الخميس  02 أيار 2024

فدوى طوقان ومعاناة الانتظار

2023-12-17 04:12:59 AM
فدوى طوقان ومعاناة الانتظار
فدوى طوقان

تدوين- فراس حج محمد

(مساحة شخصية 11)

في هذا العام (2023) تكمل الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان عشرين عاماً من الرحيل (12/12/2023)، تمرّ ذكرى وفاتها وحرب غزة على أشدها، والقتل والدمار مستحرّ ولا يهدأ. أعود إلى أشعار فدوى أيضا لأستجلي صورة ما من صور المعاناة.

بعد عام 1967 كتبت فدوى طوقان شعرا مقاوماً، وشاع شعرها هذا وانتشر فلسطينيا وعربياً، فضلا عن أنها كانت شاعرة معروفة قبل ذلك عربياً، وفلسطينيا بطبيعة الحال، وتنشر قصائدها في كبريات المجلات والصحف العربية، وسببت بعض أشعارها قلقاً للمحتلين، ومنعت من إلقاء الشعر في الجماهير في مدينة نابلس. نظر المحتل إلى قصيدة "آهات أمام شباك التصاريح" من ديوان "الليل والفرسان" على أنها قصيدة متوحشة من شاعرة وصفها بأنها آكلة للحوم البشر". تخيلوا الصلف الصهيوني كيف يدمر المنطق والقصائد ويشوّه الشعر والشعراء.

في موقف الاحتلال من القصيدة غير ملاحظة، الأولى تلك التي أشرت إليها أعلاه؛ وتومئ إلى تعامله مع الفلسطيني وتفسيره لأقواله، وما في ذلك من انحراف نصيّ، يُظهره فيه أنه "متوحش". وينسى نفسه، بل إن هذه الصورة تفترض أنّ المحتل آدميّ، وابن حلال، والقطة تأكل عشاه، ويظهر أنه مجنيّ عليه ومظلوم من الفلسطيني الذي يحاول دائما إلصاق كل أوصاف التخلف به.

وفي الملاحظة الأخرى يبدو الاحتلال كعهده لا يحسن القراءة، ويصرّ على أن يسيء التفسير، وفي تعامله مع النص يظهر أنه يتعمد الإساءتين معاً؛ التأويل والقراءة؛ مقتطعاً من النص بعضه ليدلل على صحة أوهامه واستقرارها في وعيه، فلا يأخذ النص كاملا، وإنما لا بد له من أن يجتزئ ما يريد، ليعيد تركيب الصورة التي يريدها هو، لا ما هي في الحقيقة.

هذا المنطق ليس خاصا في التعامل مع نصوص الشعراء، وإنما أيضا مع الأحداث، يفربكها، ويعيد تركيب مشاهدها، هكذا حدث في أحداث الحرب الأخيرة الجارية في غزة، يعيد خلق أحداث جديدة يبنيها على تصورات غير صحيحة، وقد أثبتت كثير من الشهادات والتصريحات والتحقيقات الصحفية كذبها، بدءا من صورة المقاومة غير الإنسانية التي تقطع رؤوس الأطفال وتغتصب النساء، وتحرق المدنيين. كل ذلك له قاعدة واحدة من المنطق هو التشويه، ففي الوقت الذي يفبرك به تلك الأخبار يقتل كل شيء في غزة بأعتى الأسلحة المجنونة التي لا تبقي ولا تذر، وما زال يسوّق للإعلام الغربي أنه ضحية، وأنه يدافع عن نفسه، كأن هؤلاء الأطفال الخدّج والرضع وطلاب المدارس هم معتدون، ونسي أنه يحاصر غزة ويقتل أبناءها منذ ما يزيد عن خمسة وسبعين عاماً. كيف استطاع أن يقدم الصورة مبتورة؟ إنه قادر على أية حال ليفعل ذلك، فهو قد اقتطع من قصيدة فدوى طوقان بعض أسطرها ليلفق لها تهمة، ولم يقرأ ما قبلها ولا ما بعدها. وإن قرأ لم يرد أن يربط أجزاء النص؛ بعضها ببعض، يبدو أنه معذور، فهو ليس ناقدا أدبياً، إنما هو ومحتل يحاسب المضطهدين على نواياهم وأحلامهم وتمنياتهم، فما بالكم بكتاباتهم وأشعارهم وكتبهم التي كان يمنع وجودها في مكتبات المدارس، ويحرص على ألا تدخل إلى فلسطين فلا تصل إلى المكتبات والأكشاك التجارية؟

