الإثنين  16 أيلول 2024

هكذا فاضت الدموع بعين الغزي قبل أن تنشف.. حوار مع الكاتب الفلسطيني يسري الغول

على هامش الحرب.. شيء مما يغيب عن عدسة الكاميرا ويلتقطه القلم

2024-08-01 05:30:32 AM
هكذا فاضت الدموع بعين الغزي قبل أن تنشف.. حوار مع الكاتب الفلسطيني يسري الغول
يسري الغول

تدوين- سوار عبد ربه

على هامش الإبادة المستمرة في قطاع غزة، أخذ الكتاب والفنانون الغزيون يسابقون الزمن لتوثيق تفاصيل ينظر إليها في التغطيات الإعلامية الكلاسيكية على أنها هامشية ولا تستحق أن تنال حصتها من التغطية والتحليل. فسدّ الأدب والفن مسد كل الفجوات التي عجزت عنها كبرى وسائل الإعلام وغاصا في تفاصيل وثنايا إنسانية ومجتمعية، لم يكن لأحد لم يعايشها أو أن يتخيلها.

واحد من بين الروائيين الذين عملوا على توثيق يومياتهم، والمعاش اليومي في غزة في ظل الحرب، كان الروائي والقاص الفلسطيني يسري الغول، إذ تحولت صفحته عبر "فيسبوك" إلى مساحة يعود إليها كل راغب في الاطلاع على مجريات الأحداث هناك بمعزل عن إحصاءات الشهداء والمباني المدمرة والمستشفيات المعطلة، وأعداد الجرحى.

أخذ يسري الغول يحدثنا عن الأطفال الذين يصطفون في طوابير كي يحصلوا على شربة ماء، وعن النساء اللواتي انتهكت أنوثتهن، وعن الآباء الذين قطعوا مسافات لتأمين لقمة لعائلتهم فدفعوا ثمنها فقدان آخر لحظات مع أبنائهم لأنهم عادوا وقد قصفتهم طائرات الحرب الصهيونية، ولا ينسى أن يعرج على آمال الطفل الغزي الذي سيكبر غدا ويصبح مهندسا ليعيد إعمار البيوت، وعن الزوجين الحالمين بساعة هادئة يستمعان فيها إلى الموسيقى ويرقصان، وعن أمنيات العائلة في الذهاب إلى البحر، وعن ألوان الطلاء التي سيختارونها لجدران منازلهم بعد إعادة ترميمها، وعن الزاوية التي سيعلقون عليها صور أقربائهم الذين استشهدوا في الحرب.

كما أن في منشورات الغول التي لم تنقطع طوال الأشهر العشرة الماضية، تدرج واضح لمراحل الخذلان التي مر بها الإنسان الغزي على مدار حرب الإبادة التي بدا العالم عاجزا أمام إيقافها.

ويسري الغول هو كاتب وأديب فلسطيني، من مواليد مخيم الشاطئ بغزة، صدرت له العديد من الأعمال القصصية والروائية. كما كتب يسري الغول العديد من المقالات حول الواقع الثقافي والسياسي الفلسطيني ونشر في العديد من الصحف والمجلات الدولية والعربية والمحلية.

التقت تدوين بالروائي والقاص الفلسطيني يسري الغول، وأجرت معه الحوار التالي:

تدوين: في منشوراتك كثير من اللوم والعتب، على من يعتب الغزي اليوم، وما جدوى العتاب بعد 10 أشهر من الإبادة؟

الغول: الإنسان في حالة استجداء دائم للإله في عليائه ولإخوة الدم والدين والقومية والثقافة، والإنسانية عموما، فنحن إن لم نكن إخوة في الدين، نحن إخوة في الإنسانية كما قال علي بن أبي طالب، وهو الشعار ذاته الذي تتبناه الأمم المتحدة وتضعه على بواباتها “.”Many Cultures, One Humanity

لذلك الغزي يلوم كل إنسان حر، وخصوصا أهله في الضفة الغربية الذين لا يحركون ساكنا، حتى عبر التظاهر وإعلاء الصوت، والاصطدام والالتحام مع الاحتلال، وأيضا على السلطة الفلسطينية التي لا تأبه للدم الفلسطيني، لأن بينها وبين تيار سياسي آخر خلافات.

تدوين: دعوت إلى شحذ الأقلام والأصوات والصور لنصرة الدماء، برأيك أي قيمة يملكها التدوين والتوثيق في زمن الحروب؟

الغول: مشكلة الإنسان العربي ومعظم الأنظمة العربية أنها لا تولي الثقافة اهتماما ولا تعطيها 1% من ميزانياتها، فهي لا تعلم أن الثقافة والأدب والكتابة والتوثيق هم الهوية، ناهيك عن أنه واجب على الإنسان الذي يطالب بحقه أن يوثق تاريخه وعالمه وظروفه.

