الخميس  30 كانون الثاني 2025

ريجيس دوبري ومارك هالتر: هل الحوار ممكن في الشرق الأوسط؟

2025-01-30 12:17:37 AM
ريجيس دوبري ومارك هالتر: هل الحوار ممكن في الشرق الأوسط؟
ريجيس دوبري

تدوين- ترجمة: سعيد بوخليط

*ريجيس دوبري مثقَّف يساري مشهور، فهو مفكِّر وصحفي وفيلسوف فرنسي معاصِر وأستاذ أكاديمي. شغل منصب أستاذ للفلسفة بجامعة هافانا في كوبا عامَ 1965، وفي تلك الفترة توطَّدت علاقته بتشي غيفارا، وسافَر إلى بوليفيا حيث انضمَّ إلى حركته الثورية. تولى مسؤولية عدد من المناصب السياسية؛ فعُيِّن مستشارًا للرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران في الشؤون الخارجية عامَ 1981، ومستشارًا فخريًّا في المحكمة الإدارية العليا الفرنسية في مجلس الدولة، كما أسَّس المعهدَ الأوروبي للدراسات الدينية في عام 2002، وأشرف على  رئاسةَ المجلس العلمي للمدرسة الوطنية لعلوم المكتبات والمعلومات في باريس.

من أبرز أعماله: ''حرب العصابات''، ''القوة الفكرية في فرنسا''، ''الكاتب: نشأة السياسة''، ''نقد العقل السياسي''، ''المدارس العلمانية''، ''النار المقدَّسة''، ''على جِسر أفينيون"، ''الثورة التشيلية"، "ثورة داخل الثورة"، "محاربو غيفارا"، "سلطة المثقفين في فرنسا"، "دروس في الميديولوجيا العامة"، "حياة وموت الصورة"، "النار المقدّسة"، "خطأ في الحساب"، "القرن الأخضر"…

*مارك هالتر: ‏كاتب وناشط فرنسي، يهودي من أصل بولوني، ألَّف عدة روايات تاريخية تطرَّقت لتاريخ الشعب اليهودي، ترجِمت إلى عدَّة لغات منها الإنجليزية والبولندية والعبرية…

باسكال بونيفاس: يمكن التأكيد من خلال أعمالكما الأخيرة أنَّ ريجيس دوبري يجسِّد ''تفاؤل العقل''، بينما يلوِّح مارك هالتر بـ''تفاؤل الإرادة''. ما رأيكم في هذا التصنيف؟

ريجيس دوبري: فعلا، لا أملك طاقة وقوة الأمل التي يضمرها مارك هالتر. وجب القول ببساطة بأنِّي أفتقد لنفس الإيمان. بناء على ملاحظاتي يلزمني الإقرار بالمأزق الذي تعيشه منطقة الشرق الأوسط.

مارك هالتر: أتَّفق مع هذه الملاحظة. لكني أتموقع في إطار منظور تاريخي. أساس مأساة البشر عدم توافق مفهوم الزمان في التاريخ مع سلَّم زمان الحياة الإنسانية. تخلِّد إسرائيل الذكرى الستِّين لإعلانها الاستقلال. سنوات اختزلتها الكتب المدرسية في بعض الأسطر. مع ذلك بالنسبة للإنسان، تعكس ستُّون سنة حياة بأكملها. قوام مأساتنا نفاذ الصبر الذي يغذِّي التشاؤم. من جانبي، أعتقد بأنَّ ستِّين عاما فضاء زمني تاريخي مقتضب جدا، بالتالي، كل ما تطلَّعنا إليه بوسعه التبلور.

باسكال بونيفاس: ما المقاربة التي يطرحها ريجيس دوبري بخصوص هذا التباين بين تأمُّلِ الراهن وكذا الاستعراض التاريخي؟ هل تعتقد، مثلما أوحيت قليلا في كتابكَ، بأنه حاليا قد فات الأوان، وكذا تحقُّق خلال فترة ما، منعطف قصد توجيه التاريخ حسب دلالة معينة؟

