تدوين- سوار عبد ربه
"كنت أتمنى أن أقصف أنا، ويبقى متحفي"، بهذه الكلمات عبر جامع الآثار رمضان البربراوي من قطاع غزة، عن فداحة الخسارة التي ألحقتها آلة الحرب الصهيونية بمتحفه الخاص، الذي قضى سنوات عديدة في تجميع مقتنياته الأثرية والنادرة. إذ أصبح المتحف الآن حطاما، وجُرِّدت محتوياته القيمة، بفعل القصف والسرقة. هذا الدمار المتزامن مع إبادة جماعية تُرتكب بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، ينذر بخطر آخر يتمثل في حرب موازية تستهدف الهوية الفلسطينية، عبر تدمير المباني الأثرية والمؤسسات الثقافية بما تحويه من محتويات تاريخية ثمينة.
يقول البربراوي في لقاء خاص مع "تدوين"، إنه "قبل اندلاع الحرب، كنت أمتلك متحفا خاصا يضم مجموعة غنية من المنحوتات والآثار التي تعود لآلاف السنين، بالإضافة إلى مجلدات ووثائق تاريخية ونحاسيات وخناجر وسيوف قديمة. تعرض المتحف أثناء الحرب للحرق والنهب، مما أدى إلى فقدان محتوياته بالكامل، وعند عودتي بعد النزوح، وجدت المكان مدمرا تماما".
قضى الفنان التشكيلي خمسة عشر عاما من حياته في إنشاء متحفه الخاص، مستثمراً كل ميزانيته المالية لتحقيق هذا الحلم. يقول: "كنت أملك قطعة أرض، فبعتها، بالإضافة إلى منازل أخرى لأبنائي، لأتمكن من تأسيس المتحف، تعبيرا عن غيرتي على فلسطين وهويتها وإرثها الثقافي".
ضم المتحف، الذي فقد 95% من مقتنياته نتيجة القصف والسرقة، 250 نيزكًا حقيقيًا وصخورًا تحمل رسومات أثرية تعود لآلاف السنين، بشهادة خبراء دوليين عبروا عن دهشتهم من كيفية الحصول على تلك القطع، وفقا للبربراوي.
محو ثقافي متعمد
وتشير التقارير إلى أن قصف الاحتلال المكثف والمستمر منذ تشرين الأول 2023، دمر أكثر من 200 موقع أثري في قطاع غزة، من أصل 325 موقعا مسجلا في المنطقة. كما شملت آثار الحرب الإسرائيلية تدمير العديد من المعالم الثقافية والتاريخية، بما في ذلك المساجد والكنائس التاريخية والمقامات والتلال الأثرية، بالإضافة إلى المباني التاريخية والمكتبات والأسواق والمقابر والمدارس والمتاحف والقلاع والقصور والمنازل الأثرية. كما طالت الأضرار مؤسسات ومراكز تعليمية وثقافية.
إضافة إلى إحراق 17 متحفا تحتوي على قطع أثرية قيمة. وفي هذا الجانب يُشير جامع الآثار إلى أن هذا الاستهداف ليس عشوائيا، بل هو جزء من استراتيجية متعمدة تستهدف المتاحف والمواقع الأثرية.
وبحسب البربراوي، تشير الأدلة إلى أن الاحتلال استخدم مواد خاصة لصهر النحاس والحديد والحجر والأسقف، مما يعكس طبيعة العمليات التي جرت، إذ لا يمكن اعتبارها عابرة أو نتيجة قصف عادي.
ويضيف: تتجاوز آثار القصف مجرد المباني، إذ تهدف العمليات العسكرية إلى محو الهوية الثقافية للشعب الفلسطيني. في هذا السياق، يمكن اعتبار تدمير المتحف بمثابة اعتداء على الذاكرة الجماعية للشعب الفلسطيني. فالآثار ليست مجرد قطع أثرية، بل هي تجسيد لتاريخ وثقافة وحضارة أمة. وعندما يتم تدمير هذه الآثار، فإن ذلك يعني تفكيك الهوية الثقافية وتقويض الروابط التي تربط الفلسطينيين بتاريخهم.
وفي بيان صدر عن المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة وصف القصف بأنه "محاولة فاشلة لطمس الوجود الثقافي والتراثي الفلسطيني ومحاولة لدثر الشواهد التاريخية والعمق التاريخي الفلسطيني". واعتبر المكتب الإعلامي الحكومي، أن "استهداف وتدمير المواقع التراثية والأثرية في قطاع غزة يعدُّ جريمة دولية واضحة وفقاً للقوانين الدولية، وخاصة القانون الدولي الإنساني، واتفاقية لاهاي عام 1954، بشأن حماية الممتلكات الثقافية في حالة النزاع المسلح، والبروتوكول الثاني للاتفاقية لعام 1999، الذي يحظر الاستهداف المتعمد في الظروف كافة للمواقع الثقافية والدينية".
شغف متواصل
أمام الدمار الذي حل بمتحفه، وقف البربراوي عازما على مواصلة شغفه بالنحت، رغم قلة الإمكانيات وانقطاع الكهرباء، فضلا عن انعدام الأدوات اللازمة لممارسة مهنته التي سرق بعضها، ودمر بعضها الآخر، كجهاز النحت الذي كان يستخدمه لإتمام أعماله.
