتاح له أن يتمتع أخيراً بنعيم السلام وهناءة الألفة والوئام؟ فيُطرح السلاح وتلغى الحروب وتنقضي الغارات وتبطل الفظائع وتنصرف الأمم إلى إصلاح شؤونها والتوفر على أسباب سعادتها وهل يدخل الانسان هذا الطور في أحد عصوره أم يبقى ذلك أمنيةً في رؤوس بعض عظماء الرجال لا تخرج عن حيز التمثل والخيال؟
فقال الشيخ: هيهات هيهات لأن ذلك لما يستحيل بلوغه على الإنسان وهو على ما عُرف به من الطمع والأثرة التي غرستها فيه يد الفطرة، فلا ينزع عنه إلا بتوالي العصور وتمام انتشار العلم والمعارف حين تتطهر الأهواء وتعلو النفوس، فلا يُساق أفراد الأمة إلى طريق الخير كرهاً وهم جاهلون المصير، بل يسعون إليه عن رغبة واقتناع وإن قيل أن امتداد التمدن لا يكفل بلوغ تلك الغاية، لأنه يُشاهد بامتداده امتداد الشرور وبانتشاره إنتشار فظائع جديدة لم تكن معروفة من قبل، فهو غير قادر أن يستأصل من الفطرة الإنسانية ما لازمها من الخواص الحيوانية حتى أن الطبيعة نفسها - وهي مع قدرتها أن تخفض الجبال وترفع السهول وتغير وجه البسيطة في كل زمان - لا تقدر أن تغير شيئا من فطرة الإنسان.