ريجيس دوبري: فيما يتعلَّق بالدولة الفلسطينية، تظهر الوضعية الحالية عدم إمكانية إنشاء دولة. بالتأكيد ملاحظة يمكن مناقشتها، لكن القدرة على التخلُّص من أربعمائة ألف مستوطنة تشمل شرق القدس وكذا الضفة الغربية، أظنُّه سعيا يحتاج إلى مقتضيات كبيرة، يصعب تصوُّرها، وربما عنيفة جدا. لقد انتقل مسار المستوطنات من منطق الوجبة الخفيفة إلى الضمِّ بكل بساطة. أتأسَّف من درجة هوس إسرائيل بأمنها على المدى القصير، من ثمَّة غياب فرص اندماجها الفعلي في المنطقة. بناء عليه، يعتبر جواب رفض مشروع الملك عبد الله، الذي طرح مبدأ ''السلام مقابل الأرض"، مدمِّرا للغاية. عدَّة أصدقاء يهود عبَّروا لي عن شعور مفاده أنَّ لا أحد سنة 1950 كان في مقدوره التجرُّؤ على الحلم بتسوية من هذا القبيل. اقتراح المشروع قدَّم بديلا فيما يظهر مناسبا لأمن إسرائيل. ألاحظ مزيدا من الارتداد الإسرائيلي نحو معقل وتتقلَّص أكثر فأكثر إمكانية تحديد نفسها كدولة داخل المنطقة. يلزم التاريخ أيضا السماح باستخلاص بعض العِبَرِ. مجازفا بإظهار تشاؤم أكبر، بوسعي استحضار مثال الدول الصليبية، التي استمر وجودها فقط خلال مائة سنة: لماذا اتَّسم بكونه عابرا جدا؟ يعود ذلك إلى عدم سعيها الفعلي نحو استيعاب ثقافات المنطقة أو على الأقل التأقلم معها. وضعية الشرق الأوسط غير مطمئنة: الفلسطينيون منقسمون، وتبدو السلطة الفلسطينية أكثر فأكثر مجرَّد طرفٍ تابع للغرب.

مارك هالتر: صحيح، لقد أضاعت إسرائيل فرصا. حتما يمكننا تفسير انطوائها ليس فقط بالبعد النفسي، بل أيضا استمرار الاعتراض على إسرائيل، رغم قوة مشروع الملك عبد الله، من طرف مكوِّنات عدَّة في الشرق الأوسط. يصطدم دعاة  إسرائيل إلى ''التطبيع'' مع هذه وضعيتها الشاذة، أي دولة دائما تعيش اعتراضا، بالتالي تهديدا. تتغير رموز الرفض نحو وجود الدولة الإسرائيلية، صدام حسين سابقا، واليوم محمود أحمدي نجد، بينما يستمر التهديد. طبعا، يفضي التهديد بالاستئصال إلى الانطواء وكذا التحصُّن خلف وضعيات دفاعية. اجتمع داخل منزلي، للمرة الأولى، شيمون بيريز مع ياسر عرفات. كنت سعيدا، جراء الأمل الكبير الذي أحدثه هذا اللقاء. ظننت بأنَّنا قد أمسكنا أخيرا بفرصة العثور على تسوية نهائية، مع ذلك، أخفق المأمول. فعلا، هناك ضياع للفرص. لامس ريجيس دوبري نقطة أخرى، لا أتفق معها حقا. فكرة عجز إسرائيل عن الانتماء إلى المنطقة، ضمن حدود بلد مندمِجٍ. تمتلك إسرائيل شرعية تاريخية مهمَّة، تنعدم في خضمها إمكانية المقارنة مع المملكة المسيحية في القدس. لم يغادر اليهود أبدا تلك المنطقة، سوى خلال سيادة المسيحيين، وإخضاع اليهود للتفتيش في القدس واختفاء آخرين في الجليل. قبل قرنين، خلال زيارة الفيكونت دو شاتويريان إلى القدس، تحدَّث عن الشعب اليهودي باعتباره: ''سيِّدا فعليا على تلك الأمكنة''. استمرت دائما مدينة القدس، منذ عهد الملك داود، مأهولة من طرف اليهود. اليهود شرقيون، وحتما صار بعض الشرقيين غربيين، مثلا ساكنة أبو ظبي، أو دبي، الذين أقاموا لديهم نسخة عن السوربون، ومتحفي اللوفر وغوغنهايم. تنمُّ هذه التحولات عن مناح إيجابية بخصوص اندماج أفضل في عالم الغد. لكن مهما حدث، يعتبر الإسرائيليون جزءا من الشرق، مثلما يشهد على ذلك، تشابه حفلات الزفاف، الإسرائيلية والعربية. شخصيا ولدت في بولونيا، كان الناس ينظرون إلينا كمتوحِّشين، نتيجة تواصل منظومة سلوكاتنا كما لو أنَّنا نعيش في الشرق، مما ساهم خلال تلك الحقبة في كراهية اليهود من طرف البولونيين المسيحيين. نحن مشرقيون، بالتالي مفهوم الاندماج غير ملائم قصد وصف مقتضى يلزم على الإسرائيليين الرضوخ له. يلزمنا فقط تقاسم ما بوسعه أن ينقذنا غدا: العلم، المعرفة، التاريخ، التقنية، وكذا عناصر أخرى تتيح إمكانية مواجهة تصحُّر هذه المنطقة.

