الأربعاء  15 أيار 2024

التضييق الثقافي وجه ألمانيا الآخر في الحرب على غزة

2023-11-23 09:28:21 AM
التضييق الثقافي وجه ألمانيا الآخر في الحرب على غزة

تدوين- ناديا القطب

أصبح كل نشاط يتم تنظيمه في ألمانيا، ويعبر عن التضامن مع غزة التي تخوض حربا ضد أحد أقوى جيوش العالم، موضع شبهات من قبل السلطات الألمانية. وستكون عبارة "التأكد من أن النشاط ليس معاديا للسامية"، بمثابة مقصلة لإلغاء أنشطة ثقافية وسياسية عدة، ليست مناصرة للفلسطينيين فقط، وإنما أيضا تلك التي تظهر تأييدا  للمسلمين أو العرب. سيتم إلغاء مسرحيات وأمسيات فنية، وأفلام وندوات، وطبعا التظاهرات المطالبة بوقف إطلاق النار في غزة ووقف جرائم الإبادة.

بلغت ذِروة الدعوات الرامية إلى شيطنة الاصطفاف إلى الجانب الفلسطيني، في محاولة نائبة رئيس حزب الاتحاد الديمقراطيّ المسيحيّ، كارين بْرِين، تجريمَ هتاف "فلسطين حرّة" الذي كثيرًا ما تصدح به حناجر مؤيدي فلسطين في المظاهرات، إذ صرّحت في لقاء تلفزيوني بأنّ هتاف "فلسطين حرة ليس هتافًا بريئًا، وإنما صيحة حرب لعصابة إرهابيّة".

أدَّى هوس إخماد أصوات كلّ من يحاول أن يغرّد خارج سرب الموقف الرسمي، إلى المبالغة في كيل تهم معاداة السامية، والتوجس خيفة من كل ما من شأنه أن يوشي بانتقاد مباشر أو غير مباشر لحرب إسرائيل على غزّة. وقد كان من ضحايا هذا التوجّس الهستيري الروائية والكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي، التي كان من المفترض أن يجري تكريمها في معرض فرانكفورت للكتاب بجائزة "ليبراتور" المخصصة للكاتبات من "العالم الثالث" أو ما يسمى الآن "الجنوب العالمي" عن روايتها "تفصيل ثانوي". فالرواية التي احتفى بها سابقاً كثر من الصحافيين في وسائل الإعلام الألمانية، تحولت بين عشية وضحاها إلى رواية "معادية للسامية"، وتم "إرجاء" حفلة الجائزة إلى أجل غير مسمى.

 

الشيء ذاته حدث مع عديد من المعارض الفنية، مثل معرض للصور الفوتوغرافية يظهر حياة المسلمين في برلين، هذا المعرض تم تأجيله أيضاً إلى أجل غير مسمى، خشية الاتهام بالانحياز إلى المسلمين في الظروف الحالية. وهكذا أعلن المسؤولون عن المعرض أنهم يرون التوقيت غير مناسب، وعن عزمهم على تنظيم معرض آخر "أكثر توازناً"، يعرض مثلاً لحياة المسلمين واليهود في برلين.

من جهة ثانية قام بيت الشعر في برلين بإلغاء حدث إطلاق أنطولوجيا "زحف القارات، أوروبا العربية" للشاعر غياث المدهون، الذي تحدث قبل أسابيع فقط في متحف الهجرة في برلين عن الفن والمنفى. 

تهمة معاداة السامية، حامت أيضاً حول الكاتب والناقد الفني رانجيت هوسكوت - أحد أعضاء لجنة اختيار الأعمال الفنية التي ستعرض في "دوكومنتا 16"، أحد أهم المعارض الفنية في العالم - لأنه من مؤيدي حركة مقاطعة إسرائيل، وهو ما حدا بالكاتب الهندي إلى تقديم استقالته من اللجنة، وتبعته الإثنين الماضي زميلته في اللجنة، الفنانة الإسرائيلية براخا إتنغر. واليوم أعلنت وسائل الإعلام تقديم كل أعضاء اللجنة استقالاتهم في رسالة وجهوها إلى المسؤولين عن "دوكومنتا".

فيلم "واجب"

من الأمثلة الأخرى على سياسات التضييق الثقافي في ألمانيا كان قرار المحطة الأولى في التلفزيون الألماني ARD عدم عرض الفيلم الفلسطيني "واجب" (2017) من إخراج ماري جاسر الذي كان مرشحاً للأوسكار عام 2018، على رغم أن الفيلم لا يتعرض من قريب أو بعيد إلى الاحتلال الإسرائيلي أو حصار غزة أو سياسة الاستيطان، بل يعرض قصة عودة مواطن فلسطيني من إيطاليا حيث يعمل مهندساً معمارياً إلى الناصرة لحضور حفل زفاف أخته، هذا الفيلم الإنساني الذي يبين صورة للحياة في الناصرة، اعتبره القائمون على المحطة "غير مناسب للعرض في ظل الأحداث الأخيرة في الشرق الأوسط". أثار هذا القرار استغراب كثر، ومنهم أحد محرري مجلة "دير شبيغل" الذي قال إن الفيلم "لا يدعو بأي حال من الأحوال إلى العنف"، ولا يمكن اعتباره "بروباغندا فلسطينية".

التضييق حتى في المدارس

الهوس بشبهة "معاداة السامية" طال كذلك المدارس في ألمانيا، فقد دعت المدارس هناك أهالي الطلاب إلى تحييد أبنائهم عن الصراع الدائر بين إسرائيل والفلسطينيين في قطاع غزة، في وقت حذّرت فيه السلطات الألمانية من أنها لن تتسامح مع أي محاولات للتظاهر تأييداً لـ "حماس".

وطالبت الرسالة بـ "ضمان بقاء المدارس مكاناً يشعر فيه جميع الطلاب والأسر والموظفين ذوي التوجهات الدينية والسياسية المختلفة بأمان"، داعية الأهالي لتوعية أطفالهم وتنبيههم إلى أن "مقاطع الفيديو والصور العنيفة والمؤلمة" متاحة على جميع وسائل التواصل الاجتماعي، ويتم مشاركتها عبر الدردشات.

وذكرت الرسالة أن المدرسة "تريد أن تكون مكاناً شاملاً، حيث يشعر دائماً جميع الأطفال والطلاب والموظفين، الذين تأثرت أسرهم، من كلا الجانبين، بالأمان والدعم".

وأشارت الرسالة إلى أن "هذا الصراع أدى إلى خلق مواقف مرهقة عاطفياً بشكل خاص للأطفال"، لافتة إلى أنه يمكن للطلاب الاتصال بالمختصين الاجتماعيين والنفسيين في المدرسة لمعالجة هذه المسألة.

هذا هو الواقع الثقافي الآن في ألمانيا، وهذا ما أطلق عليه الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجك في كلمته لدى افتتاح معرض فرانكفورت للكتاب "حظر التحليل" في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية. من يخرج عن الخطاب الإعلامي السائد يعتبر في أحسن الأحوال "غير مناسب الآن"، هذا إن لم يوصم بمعاداة السامية. وعلى ما يبدو لن يتغير في القريب العاجل هذا المناخ الفكري، وكلما طال أمد الحرب في غزة زادت حملات التضييق، ومحاولات فرض رؤية واحدة للأحداث في العالم.