تدوين- سوار عبد ربه
تتوالى المجازر على قطاع غزة، كل يوم بصورة أبشع من ذي قبل، قرابة الشهر وكل يوم يبتدع الاحتلال سبلا أفظع في ممارسة الجرائم، وأماكن يفترض أنها تستثنى من حسابات الحروب وبنوك أهداف العدو، تصبح أهدافا رئيسية له، المستشفيات ودور العبادة والمكتبات وسيارات الإسعاف، والمنازل، والمخابز. هكذا أصبحنا نحتج على الجريمة، ونتفاعل معها، بناء على مكان حدوثها، وليس على حدوثها فحسب. لم تعد فكرة الموت تهزنا بقدر ما يهزنا مكان وقوعه.
الموت واحد، وكل الضحايا سواسية، وكل الأماكن شواهد، هكذا يفترض أن نتعاطى مع خسائرنا، لكننا لم نفعل، يستشهد الصحفي فنحزن أكثر، بينما تمحى عائلات بأكملها من السجل المدني دون رغبة منا في معرفة من هم أفرادها، أو النبش في تفاصيلها. تستشهد النساء والأطفال فتصدر إحصائية خاصة بهم، وما دونهم يصبح رقما هامشيا دون إدراك منا لما نفعل، وهل الموت يعرف عمرا أو جنسا؟ وهل السلاح يفرق بين مكان وآخر؟ إن كان عدونا لا يفعل فلمَ المفاضلة؟ لا خصوصية لفئة دون غيرها في هذا، حتى رجال مقاومتنا، وإن مضوا في سبيل مبتغاهم، هم ضحايا، مثلهم مثل الذي يجلس في بيته دون اشتباك، فنحن كلنا مدنيون وإن حملنا السلاح، وهم معتدون وإن كانوا يستجمون على شواطئنا المحتلة.
يطل البعض من مجيدي اللغات الأجنبية عبر وسائل الإعلام الغربية، فيخاطبوهم بلغتهم التي نزعم أنهم يفهمون، "معظم الضحايا نساء وأطفال" "لا مكان آمن في غزة حتى المستشفيات" وينتهي الأمر عند هذا الحد، دون محاولة لصوغ خطابنا الخاص، وفرضه بالإجبار على عالم أصم وأبكم، حتى وسائلنا المحلية في خطابها تفاضل بين مكان وآخر، وبين شهيد وآخر، فوعينا الجمعي بات منسوجا على أهواء غيرنا، وبتنا استهلاكيين حتى في خطاباتنا، نعطي خصوصية لحالات ونستثني حالات أخرى، ونفرد مساحات أكبر لقصص دون غيرها، وكأن الوضع ليس كله خاص، وعلينا أن نرفضه من جذوره.
سبعة عقود وأكثر ونحن نخشى على صورتنا أمام المجتمع الدولي، نميع سرديتنا بحجة الأنسنة، واستجداء العاطفة من عالم غير آبه بكل ما حل بنا من دمار، ووسط هذا الانسياق تناسينا أننا أصل الحكاية وأننا رواتها، وعلينا أن نرويها بكل جوانبها وتفصيلاتها وفقا لرؤيتنا نحن، لا وفقا لما يملى علينا. وإن كانت الحجة أن القوة لمن يملكون القوة، فنحن بهذا المنطق استطعنا أن نحقق إنجازات وإن كانت فردية، وخضنا حربنا الإعلامية منذ أحداث حي الشيخ جراح، التي قلبت المعادلة آنذاك، ونسفت مطامع الاحتلال وشهيته المفتوحة دوما إلى مزيد من ممارسات التطهير العرقي، لكننا اليوم ونحن والعالم برمته أمام إبادة جماعية قدمنا كثيرا من الخطابات التي يحبون أن يسمعوها، لكننا لم نقطف ثمار هذا الحصاد، إلا مزيد من حرف البوصلة عن أن معركتنا بالأساس معركة تحررية، أطلقت المقاومة شرارتها الأولى في سبيل الخلاص، وليست جولة نريدها أن تنتهي.
نتفق ودعاة الإنسانية على أن شلال الدم المسفوك في قطاع غزة يجب أن يتوقف، لكننا لسنا في خندق واحد في فهمنا لمعنى الوقف، فنحن الراغبون في حياة طبيعية لا احتلال فيها، وهم الراغبون لنا في حياة طبيعية في كنف الاحتلال.