تدوين- جاد عزت الغزاوي
ملخّص:
في هذه المقالة اقترح مناقشة الفيديو آرت الخاص بالفنانة منى حاطوم (قياسات الزمن 1988م)، بوصفه عملا فنيا (ما بعد حداثي) يقوم على فكرة التجميع والتركيب مستخدما الصوت والصورة في سياق ديناميكي مؤثّر، وسيتم تناول عمل الفنانة منى حاطوم كنموذج يُعبّر عن الفن الفلسطيني في المنفى كحالة وجودية تتمفصل حول تداعيات الجغرافيا السياسية وأثرها على بناء الشخصية وتعقيداتها في إطارٍ من التبادلية الثقافية مع الغرب، وما رافق ذلك من تأثّر بالحركات المضادة للتيارات التقليدية التي بدأت بالانتشار في الستينات والسبعينات من القرن الماضي.
1
لم يخضع الفن الفلسطيني لتصنيفاتٍ مستقرّة وفق تلك المُتعارف عليها لدى المجتمعات الآمنة والهادئة، بل إنه جاء في سياق مُجتمعيّ مشتت لشعبٍ يعيش تحت ظِلال نكبة مستمرة، ما أدى إلى ظهور مفاهيم جديدة مُفَسّرة لاستمرار الحالة الفلسطينية تلك، إذ نشأت المفارقة في المصطلح الذي نحته أدوارد سعيد "تماسك التّشتت" وما ترتبت عنه من آثار طالت مختلف جوانب حياة الشعب الفلسطيني لا سيّما الثقافي (هون، 2020، صفحة 5)، وهذا ما يفسّر الحس المشترك لدى الفنانين الفلسطينيين في تعبيرهم عن الحنين المتجذّر في نفوسهم، إذ من الملاحظ أن أعمال الفنانين التشكيليين قد اتبعت منهجاً يقوم على استدعاء الماضي ومحاولة ربطه بالحاضر، إذ نجد أن كل مبدع قد حاول التعبير عن آلامه التي تعرّض لها بفعل الشتات، فهناك من استحضر الحيّز المفقود، ومنهم من عاد إلى مشاعره المتداعية في استذكار لدفء الأجواء التي كان ينعم بها مع قريب أو حبيب، وهناك من استدعى أحلاماً كان يحلم بها، باتت ضائعة. (بلاطة، 2000).
أعمال الفنانين التشكيليين قد اتبعت منهجاً يقوم على استدعاء الماضي ومحاولة ربطه بالحاضر
الانقطاع الذي تسببت به النّكبة –رغم قسوته- جعل من المبدع الفلسطيني أكثر قدرة على الانخراط والتعرف على تجارب فنية جديدة في أماكن تواجده المختلفة نتيجة اللجوء والاغتراب. "فعلى عتبات العاصمة اللبنانية التي كان قد لجأ إليها جموع غفيرة من المقتلعين الفلسطينيين انطلقت أولى المواهب التي نقلت إلى العالم الفني صوراً من التجربة الفلسطينية" (بلاطة، 2000، صفحة 102).
في سنوات الستينات والسبعينات من القرن الماضي كان العالم منخرطاً في تحوّلات جذرية طالت ميادين مختلفة سياسية، ثقافية واجتماعية أسطُلِحَ على تسميتها بـــ "ما بعد الحداثة"، ما أدى إلى ظهور حركات ثقافية شبابية مضادة في مواجهة التيارات التقليدية، وقد رافق ذلك تعميق الوعي في القضايا النسوية، ولعل ذلك ألقى بظلاله على "تشكيل الإطار المعرفي الكامن وراء النظام العالمي الجديد، حيث تتفكك علاقة الدال بالمدلول وينزلق فيه الإنسان من الخصوصية الإنسانية والتاريخية إلى عالم المادة والجسد" (غيث، 2011، صفحة 447)، إن انتشار أفكار ومفاهيم ما بعد الحداثة كان مُصاحباً للتقدّم التكنولوجي، "ما جعل الفنان الحديث يعبّر عن ذاته بأسلوب خاص وطرق معالجة جديدة للمنتج الفني، ليصبح بذلك انعكاسا حقيقياً وشاهد عيان لمعطيات العصر" (ريس، 2019، صفحة 428)، في خضم ذلك كانت الفنانة حاطوم تشق طريقها في عالم الفن من أوسع أبوابه مستندة إلى الظروف التي أحاطت بها بداية حياتها الفنية حيث تأثرت بمعطيات ما بعد الحداثة.