أنا حتى هذه اللحظة أكتب يومياتي وأجهز لمجموعة قصص عن المقتلة التي تحدث في قطاع غزة، كي أكتب للتاريخ، فنحن حتى هذه اللحظة نقرأ لتلولستوي وكافكا وماركيز وغيرهم. فمن المهم جدا التركيز على الكتابة لأنها لا تموت، مثلها مثل الفن والموسيقى والسينما.

الكتابة هي الهوية ولا يمكن لإنسان لا يمتلك الهوية أن يعيش، كما أن مشكلتنا مع الاحتلال، أيضا على السردية.

ويجب أن نركز على حركة الترجمة، أين وزارة الثقافة الفلسطينية والسلطة الفلسطينية من تعزيز المقالة والقصة الفلسطينية، لا يوجد أي اهتمام، السلطة تشعر أن الثقافة تمثل عبئا عليها ونحن كفلسطينيين في غزة، نشعر أن الحكومة والسلطة الفلسطينية تشكلان عبئا علينا، وكذلك أين المؤسسات الدبلوماسية في الخارج لكي تقف مع الإنسان الفلسطيني.

حتى التلفزيون الفلسطيني لا يهتم للمقتلة التي تجري في غزة، وكذلك المثقف الفلسطيني الموجود في الضفة الغربية، لقد شغلت الإمبريالية العالمية المواطن العربي بمسؤوليات المعيشة وتكاليف العيش على حساب القضايا الاستراتيجية الكبرى للقومية العربية.

تدوين: نبهت إلى أهمية مخاطبة الغرب باللغة التي يفهمها أي إنسان بعيدا عن الأشلاء والدماء، وناديت إلى أنسنة القصص والمواقف، على ماذا يراهن الغزي اليوم عند مخاطباته للغرب؟ وكيف تؤنسن الدماء والأشلاء والجثث المتحللة والمقابر الجماعية وغيرها من المشاهد التي ترفضها عين الغربي؟

الغول: نعم، لا يجب أن نركز على القتل والدم فهناك قضايا أخرى كثيرة يجب أن نركز عليها، كالخيام والحر الشديد والحشرات القارصة، والعلاقات الجسدية، والاستحمام، والطعام الذي لا يتوفر له غاز للطهي، واحتياجات المرأة، التي فقدت أنوثتها خلال الحرب، وحرمت من الفوط الصحية والاهتمام بأناقتها، وأصبحت جائعة لا تجد الطعام، والطفل الذي انتهكت طفولته ولم يعد يذهب إلى المدرسة أو يشاهد الرسوم المتحركة، وأصبح يحمل عبوات المياه ويجمع الحطب ويشعل النار، أو يصاب ويموت.

يجب أن نقرع جدران الخزان كي يفهم العالم أننا بشر ونحب الحياة، ولدينا أحلامنا وآمالنا وطموحاتنا.

تدوين: النص الذي يكتب في لحظة مأساوية، صادق أم انفعالي؟

الغول: بالتأكيد النص الانفعالي هو نص صادق، لأنه يخرج من القلب ولذلك يصل مباشرة إلى قلب القارئ، فالنصوص التي تكتب في أوج الظروف والمعاناة تكتب بحرقة، وهو ما يدلل على مصداقيتها.

تدوين: فعل الكتابة بحد ذاته في حضرة الدم النازف، بوح أم هروب؟

الغول: لا يمكن أن يكون هروبا، ليس بالضرورة أن يحمل الإنسان السلاح كي يقاوم، فالقلم أيضا بندقية، ويجب أن نستثمر كل الأدوات التي بين أيدينا لتوثيق السردية الفلسطينية، حتى يفهم العالم أن الفلسطيني شأنه شأن الآخرين، يجب أن يحيا بآدمية وكرامة وإنسانية، ولهذا يجب أن نكتب القصائد والقصص، وأن تترجم أعمالنا إلى لغات عدة، فلا يعقل أن نبقى نتحدث لأنفسنا.

الكتابة شيء مقدس وبوح وتوثيق للتاريخ، أنا أكتب مذكراتي لكي تبقى امتدادا وأثرا لأولادي ومن بعدهم، وفي هذه الحرب كثير من نصوصي ترجمت إلى الإنجليزية ولغات أخرى بينها الهندية.