تتحدث القصيدة عن المعاناة التي يلقاها المسافرون من أبناء الضفة الغربية إلى الأردن بعد أن استقرت الأحوال للاحتلال، وأعاد فتح الحدود بين الأردن وفلسطين، ورمم جسر اللنبي، يقف الرقيب عند قول فدوى:

حقدي رهيب، موغلٌ حتى القرارْ

صخرةٌ قلبي وكبريتٌ وفوَّارةُ نارْ

ألف (هند) تحت جلدي

جوع حقدي

فاغرٌ فاه سوى أكبادهم لا

يُشبعُ الجوعَ الذي استوطن جلدي

آه يا حقدي الرهيبَ المستثارْ

هذا ما لفت انتباه الاحتلال، لكنه لم يلتفت إلى معاناة الشاعرة في أكثر من ثلاثين سطرا تتحدث فيها الشاعر عن إذلال الناس وهم أمام شباك التصاريح، وما يعانونه من الانتظار في حرارة الصيف القائظ، ونسي شتائمه للعرب بأنهم: "عرب، فوضى، كلاب، ارجعوا، لا تقربوا الحاجز، عودوا يا كلاب". هل يصح للشاعرة أن تعترض على هذه الحالة المزرية التي وصلت إليها بفعل الاحتلال وإجراءاته؟ يبدو أنه لا يحق لكَ أن تعترض، ولا أن تبدي امتعاضاً ما. وإلا سيكون مصيرك أن توصم بصفات "التوحش" و"أكل لحوم البشر"، كما حدث مع الشاعرة فدوى طوقان. صدق مثلنا الشعبي الفلسطيني "الجمل ما بِعِدّ عَوْجة رقبته" مع اختلاف كبير بطبيعة الحال بين الجمل والاحتلال، لصالح الاحتلال هذه المرة؛ لأن اعوجاجه أشد من اعوجاج رقبة الجمل، هذا الاعوجاج الدالّ على الهمجية والتكبر، لا على اعوجاج الخلقة الربانية الحكيمة، كما هي رقبة الجمل.

لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تقف فيها الشاعرة هذا الموقف الرهيب؛ إذ تتمركز فكرة العبور نحو الضفة الأخرى في قصيدة ثانية في الديوان ذاته "الليل والفرسان" بعنوان "رسالة إلى طفلين في الضفة الشرقية"، مهداة "إلى كرمة وعمر"، تقول في بدايتها:

يا كرمتي أود لو أطير

على جناح الشوق لو أطير

لكنّ تَوْقي يا صغيرتي مقيد أسير...

يعجزني يا كرمتي العبورْ

فالنهر يقطع الطريق بيننا

وهم هنا يرابطونْ

كلعنة سوداء هم هنا يرابطونْ

قد نسفوا الجسورْ

وحرَموني منك يا صغيرتي

وحرّموا العبورْ

وتعود الشاعرة في ديوان "تموز والشيء الآخر" إلى الموضوع نفسه، وإجراءات الاحتلال التعسفية عند المرور إلى الضفة الشرقية من نهر الأردن عبر الجسر في قصائد أخرى، مثل قصيدة "انتظار على الجسر" حيث تركز عدستها الشعرية هذه المرة على معنى الانتظار نفسه، وما يمثله من حالة نفسية استبطانية جوانية، تقول في واحدة من مقاطع القصيدة:

لياليَّ واقفةٌ، ضفة النهر عطشى

ونحن على الجسر- عيني وقلبي وأذني-

على الجسر نحن عطاشٌ عطاشْ

ولكنما الأردن اليوم يلجمه الليل، لا يتدفق-

لكنما الأردن اليوم ليس يغني

منابعه لا تدندن، آه، وعدْتَ تجيءْ

مجيئك دفق المياه وقوتها الدافعة.