تهدف هذه المقالة البحثية إلى تسليط الضوء، على تمثّلات الجسد في أعمال الفنانة منى حاطوم ، من خلال الفيديو كوسيط فني بصري، وستتضمن عملاً فنيّاً أنتجته الفنانة خلال السنوات الأولى من تواجدها في المنفى (ثمانينات القرن الماضي)، إذ يثار التساؤل حول قدرة العمل التركيبي عند منى حاطوم، المتمثّل بواسطة الفيديو، على الانخراط في عملية التعبير البصري باستدعاء الماضي؟
2
لقد بلورت منى حاطوم في عملها الفني (قياسات الزّمن 1988م ) أسلوب التجميع باستخدام المواد المتوفّرة، "وهذه تعتبر من أهم التطورات في ما بعد الحداثة المنطوية على دمج كل من العمل البسيط والمفاهيمي" (Crowther, 2019, p. 41)، ينبغي هنا أن نشير إلى العناصر التي استخدمتها منى حاطوم حيث إنها متحرّكة عبر الزمن، وهي بذلك قامت بعملية توظيف قصدية لتلك العناصر كي تُحوّلها إلى أدوات للتعبير عما تُريد، فحاطوم سلكت طريقاً أرادت من خلاله جعل المتلقي متورّطاً في عملية التركيز حتى نهاية "الفيديو".
إن فكرة العمل (قياسات الزّمن 1988م) تقوم على مرتكزات عدّة، من ضمنها استخدام التقنيات الحديثة في ذلك الوقت من ثمانينات القرن الماضي، حيث يتمفصل المحتوى حول عملية التمثيل القائمة على وعي بطبيعة المشاعر التي تحاول الفنانة أن تعبّر عنها عبر تقنية الفيديو، ولعلّنا ندرك إشكالية التعبير بتعقيداتها الإنسانية المحفوفة بالمآزق والضغوط التي يُعانيها الفلسطيني في المنفى، فثمة خطاب أنثروبولوجي يتمحور هنا، تحاول حاطوم من خلاله بناء نموذج حديث لنقل شكل من أشكال المعاناة الذاتية التي تسببت بها النكبة وما تبعها من تداعيات، فنجدها تقوم عبر دمج غامض لطبقات الصوت وحركة الكلمات المنتشرة أن تعطي معنى خاصّا وصادماً للجسد الأنثوي في حالة من التمرّد المعتدل على التيارات التقليدية العربية إذ بدا واضحاً تأثر الفنانة بالحركات ما بعد الحداثية، مستخدمة تلك الأفكار لتوظيفها في نقل مشاعر الحرمان والفقد لتلك الأجواء الدافئة في بيتها مع أمها قبل أن تفترق عنها، إن ذلك الحنين الذي يَسكنها بات محرّكاً أساسيّاً لإنتاج العمل.
محتويات الفيديو، أصبحت بفعل موضوعها عبارة عن أدوات تستند إلى التقنية الحديثة، إذ أصبح الصوت يؤدي غرضاً محدّدا في العمل الفني وكذلك الصورة التي استخدمتها حاطوم والكلمات التي غطّتها، تلك عبارة عن دعائم قليلة وبسيطة أمام عدسة "الكاميرا" التي تبحث دون كلل عن تضاريس جسد يخصُّ والدتها، إلا أن المثير للانتباه هو كيف استطاعت الفنانة ان تُشيع الإحساس بالتناقض لدى المتلقي، فضحكات حاطوم وأمها وما رافقها من كلمات باللغة العربية كانت بين الحين والآخر تخفت أمام صوت منفرد لحاطوم باللغة الإنجليزية متّشح بحزن عميق يعبّر عما جاء في رسائل أمها المليئة بالعاطفة. صوت حاطوم باللغة الإنجليزية هو تفكيك للكلمات المكتوبة التي وضعت كحجاب على جسد أمها. كأن الأحرف تعبر عن أنواع القيود والحجب والتقطيع والفصل القسري، الكلمات هنا تُحدد الأمكنة وتفصل فيما بينها في آن واحد، والكلمات هنا شكّلت غطاء شفافا يقوّض الملامح الإيحائية لجسد الأم، ذلك يُحيلُنا دون أن نشعر إلى تعقيدات الحالة الفلسطينية وتشابكاتها لتنتقل عبرها الذبذبات السمعية وما يُرافقها من بناء بصري بديناميكية ملفتة على أكثر من مستوى.
إن تقنية حاطوم تعمل على خلق أجواء مواتية لحالة من الولادة، توليد العاطفة لدى المتلقي عبر خلق صيغة لتفسير كل تلك الارتباطات ما بين الجسد واللغة والوسيلة الفنية وتأثيراتها، هذا الغموض يزعزع الاستقرار اليومي ويُدخل المتلقي في حالة من القلق بسبب التحوّلات والانزياحات التي خلقتها الفنانة في ضوء رغباتها الوجدانية تعبيراً عن المنفى وما يحتويه من حنين. العمل هنا يعبر عن سيرة ذاتية في إطار من التبادل الثقافي الواضح من خلال تضمين النص باللغة الإنجليزية، والغموض ساعد حاطوم على توجيه العمل إلى شريحة واسعة من المتلقين في تعزيز لنوع من العالمية في تناغم منسجم مع موضوعات المنفى.