تدوين: تمنيت على الأنظمة العربية أن تتصدى لهجمات الاحتلال ومن ثم وصفت الأمة بأنها كالأنعام، ولاحقا أشدت بمواقف الجامعات الغربية وقلت عن العربية إنها هزيلة، وفي منشور آخر لك قلت بشكل صريح إن كل شخص قادر على الدفاع عن غزة ولم يفعل هو خائن، هذا التبيان بين ما هو مشتهى وما هو واقعي، كيف تدرج في نظرة الغزي إلى الصمت العربي، وهل وصل الغزي إلى أقصى مراحل الخذلان أم أن الأمل في صحوة عربية ما زال موجودا رغم غياب ما يبعث بالأمل؟

الغول: هذه الأمة العربية هي أمة ضعيفة وهزيلة، السردية العربية باتت تركز على قضايا هامشية ولم تعد تهتم بآلام وجراح المواطن العربي، لأنها تبحث عن جوائز ولم تعد تكتب ما يجول في خواطرها بل تكتب ما يرضي الحكام في الجوائز العريقة العربية.

لكن الشعوب العربية لن تظل تعيش حالة الخذلان والترهل، وكما جرت الثورات العربية سابقا وتم الانقضاض عليها بثورات مضادة ستعود من جديد وستسقط الأنظمة وسينهزم الزعماء المتواطئين مع الإمبريالية العالمية ضد شعوبها وعلى رأسهم السلطة الفلسطينية التي عملت على خصي المقاومة في الضفة الغربية.

في المقابل، "إسرائيل" كلما حاولت أن تصنع كيا لوعي الإنسان الفلسطيني في عدم المشاركة في الحرب أيضا تدفع ثمنا وكيا لوعي "الجمهور الإسرائيلي" الذي نزح من الشمال وذهب للوسط ليرهق الدولة. وهي الآن تنهار اقتصاديا ولكنها لا تشعر بالهزائم، وتدفع ثمن انقسامات داخلية كالتي تحدث بين المتطرفين وأهالي الأسرى وغيرهم. وهذه "الدولة" التي تقوم على الحرب الخاطفة سقط أمنها وسقط اقتصادها، وكل أموال أمريكا لن تستطيع أن تنجدها حيال هذا الانهيار العظيم.

تدوين: في منشور قريب قمت بمشاركته عبر صفحتك على فيسبوك استذكرت غزوة الخندق، وبشرت بتحرير قريب، ما الذي ألهمك في تلك الغزوة لتستحضره في الأحداث الحالية؟ وعلى ماذا استندت في أملك بنصر قريب، أهو من منطلق إيماني وعقائدي فقط أم أن الوقائع على الأرض تبشر بهذا؟

الغول: يجب أن نعمل العقل مع الإيمان بوجود الخوارق، لا يمكن إغفال الخوارق والتدخل الإلهي في كثير من القضايا، على سبيل المثال، أحيانا كثيرة تذهب الطائرة لضرب مكان فيه مقاومين، وتطلق الصاروخ لكنه لا ينفجر، وهذا ما يدلل أن حوادث كهذه تمر بمعية الله.

وأنا يقينا أقول إن من يقرأ التاريخ يستشرف المستقبل، وقراءة التاريخ تدل على أن أي احتلال حتى لو كان إحلاليا مثل "إسرائيل" هذه الدولة الوظيفية الموجودة في المنطقة لتعزيز سياسة الغرب والإمبريالية العالمية والنيوليبرالية، ستنتهي.

هناك خوارق وأحداث ستغير ملامح التاريخ، ولو نظرنا إلى السياسة الدولية، دول مثل روسيا وإيران وكوريا الشمالية والصين بدأت تبحث عن التوسع السياسي والتوسع الديموغرافي والامتدادات وتشكل أحلافا، ولم تعد أمريكا هي المهيمنة، وكما سقط الاتحاد السوفييتي يقينا ستسقط الولايات المتحدة الأمريكية وأتباعها.

ناهيك عن التأثير في الرأي العام العالمي الذي أوجدته الجامعات، فهؤلاء الطلبة سيصبحون في المستقبل صناع قرار ولن يبقى أحد في دفاع مستميت عن "إسرائيل".

هناك تغيرات، وستحدث تغيرات كونية، ولذلك أنا أؤمن بالوقائع المادية والعقدية.

أولو البأس الشديد هم شعب فلسطين وتحديدا شعب غزة، هذا الشعب الذي يخوض الحروب ويكافح من أجل الانتصار لمظلومية الشعب الفلسطيني بدليل أن أهالي الضفة الغربية والقدس عندما كان يحدث أي جلل كانوا يهتفون "مشان الله يا غزة يلا"، وكأن غزة هي صمام الأمان لكل القضية الفلسطينية وهي منبع الثورة وامتداد لأي ثورة.

لذلك لو قرأنا التاريخ جيدا سنجد أن كل من يدبر المعركة سيكون من غزة.

الظلم لن يظل مسيطرا على أي دولة، الدول كما الإنسان تبدأ صغيرة تحبو ثم تكبر ثم تراهق ثم تتمدد ثم تكبر ثم تشيخ ثم تنهار وتموت، فما بالك بدولة احتلال، لشعب يؤمن بحريته وعدالة قضيته.

