تدوين- آراء ومدونات
أحداث 7 أكتوبر 2023، ما تلاها من مجريات وتطورات، لا سيما الحرب التي اندلعت على إثرها في غزة كشفت عن السطحية التي يتمتع بها الكثير من الناس في فهم إسرائيل. وقد برزت هذه السطحية بشكل واضح في بعض التحليلات التي قُدِّمت، حيث تبين أن الكثير ممن يُوسَمون بالمحللين والخبراء في الشأن الإسرائيلي هم في الواقع مجرد مترجمين، يعملون على إعادة تدوير الأخبار والمقالات من اللغة العبرية إلى العربية بطريقتهم.
هذا النقص في الفهم العميق يؤدي إلى رؤى وتحليلات غير مكتملة، مما يضفي طابعًا سطحيًا على النقاشات الدائرة حول إسرائيل والصراع الإسرائيلي - الفلسطيني. في هذا السياق، من المهم إعادة النظر في كيفية بناء معرفتنا وفهمنا لهذا المجتمع المعقد، تتيح لنا رؤية أكثر شمولية وواقعية.
إذن، تعد المعرفة التي نبنيها عن إسرائيل قاصرة وغير مكتملة. هذا القصور يدخلنا في متاهات المجتمع الإسرائيلي وتقسيماته، ويدفعنا للانحياز إلى بعض الجوانب واتخاذ مواقف كأننا جزء من ذلك المجتمع الاستعماري. لبناء صورة أكثر شمولية ودقة عن إسرائيل، يجب علينا فهم المصادر المختلفة التي تشكل معرفتنا. في هذا المقال، سنستعرض المصادر الرئيسية التي نستخدمها عادة لبناء معرفتنا بإسرائيل، ونتناول التحديات المرتبطة بكل منها.
الإعلام: توجه مقصود
يعد الإعلام من أبرز المصادر التي يعتمد عليها الكثيرون لفهم المجتمع الإسرائيلي. ومع ذلك، تواجهنا مشكلة كبيرة في هذا السياق، وهي أن الإعلام غالبًا ما يكون مقصودًا وموجهًا. فالإعلام الدولي والمحلي على حد سواء قد يحمل أجندات معينة، مما يؤثر على طبيعة المعلومات التي يتم نقلها للمشاهدين والقراء. هذا التوجه الموجه للإعلام يؤدي إلى تشكيل صورة جزئية ومتحيزة عن الواقع الإسرائيلي.
تغطية الأحداث السياسية والأمنية في إسرائيل غالبًا ما تكون مشوهة أو مبالغ فيها، مما يؤثر على فهمنا للواقع اليومي للمجتمع الإسرائيلي. يمكن للإعلام أيضًا أن يتجاهل أو يبالغ في إبراز جوانب معينة من الحياة الإسرائيلية. على سبيل المثال، التغطية الإعلامية للصراع الإسرائيلي - الفلسطيني تختلف بشكل كبير بين وسائل الإعلام المختلفة، حيث تركز بعض القنوات على الجانب الأمني لإسرائيل بينما تتجاهل معاناة الفلسطينيين. هذه الانتقائية في التغطية تخلق صورة مشوهة وغير كاملة للواقع على الأرض، مما يجعل من الصعب بناء فهم شامل ودقيق.
الكتب المترجمة: انتقائية الصورة
تعتبر الكتب المترجمة من الوسائل الجيدة لتوسيع المعرفة بإسرائيل، حيث تتيح لنا الوصول إلى أفكار وآراء كتّاب ومفكرين إسرائيليين. الترجمة بحد ذاتها خطوة إيجابية نحو فهم أعمق، لكنها ليست كافية. ومع ذلك، فإن عملية الترجمة نفسها تتسم بالانتقائية، حيث لا يتم ترجمة جميع الأعمال بل يتم اختيار بعضها وفقًا لاهتمامات معينة أو توجهات سياسية محددة.
هناك تحدي في اختيار الكتب التي تعكس الصورة الحقيقية والشاملة للمجتمع الإسرائيلي. العديد من الكتب تترجم بناءً على كاتبها أو توجهها السياسي، مما قد يؤدي إلى تقديم صورة محدودة عن الواقع. لتحقيق فهم أعمق، يجب تنويع المصادر والبحث عن الكتب التي تقدم وجهات نظر متعددة وشاملة.
آراء الكتاب (ما بعد الصهيونية): شريحة صغيرة
آراء الكتاب المعادين للصهيونية، أو ما يعرفون بـ"ما بعد الصهيونية"، تقدم وجهة نظر نقدية عن إسرائيل. هؤلاء الكتاب يعبرون عن رؤية مختلفة عن السائد، لكنهم يمثلون شريحة صغيرة من المجتمع الإسرائيلي. على الرغم من أهمية هذه الآراء في تقديم منظور نقدي، إلا أنها لا تعكس جميع شرائح المجتمع الإسرائيلي.
هذه المجموعة من الكتاب غالبًا ما تركز على نقد السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين والسياسات الداخلية التي يرونها تمييزية. وعلى الرغم من أهمية هذه النقدات، إلا أنها قد تجعلنا نتجاهل الجوانب الأخرى من المجتمع الإسرائيلي، مثل التحديات الاقتصادية، والتنوع الثقافي، والنقاشات السياسية الداخلية التي لا تتعلق بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
الاعتماد بشكل كبير على آراء هذه الشريحة يمكن أن يؤدي إلى فهم منحاز وغير متوازن. من الضروري التوازن بين هذه الآراء والنظرة الأشمل للمجتمع الإسرائيلي، والتي تتضمن مختلف التوجهات السياسية والاجتماعية والثقافية.