وفي الديوان نفسه، تعود إلى الموضوع ذاته في قصيدة بعنوان "حكاية أخرى أمام شباك التصاريح" مذكرة بقصيدتها الأولى. لم يُسمح للشاعرة بالمرور هذه المرة، وعادت من حيث أتت، فقد جاءتها الأوامر صريحة مباشرة محملة بفظاظة عالية المستوى. في  هذه القصيدة يظهر صلف الجنديّ والضابط. (مع تحفظي الشديد على استخدام هذين الوصفين النظاميين بحقهما؛ الجندي والضابط، إنهما عنصران في فرقة إجرام منظم). تصف الشاعرة المشهد بقولها:

لم أزل أحتمل الإذلال والقهر وأصبرْ

صاح في حدته القصوى: (افهمي يا هذه ما قلت... هيا وارجعي من حيث أقبلتِ)

وأقصاني وأقصاني بعيداً وتوتَّرْ

فتراجعت بخطو يتعثرْ.

وعادت فدوى، ومنعت من المرور، وبقيت التهمة حاضرة، كما يفعلون اليوم مع تُهَمٍ أخرى؛ من قبيل "معاداة السامية"، وإنكار المحرقة اليهودية، فالمنطق هوَ هو لم يتغير، وهو نفسه موقف الأمريكان والمحتلين عموما الملخص بجملة مهمة: "كل من هو ليس معنا، فهو ضدنا". هذه هي المعادلة التي يتعامل فيها الصهاينة معنا، ومع العالم، حتى استطاعوا تكميم الأفواه وملاحقة الكتّاب والشعراء وتصفيتهم جسديا من أمثال غسان كنفاني وماجد أبو شرار وكمال ناصر وغيرهم الكثير من الفلسطينيين والعرب، عدا العلماء والقادة الذين تم اغتيالهم أو محاولة اغتيالهم.

هذا المنطق نفسه الذي تعاملوا به مع قصيدة فدوى طوقان، سيطبقونه في تعاملهم مع قصيدة "عابرون في كلام عابر" للشاعر محمود درويش فيسيئون القراءة والتفسير، والنتيجة مجموعة أوصاف مدّعاة يصفونه بها ويعممونها على الفلسطيني، متهمينه بتدمير كيانهم وقتلهم جميعا عن بكرة أبيهم، ونسوا أنهم في حينه، أيام انتفاضة الحجارة فعلوا بنا الأفاعيل، فقتلوا، وهجروا، وهدموا البيوت، وسجنوا آلاف الفلسطينيين، وأغلقوا المدارس، وحاربوا الكتاب والدفتر والأقلام والألوان، وحاربوا الفن والأغنية والنشيد، وحرّموا علينا الاستماع إلى إذاعات معينة، ثم أعادوا الكرة في انتفاضة الأقصى، وها هم يعودون إلى عادتهم التي تربّوا عليها، وكما قال المثل الفلسطيني: عادت حليمة لعادتها القديمة. مع أن هذا الكيان لم يترك عادته ليعود إليها. كأن هذا المثل لا ينطبق عليهم أيضا، فقد دمروا لي منطق الأمثال كما دمروا المنطق العام السليم، ولكن؛ أليس معهم حق؛ فهم محتلون، وسارقو بيوت وأرض وأعمار؟ أفلا يحق لهم تغيير المنطق أو اختراع المنطق الذي يريدونه ويتوقون إلى التلذذ بتسويقه؟

بلى، فمع الاحتلال يحق كل شيء إلا المنطق الحق فهو ممنوع أن يكون قانوناً يحكمهم ويتحكّم بأحكامهم وقراراتهم وإجراءاتهم التعسفية القمعية. ولو خالفوا ذلك لم يكونوا محتلين، ومن كانت هذه عاداته فلا يؤاخذ، ولا يُعاتب، وإنما يهمل، ويُسعى لمحاربته ومحاربة منطقه، وليس إلى حواره وإقناعه، فهذه لغة متطورة حضارية لا يعرفونها، ولا يتقنونها ولا يؤمنون بوجودها.