تدوين: تحدثت عن أطفال وشباب مهتمين بالأدب والمطالعة التقيتهم أكثر من مرة وفي عدة أماكن، ماذا عنى لك هذا الاهتمام ككاتب، وأي ملاذ يبحث عنه أولئك الساعين إلى القراءة في القصص والروايات؟

أول مرة رأيت فيها فتاتين تقرآن في مركز إيواء جباليا قلت لهما "هذا أجمل مشهد رأيته منذ بداية الحرب"، جاءتني فتيات كن يحببن القراءة تحدثن معي أكثر من مرة من بينهن طفلة اسمها سمية هنية وكانت تحب أن تقرأ وأعطيتها أحد كتبي، وكانت دائما تتحدث معي في مركز الإيواء، للأسف تم اغتيال هذه الفتاة التي تحلم أن تصبح كاتبة، أليست هذه قصة إنسانية؟، نريد أن نقول للعالم إن أطفالنا يحلموا أن يصبحوا كتابا ومهندسين وأطباء.

تدوين: قلت في إحدى منشوراتك: "أريد أن أبكي" ما أكثر ما أبكاك؟

الغول: كل مشاهد هذا الدم تبكينا، تراكم الأحداث هو الذي أبكانا، الطفل التي تخرج يده خارج الركام، الطفل مشوه الوجه، المرأة التي تستجدي وتبحث عن ابنها الأب الذي يبحث عن أولاده بين الركام، لقد أبكانا كل ما يجري نحن نعيش مقتلة عظيمة، تراكم الأحزان جعلنا نبكي على كل شيء حتى اليوم تكلست الدموع ولم تعد تخرج من مآقيها، لأن الأحداث لا تتوقف وقد يكون الدور اللاحق علينا لدرجة أنه بتنا اليوم لا نهتم لما يجري في الشارع الخلفي.

تدوين: قلت إن "الحرب هي امتحان لإنسانيتنا.. للأسف، رسب كثيرون في هذا الامتحان المصيري"، برأيك ما الذي أدى إلى هذا الرسوب؟

الغول: أثبت الجميع فشله حتى مؤسسات حقوق الإنسان ومؤسسات حق الطفل والمرأة والقانون الدولي، أين العالم الذي يبصر كل هذا الدمار من إيقاف الحرب على غزة؟ ما زال يقول لا نعرف إن كانت "إسرائيل" ارتكبت إبادة جماعية أو انتهكت حقوق الإنسان.

أنا على يقين أن العالم سيدفع ثمن دمنا، وستأتي لحظة فارقة حتى على الفلسطينيين في الضفة الغربية، لأن الصمت عند المواقف الأخلاقية ليس نصرة للباطل إنما خذلان للحق ومن يخذل الحق سيدفع الثمن.

وكذلك الأنظمة العربية، التي لا تأبه بالدم الفلسطيني وترسل له الأكفان وتقيم المهرجانات ستدفع الثمن.

 كان من الأولى على الأنظمة العربية أن تحافظ على وجودها بدعم الأبرياء والأحرار وليس التستر في أمريكا، فالمتستمر في أمريكا عريان.

تدوين: لو كنت لتضيف قصة جديدة إلى المجموعة القصصية "الموتى يبعثون في غزة" التي تناولت فيها 3 حروب على القطاع، أي قصة ستختار من الحرب الحالية؟

الغول: كتبت في هذه المقتلة قصصا عما جرى معي عندما كنت أذهب بين الركام والدبابات لكي أبحث عن علبة فول ثمنها "شيقل"، وكيف كنا نسير في طريق الموت لشراء الطحين.

كنت أتساءل وأنا في طريقي والطائرات من حولي تطلق النار علينا، بأي منطق وعقل أذهب إلى الموت كي أشتري شيئا ثمنه "شيقل"، وأي جريمة حصلت للإنسان الفلسطيني؟.

تدوين: طرحت سؤالا عن "كيف للذاكرة أن تتسع لكل هذا الدمار"، سأعيد عليك سؤالك بطريقة أخرى، هل للذاكرة أن تصدأ بعد كل هذا الدمار؟

الغول: لا يمكن للذاكرة أن تصدأ، هؤلاء الأطفال الذين نشأوا وترعرعوا بين الصواريخ وبين الركام وعانوا الأمرين، هم جيل التحرير وجيل النصر أمام الجيل المتخاذل والمتخلف.

لا يمكن لهذا الجيل أن ينهزم، نحن أمام جيل قادم أكثر شراسة وجنونا وتوحشا تجاه العدو الإسرائيلي الذين لن يكون أمامه سوى الهرب أو الموت.