تدوين-نصوص
ننشر في تدوين عبر سلسلة من الحلقات رواية "الوارث"، هذه الرواية التي تعتبر أولى الروايات الفلسطينية والتي فقدت في أعقاب نكبة 1948، وعثر عليها في إحدى الجامعات الإسرائيلية بعد 63 عاما على فقدانها.
وفيما يلي نص الحلقة الثامنة عشرة:
ما كاد عزيز يبرح المنزل بعد أن عادت إليه صحته وثاب إليه نشاطه حتى شعر بعوامل خفية تدفعه إلى الذهاب لزيارة استير وكانت نار الغيرة لا تزال مضطرمة في صدره. ولكنه رأى أن يذهب إلى المحل أولا على أمل أن يحظى من استير بجواب كتابه ثم يسرع إليها. غير أنه لم ير شيئا مما كان ينتظر. فاستاء وانقبض صدره وجلس في مكتبه في الطبقة العليا من المحل وهو لا يعلم ماذا يعمل، وقد شخص ببصره وجمد في مكانه. ومضت عليه الساعات وهو في تلك الحال إلى أن قطع مجرى أفكاره دخول أحد المستخدمين عليه وفي يده كتاب باسمه. فاختطفه عزيز منه وهو يظن أنه من استير. ولكنه ما كاد يلقي عليه أول نظرة حتى طرحه جانباً وهو يزداد تألماً وتقبضاً.
كان ذلك الكتاب من اشعيا الخياط الذي اشترى منه عزيز الفروة لاستير وتعهد له أن يخيط عنده ثياباً لنفسه أو للمستخدمين عنده بمبلغ لا يقل عن الستين جنيهاً كل سنة.
فكتب اشعيا الآن يذكره بهذا التعهد وهو يتعجب لأن عزيزاً قد تزوج ولم يخط عنده شيئاً. ولما كان هذا الأمر لا يهمه – أي لا يهم اشعيا - لأن عزيزاً مضطر أن يدفع الستين جنيهاً في نهاية السنة، خاط أو لم يخط، غير أن اشعيا أراد بهذا الكتاب
أن يذكره فقط قياما بما توجبه عليه المودة... قرأ عزيز الكتاب ثم مزقه وقد انصرفت أفكاره إلى الديون التي عليه لغير اشعيا. أيضاً وخصوصاً ما أصبح منها قريب عهد الوفاء. وإنه لكذلك وإذا برجل من مستخدمي المسرح التي كانت تمثل فيه استير قد دخل عليه وبيده كتاب من قيم المسرح.
فأخذ عزيز منه وتلاه فإذا فيه بيان حساب المأدبة التي صنعها عزيز منذ بضعة أيام لاستير واصحابها وانتهت بسكر عزيز وتحطيم آنية الشراب. وقد بلغ هذا الحساب المئة جنيه.
فوعد عزیز حامل الكتاب بقرب مجيئه إلى المسرح وقيامه بأداء المطلوب ثمن الشراب والآنية التي حطمها فانصرف الرجل.
ولم يكن في إمكان عزيز البقاء في المحل وقد خشي أن يعلم بوجوده فيه أصحاب الديون وسائقو العربات وغيرهم فلا يعلم كيف يخاطبهم أو بماذا يعدهم، وهو صفر اليدين ولا أمل له بالحصول على شيء من المال، فعزم أن يجتمع بناثان الصيرفي ويطلب منه تدبير شيء من المال وتأجيل مواعيد الصكوك التي اصبحت قريبة. ولكنه عزم أولاً أن يذهب لزيارة استير وهو يرجو أن يسلو بمقابلتها كل هم ويستسهل كل صعب ثم يجتمع بناثان فيدبر ما يجب تدبيره وقام من ساعته فركب عربة وسار ينهب الارض إلى منزل استير. ولكنه ما كاد يترجل من العربة حتى قابله خادم المنزل وأخبره بأن استير وعمتها قد خرجتا منذ الصباح ولم تعودا. وكان في لهجة الخادم ما لم يألفه عزيز قبلاً فنظر إليه مستفهماً كأنه لم يفهم ما قاله له. وكان الخادم يحب عزيزاً
ويحترمه لكثرة ما كان ينفحه عزيز به من المال. فلما رآه واقفاً مستغرباً تقدم إليه وقال: هكذا أمرتُ أن أقول لك يا سيدي والحقيقة غير ذلك.