وفي هذا الجانب، أوضح جامع الآثار: "على الرغم من قلة الموارد وانقطاع الكهرباء، أواصل ممارسة النحت على الصخور باستخدام أدوات بدائية. أعمل على إنشاء منحوتات ولوحات صخرية تعكس التراث الفلسطيني، مثل المساجد والكنائس والقلاع".
وأضاف: الظروف الراهنة أسهمت في صعوبة العمل، مما أثر سلبا على قدرتي على الإنجاز مقارنة بالفترة السابقة. ففي الماضي، كنت أستطيع إنجاز لوحة خلال شهر، بينما خلال الحرب استغرقت في إنجاز لوحة واحدة أربعة أشهر".
وخلال فترة الحرب، عمل الفنان على نحت لوحة تعبر عن المباني الكنعانية التي تعود إلى ما بين 7-10 آلاف عام، الموجودة في جبال أريحا، وقد استغرقت هذه اللوحة حوالي أربعة أشهر لإنجازها. كما أنجز لوحة أخرى تحتوي على معالم أثرية في الداخل المحتل والقدس، بما في ذلك قبة الصخرة والمسجد الأقصى وسور القدس.
بالإضافة إلى ذلك، قام بإنتاج أعمال أخرى تجسد واقع غزة الحالي من خلال تصوير الخيام والطائرات والإسعافات والسيارات وعربات نقل المياه، مما يعكس تفاصيل الحياة اليومية في غزة.
وبحسب الفنان: "تهدف هذه المشاريع إلى أن تكون ذخيرة للأحفاد والأجيال القادمة، لتعزيز فهمهم لما حدث في قطاع غزة وما تمثله الخيام وكل ما يتعلق بالحرب".
إحياء الآثار المدمرة عبر النحت
أما في جانب ما يتعلق بالآثار المدمرة في غزة خلال الحرب، فقد عمد الفنان إلى إعادة إحيائها عبر نحتها على الصخور، ومن بين أبرز أعماله في الفترة الماضية: قلعة برقوق، التي تقع في مدينة خان يونس في قطاع غزة وتعرضت لدمار كبير، وكانت قد شيدت بالقرن الرابع عشر في عهد السلطان المملوكي برقوق مؤسس دولة المماليك البرجية، وكانت تعد حصنا للتجار المتنقلين بين القاهرة ودمشق.
بالإضافة إلى المسجد العمري وهو من أقدم المساجد وأعرقها في قطاع غزة، والذي أسس في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، ودمرت أجزاء منه في حرب عام 2014. وتعرض لقصف بطائرات الاحتلال الإسرائيلي يوم الثامن من كانون الأول 2023، أدى إلى تدميره بشكل شبه كلي.
قطع ناجية
ومن بين القطع النادرة التي نجت من الدمار، تبرز بندقية عثمانية فريدة لا مثيل لها في العالم، مصنوعة من خشب الأبنوس، ومزخرفة بالفسيفساء والخزف والفضة، وفقا لصاحبها.
وحول كيفية نجاة هذه القطعة، أوضح البربراوي أنه: خلال فترات النزوح القسري، حملت هذه القطعة القيمة، مع مجموعة من المقتنيات الأخرى، كنت حريصا على الحفاظ على هذه العناصر، إذ نُزحت معي هذه البندقية وغيرها من الأشياء التي تحمل قيما عاطفية وتاريخية، ذلك أن هذه القطع ليست مجرد أشياء مادية، بل هي تمثيل للتاريخ، والثقافة، والذاكرة، تعكس قصص الأجيال الماضية، وتعزز من الروابط بين الحاضر والماضي.
5000 منشأة دمرت على مدار عام
وفي تقرير صدر عن الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني بالتعاون مع وزارة السياحة والآثار الفلسطينية، بمناسبة اليوم العالمي للسياحة الذي يصادف 27 أيلول من كل عام، تبين أن التدمير الممنهج للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة قد تسبب في تدمير معظم المنشآت السياحية بصورة كلية أو جزئية، حيث دمر الاحتلال الإسرائيلي ما يقارب 5000 منشأة تعمل في نشاط السياحة، بينها مواقع أثرية.
ومن بين أبرز المواقع التي دمرها جيش الاحتلال خلال الحرب الحالية، كنيسة جباليا البيزنطية، والمسجد العمري في جباليا، ومسجد الشيخ شعبان، ومسجد الظفر دمري في الشجاعية، ومقام الخضر في دير البلح، وموقع البلاخية (ميناء أنثيدون) شمال غرب مدينة غزة القديمة، ومسجد خليل الرحمن في منطقة عبسان في خان يونس، ومركز المخطوطات والوثائق القديمة في مدينة غزة، وغيرها من المواقع الأثرية والتراثية المهمة.
كما واستهدف الاحتلال، وفق بيانات صادرة عن المكتب الحكومي في قطاع غزة، كنيسة القديس برفيريوس في حي الزيتون، وبيت السقا الأثري في الشجاعية، وتل المنطار في مدينة غزة، وتل السكن جنوب المدينة، و"تل 86" في القرارة، ومسجد السيد هاشم في المدينة.