تدوين- سوار عبد ربه
لم تحتمل واحدة من طفلات غزة اللواتي لم تبصر أعينهن منذ ولادتهن سوى مشاهد الدمار والحرب ومشاعر الفقد والخوف احتمالية استشهاد والدتها في غارة إسرائيلية لم تضل الطريق التي رسمها الاحتلال لها، لتحط على جسد والدتها فيصبح أشلاء متناثرة فوق الأرض منزوعة الأمان، ثم تتهاوى على الأرض وفي بكائها حرقة أكبر من أن تحتملها سنوات عمرها القليلة، لحظة تأكدها من أن الضحية الجديدة هي أمها بالفعل، فتأخذ بالصراخ في باحات المشفى الذي لم يعد يوحي بأنه مكان يتلقى فيه المصاب العلاج، بل المحطة الأخيرة التي يجتمع فيها الموتى قبل أن تبلعهم الأرض جسدا بلا روح، ثم تجلس على آخر المقاعد المتبقية تناظر خالقها وبنبرة ملؤها العتب تتوجه له بأكثر الأسئلة المشروعة "لماذا أخذتها مني؟".
يقف المرء أمام هذا الدمار على شفا أسئلة الوجود الكبرى، يتأمل المشهد ويناظره بعين اللوم تارة، وتارة أخرى بعين الاستنجاد وطلب الرحمة، ويظل يلح عليه السؤال الذي لا إجابة له "من يوقف هذا الدمار؟" لتغدو هذه الأسئلة لا قيمة لها لمن هم يتأملون سير الكون من خلف الشاشات، بعد أن أتلف سيل الأخبار أدمغتهم، وزعزعت صور الأطفال ونداءاتهم، إيمانهم بحتمية نصر المغلوب على أمرهم، أمام الأسئلة العفوية التي يطرحها الأطفال وهم يعايشون لحظاتهم الأخيرة في الحياة، تلك الخالية من أي أيديلوجية وفلسفات، والفطرية إلى أبعد حد، التي يتفوهون بها دون حاجة للتأمل. "لماذا أخذتها مني يا الله؟" من سيجيب هذه الطفلة التي حاول المجاورون لها أن يكذبوا نبأ الرحيل، قبل أن تهزمهم بيقينها بأنها فعلا رحلت.
أطفال آخرون، يرتجفون، عيونهم متسعة، الصدمة تملؤ وجههم، يسألهم غريب "ماذا كنتم تفعلون؟" ليخبروه بأنهم كانوا نياما لا يفعلون شيئا. يتوقف الزمن عند النوم، ويغدو الإنسان جسدا معطلا عديم الفائدة، قبل أن يعاود الاستيقاظ، يخبرنا هؤلاء الأطفال بإجابتهم أنهم ليسوا جزءا من المشهد، وليسوا مؤثرين في الأحداث، فهم نيام! هم غير حاضرين، لماذا يقصفون إذن؟ لماذا يصبحون هم المشهد والحدث بعدما غلبهم النعاس وجمد فاعلياتهم في الحياة.
طفل آخر مهشم الرأس، يرتجف أمام طبيبه ويسأل "هل سأظل على قيد الحياة؟" وطفلة أخرى تطلب أن تلعب، أن تتعلم، أن تكون محمية، وآخر يستصرخ العرب والمسلمين، وأخرى تسأل عمن تبقى من عائلتها فهي تحاول أن ترسم خطة جديدة للعيش مع أناس جدد وربما غرباء، بعدما أفسد الاحتلال مسار حياتها الطبيعي.
تسقط هذه الأسئلة كلها أمام سؤال طفلة تجلس وسط الركام، تمسح دمعتها، وتحاول أن تزيح آثار الدماء عن وجهها، تتوسط من بقي في المنطقة التي مسحت بأكملها، وتقول: "ماذا فعلنا لهم؟" "ماذا فعلنا حتى نستحق كل هذا العناء؟". لا إجابات تشفي صدرها، ولا كلمات مواساة تعزيها في مصابها، مصاب الفقد، ومصاب استمرارها بالعيش، فماذا ستفعل حقا بعد أن أصبحت دون مأوى، دون عائلة، وبذاكرة تفيض منها صور الأشلاء وأصوات القذائف.
منذ السابع من تشرين الأول، تبث وسائل الإعلام خبرا مفاده أن غزة تتعرض لأعنف قصف منذ بدء العدوان، يتكرر هذا الخبر كل ليلة، وعداد الشهداء في ارتفاع متواصل، والأسئلة باتت أكثر إلحاحا وحاجة للإجابة، "هل هناك ما هو أعنف بعد؟". "من يوقف هذا الدمار؟".