- ماذا تقول؟ وهل استير في المنزل؟
- نعم.
- ومن عندها الآن؟
- الكولونيل الذي تعهده
فعض عزیز شفته حتى أدماها وقال: وهل أمرتك استير نفسها أن تمنعني من دخول المنزل؟
- نعم وقد كررت ذلك علي مراراً. وقال لي الكولونيل إن المنزل هو لاستير دون سواها وهي تأمرك بعدم قبول أحد بدون رضاها وخصوصاً عزيز.
فاسودت الدنيا في عيني عزيز عندما سمع هذا الكلام، ولم يعد يبصر شيئا، وأراد أن يدفع الباب ويدخل، ثم عاد فعدل وركب عربته وقفل راجعاً وقد امتلأت عيناه بالدموع. تذكر عزيز الصك الذي قدّمه لاستير منذ بضعة أيام بألفي
جنيه تذكر هداياه الكثيرة الثمينة لها. تذكر ولائمه لها ولاصحابها. تذكر الأموال الكثيرة التي كان ينفقها عليها بلا حساب تذكر الديون التي تورط فيها لأجلها. تذكر تعرضه لسخط عمه وتورطه في كره نجلاء ابنة عمه وزوجته في سبيل
حبه لاستير. تذكر كل ذلك وبكى بكاء مراً. ولم يفق إلا وهو على باب منزله فدخل المنزل وهو يتهادى كالسكران ثم دخل غرفته وانطرح على سريره وصدره يكاد ينشق غماً.
وكانت نجلاء قد رأته وكأنها أدركت بعض ما به فتركته وشانه وهي تحاذر أن يعلم الشيخ بمجيئه. وأقام عزيز في المنزل مدة من الزمن وقد عاودته الحمى.
وكانت نجلاء ووالدتها تظهران له من الخدمة وعليه من اللطف والحنو ما خفف عنه بعض لوعته وشقائه. وقد خجل من نفسه لاشتغاله كل تلك المدة باستير وهي على ما هي عليه من التهتك والدناءة عن نجلاء وهي مثال الأدب
والحشمة والكمال. وقد شعر أن ميله إلى نجلاء أخذ يقوى يوما عن يوم وصار يستأنس بها كثيراً ويقضي وإياها الساعات في الحديث والمغازلة حتى انقلب ذلك الميل حباً ملأ جوارحه ولم يبق في فؤاده أقل ميل لاستير وأقل رغبة في مقابلتها.
ولكنه كان كلما خطرت في باله ينزعج ويرتعش ويذكر تعسه وشقاءه ويشعر بثقل ضغط الديون عليه فتطير نفسه شعاعاً. وكان الشيخ نعمان قد اشتد ميله إلى عزيز لما كان يراه منه من الميل إلى نجلاء وحبه لها فكان يقابله أحسن مقابلة ويظهر
له كل سرور وارتياح. وكان لذلك أحسن تأثير في صحته فلم يعد يشعر بوطأة المرض وكان يقضي أكثر ساعات نهاره جالساً وأحياناً مستلقياً على سريره يطالع صحف الأخبار ويتتبع سير الحرب في جميع ميادينها في أوروبا وآسيا. وكانت الأفكار قد اضطربت في مصر في تلك الاثناء لما يشاع عن احتشاد الجيوش التركية في فلسطين وتحفزها للهجوم على ترعة السويس. ولم تكن تركيا قد أعلنت إلى ذلك الوقت الحرب على الحلفاء.