هذا الغموض يزعزع الاستقرار اليومي ويُدخل المتلقي في حالة من القلق بسبب التحوّلات والانزياحات التي خلقتها الفنانة في ضوء رغباتها الوجدانية
إن عمل حاطوم يستعرض علاقتها مع والدتها قبل وبعد حدث الافتراق وتنامي شعور الفقد والخسارة الناجمين عن الحرب، وما كان لها أن تقدّم هذا العمل لولا احتفاظها بالتسجيلات الصوتية واللقطات التي أخذتها لأمها وهي تستحم، إنها جزء من الماضي يتم توظيفها للتعبير عن المشاعر الحزينة الحالية، ونبرة الصوت التي أضافتها حاطوم كفعل حاضر هي تعبير واضح عن صراعاتها الداخلية وخاصة أنها تحدثت باللغة الإنجليزية، إن استخدام الفيديو في هذا السياق مكن الفنانة من استحضار الماضي وتوظيفه لخدمة الحاضر، والفيديو هنا أداة سهلة الاستخدام ومنخفضة التكلفة وتكتسب مرونة عالية مكّنتها من الانتقال عبر الأزمنة والأمكنة برشاقة وحرفية.
الحواجز النفسية التي يخلقها المنفى، عبرت عنها حاطوم بالكلمات التي وضعت كغطاء على جسد أُمها، لتتمظهر على هيئة أسلاك شائكة – كما وصفها الكثيرون – إلا أنها أسلاك مجازية انتقلت إلينا لتُعيدنا إلى تجاربنا الذاتية.
3
إن عمل منى حاطوم (قياسات الزمن 1988م) لاقى اهتماماً كبيراً لدى النقاد والباحثين الأجانب والعرب، فرغم بساطة عناصره، نجد أن توظيف المحتوى جاء على نحو غامض ما أكسبه صبغة عالمية، وخاصة ظهور الجسد الأنثوي كتحدٍّ للنظرة التقليدية للمرأة العربية، ما جعل من العمل صادماً، وبذكاء شديد استطاعت حاطوم أن تتحايل على الابتذال الجسدي بتغطيته بكلمات مثيرة للعاطفة، ما قوّض النظرة الجنسية وعزّز من تلك العاطفية، فكرة الإزاحة على هذا النحو، في فهم التوظيف للظهور الجسدي خلق تقاطعاً بين الذّكرى والمشاعر، هذا مكّن العمل من تحقيق أهدافه عبر تضخيم تلك المشاعر وجعلها هائلة، لتتقاطع مع مفاهيم عديدة ما بعد حداثية، دون أن تنفصل عن جذور أزمتها الذاتية المتأرجحة ما بين المنفى ومشاعر الحنين.
إن التجميع والتركيبية سمة ظاهرة في مختلف أعمال منى حاطوم، وفي فيديو مقاسات الزّمن استطاعت أن تجسد رؤيتها وأن تعكس شخصيتها المتمرّدة دون ابتذال، وأن تبرز عمق مأساتها، التي دون أدنى شك تنامت وتشابكت وتعاظمت بفعل حدث النّكبة وما تلاه من تقويضات ذاتية عانى منها وما يزال يعاني الإنسان الفلسطيني.
كما أن تأثّر حاطوم بالمرحلة التي تضمّنت مخاضات متتالية فكرية واجتماعية، ساعدها على بلورة أعمالها على نحو تفكيكي، حيث إن ما بعد الحداثة مرتبطة بالتفكيكية، وهي بذلك سعت إلى تغيير طبيعة العلاقة بين الأشياء والعناصر، مستخدمة طرقا جديدة للتفكير عبر المحاكاة الفيلمية للمشاعر بهدف ربط الفن بالواقع من جهة، وتوسيع حواسنا السمعية والبصرية من جهة أخرى.
وقد ساعد على كل ذلك انتشار معدات تسجيل الفيديو منتصف ستينات القرن الماضي عندما قامت شركة سوني بإنتاجها وتسويقها. ما يؤكد فكرة السيولة التي تميزت بها مرحلة ما بعد الحداثة، حيث تشابك الكثير من المعطيات التي خلقها النظام العالمي في ذلك الوقت.
مراجع باللغتين العربية والانجليزية:
● بلاطة، كمال (2000). استحضار المكان دراسة في الفن التشكيلي الفلسطيني المعاصر: المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم.
● ريس، إلهام بنت عبد الله (2019). التركيب مدخل تجريبي إبداعي لإثراء العمل الفني التصويري. مجلة دراسات وبحوث التربية النوعية، 434-457.
● غيط، شريهان صالح علي (2011). شكل الجسم الآدمي كمُثير لفنون ما بعد الحداثة. مجلة بحوث التربية النوعية- جامعة المنصورة، 434-452.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
● Avgitidou, Angeliki. (2023). Performance Art education and practice: Routledge. New York.
● Crowther, P. (2019). Geneses of Postmodern Art Technology as Iconology. New York: Taylor & Francis.
● Horsfield,kate.(2006). Busting the tube: A brief history of video art, Video data bank. School of the art institute of Chicago.
● Said, Edward. (2000) The Art of displacement: Mona Hatoum’s Logic of Irreconcilables
● Sebihi, Melika. ( 2020 ). Mona Hatoum’s Measures of Distance. Shifting perspectives. Museum Studies Workshop. Mills College.