لمعرفة سليمة وعميقة
لبناء معرفة سليمة وعميقة بإسرائيل، من الضروري تحقيق عدة شروط أساسية. أحد هذه الشروط هو تعلم اللغة العبرية، لأنها تمثل المفتاح للفهم والقراءة النقدية التجريدية للنقاشات والمواضيع التي تطرح داخل المجتمع الإسرائيلي، والعودة إلى السياق التاريخي الذي نبعت منه، بل لربما يحتاج الباحث إلى الاستعانة بالضالعين باللغات الروسية، الألمانية، واليديش (العبرية القديمة) لدراسة النصوص اليهودية والصهيونية الأولى. من الجدير ذكره ، أن إسرائيل تشتهر بكثافة إنتاجها المعرفي، مما يجعل الوصول إلى المعلومات الأصلية باللغة العبرية ضروريًا لتفادي التفسيرات المحدودة والانتقائية التي قد تأتي مع الترجمات.
بالإضافة إلى ذلك، من الضروري التخصص في أحد الحقول المتعددة، مثل الاقتصاد والسياسة والإعلام، لفهم الديناميات الداخلية والتحولات الاجتماعية في إسرائيل بشكل أعمق. التخصص يساعد على فهم السياق والتفاصيل الدقيقة التي قد تفقد أو تغفل في المعالجات السطحية، وبالتالي يسهم في تحليلات رصينة أكثر عمقًا ودقة للوضع الإسرائيلي.
هل الصحفي أو المحلل الإسرائيلي أذكى وأقدر من الفلسطيني؟
بالطبع، فإن الإجابة عن هذا السؤال ليست ببساطة نعم أو لا. فالذكاء ليس العامل الوحيد الذي يحدد قدرة الصحفي أو المحلل على تقديم تحليلات دقيقة وفعّالة.
كذلك، الإمكانيات والوسائل والمصادر المتاحة تختلف بشكل كبير بين الصحافة الإسرائيلية والفلسطينية، فالصحافي الاسرائيلي يمكنه الحصول على معلومات اكثر وأوسع كون النظام السياسي إلى حد ما غير مؤسس وفق مبدأ "النادي المغلق" بشكل تام.
هذا التفاوت له تأثير كبير على مستوى التحليل ونوعية المعلومات التي تُنشر، كما لا يجب غض الطرف عن التماهي في الرواية الرسمية والترويج لها في اوقات معينة.
فيما يخص الإعلام الإسرائيلي، يمكن تصنيف المعلومات المتعلقة بالشأن الفلسطيني إلى عدة أنواع رئيسية، والتي تسهم في تشكيل الصورة الكلية للمسألة:
- "طرف الجليد": هي المعلومات التي تُقدم من خلال الأخبار والمقالات حول حقائق معينة ولكن دون الكشف الكامل عنها. تُستخدم هذه الطريقة لإضفاء مصداقية الإعلام الإسرائيلي كما حفر في الوعي العربي النمطي، دون تقديم الصورة الكاملة.
- "استنطاق المعلومة": وهي الأخبار التي تُنشر بهدف الحصول على معلومات أوسع وأكبر حول مسألة محددة، وغالباً ما تتعلق بالشؤون الأمنية. تُستخدم هذه الطريقة لجمع بيانات أو مراقبة رد فعل الطرف الآخر في قضايا متعلقة بالاستراتيجيات الأمنية.
- "معلومات التهيئة": يتم نشر هذه المعلومات لتهيئة المجتمع الإسرائيلي حول قضية سياسية معينة - تتعلق بالفلسطينيين-، وقياس المزاج العام قبيل اتخاذ خطوات أو قرارات مهمة. تساهم هذه المعلومات في توجيه الرأي العام وتجهيزه لمواقف أو تحركات مستقبلية.
- "معلومات الكي": تستهدف هذه المعلومات الفلسطينيين بشكل مباشر، وتُستخدم لبلورة فكرة آنية أو مستقبلية حول قضية معينة، وتثبيتها على أرض الواقع. قد يكون الهدف منها التأثير على الرأي العام الفلسطيني بشكل مباشر.
- "معلومات الصدمة": تنشر هذه المعلومات بشكل مقصود عن الفصائل الفلسطينية وتتسم بالمبالغة والتضخيم. بعد فترة، قد يتبين أن الواقع يختلف عن الصورة المبالغ فيها، مما يخلق صدمة لدى المتلقي الفلسطيني.
الخاتمة
بناء معرفة دقيقة وشاملة عن إسرائيل يتطلب منا تجاوز الصورة القاصرة التي تقدمها وسائل الإعلام، والكتب المترجمة، وآراء الكتاب المعادين للصهيونية فقط. يجب علينا السعي للحصول على معلومات من مصادر متعددة ومتنوعة، وتحليلها بعناية لتكوين صورة أكثر توازنًا وواقعية. إضافة إلى تعلم اللغة العبرية والتخصص في الحقول المختلفة كعلم الاجتماع وتاريخ الحروب والثروات يمثلان أسساً حاسمة لبناء معرفة شاملة وسليمة. بهذا الشكل، يمكننا فهم المجتمع الإسرائيلي بكل تعقيداته وتجنب الانحيازات التي تؤدي إلى تحليلات غير مكتملة.