باسكال بونيفاس: ألن يكون بالأحرى الاندماج الذي أشار إليه ريجيس دوبري، اندماجا يتوخى إضفاء التهدئة على العلاقات؟ راهنا، يوجد حتما سلام صوري بين إسرائيل ومصر أو الأردن، بيد أنَّه لا يعكس حقا سلاما' 'حارا''. هل يتعلق الأمر بالنسبة لإسرائيل، في ''الاندماج''، أم ''تقبُّلها'' من طرف بلدان المنطقة؟ وما شروط ''تطبيع'' العلاقات، بهدف تحقيق علاقات سلمية مع الجيران، بخلاف حيثيات الوضعية الحالية، سواء تعلق الأمر مع دول لا تعترف بإسرائيل، أو التي تعترف؟

مارك هالتر: لا أعتقد بأنَّ الأمر سيكون كذلك. جوهر الحقيقة عدم إمكانية بلوغ نموذج علاقات تجرَّدت عن كل ارتياب. من باب المقارنة، لا زال غاية اليوم، يتداول نعت ''الألماني الفظّ'' داخل بعض المقاطعات الفرنسية، عند الحديث عن سيرة الألمان. حتما ربما لم يعد الطلبة يوظفون راهنا هذه الأساليب اللغوية، لكن أجيال الآباء لا زالوا على دَأَبِهِم. فأنا أعرف منطقة بيكاردي ولازال الكثيرون هناك يتكلمون بنفس النَّبرة قصد استحضار أعدائهم خلال الماضي. التفسير تاريخي. يتعلق الأمر بوادي ''السوم''، منطقة تحتضن مقبرة لأموات فرنسيين قُتِلوا في ساحة المعركة. يستحضر ريجيس دوبري من جهة أخرى في كتابه فكرة إدراج الله ضمن العلاقات البشرية، بين الجماعات الإنسانية. وهذا لا يساهم في تهدئة العلاقات، ولا كذا توقُّع مستقبل هادئ. يلزم مطلقا، خلال فترة أولى، تبلور دولة ممكنة للفلسطينيين. بعد ذلك، فقط، يمكننا ربما الحديث عن سوق مشتركة. هكذا ينبغي تصور المستقبل. دون هذا المنحى، لن تقوم قائمة لدول المنطقة الصغيرة وبقائها مثل الأردن وفلسطين وإسرائيل. يلزم حتما الانفتاح على سوريا، لذلك كنت من الأوائل الذين دعَّموا فكرة حوار مباشر مع بشار الأسد. الاكتفاء بمخاطبة أصدقائه، يعني أنَّنا لا نتكلم باستفاضة! بالتالي ينبغي أيضا الاعتياد على محاورة أعدائه. بخصوص هذا الرهان على الحوار، أنتمي إلى تراث يفضِّل بالأحرى علاقات الاحترام أكثر من علاقات الحبِّ. يتعلق التأويل هنا باختلاف بين المسيحية واليهودية. لا أبحث عن الحبِّ، بل الاحترام أولا وأخيرا. تقول إحدى الوصايا العشر: ''أكرمْ أباك وأمك''. لا حديث عن الحبِّ. المسيح من رَسَّخ هذا المفهوم، لكن مثلما قال  فرويد في كتابه ''انزعاج في الحضارة": "لماذا أحبُّ شخصا يتوخى قتلي؟''. لا ألتمس من الفلسطينيين، ولا المصريين، ولا اللبنانيين، ولا السوريين بل كل جيران إسرائيل، إظهار مشاعر الحبِّ نحو إسرائيل. يتعلق الأمر، قبل كل شيء، بتبادل الاحترام قصد الاشتغال من أجل استتباب قيمة التعايش. بهدف تحقيق هذا المسعى، يلزم أولا إنصاف الفلسطينيين. تقتضي المصلحة الاقتصادية والوطنية لإسرائيل، مساعدة الفلسطينيين كي تصبح لهم دولة خاصة، قابلة للحياة، ضمن حدود تتيح لها إمكانية الازدهار. إنها مرحلة تمهيدية وأساسية بغية تفعيل تصور أكثر تقدما.

ريجيس دوبري: قاعدة الاحترام بدل الحبِّ، مثالية حقا، وأيضا الأكثر واقعية. لكن، كيف السبيل إلى حلِّ إشكالية الاستيطان؟ كيف نمارس ضغطا عالميا على الدولة اليهودية؟ مثلما تحتاج الحكومة الإسرائيلية بدورها إلى الدَّعم حتى تقنع رأيها العام، الذي قد يتردَّد أمام تنازلات مهمَّة. لا أرى اليوم شخصا يمارس ضغطا على إسرائيل، سواء الولايات المتحدة الأمريكية أو أوروبا. حقيقة الولايات المتحدة الأمريكية، ارتباطها اللاهوتي فعليا بالشعب العبري وقد تخيَّلوا التاريخ باعتباره ''شعبا جديدا مصطفى''. حتما يلزم تبيان الفروق الدقيقة. فعلا، لاحظنا خلال فترة سابقة أساسا مع جيمس بيكر وجورج بوش الأب، رغبة في تقييد الإسرائيليين. لكن عموما، لن تجازف الولايات المتحدة الأمريكية بمواجهة دبلوماسية مع إسرائيل. هي علاقة مندرجة رمزيا ضمن اللاوعي اللاهوتي. حسب تصوري، تعتبر الولايات المتحدة الأمريكية بالأحرى مستعمرة إسرائيلية وليس العكس. أما بخصوص أوروبا، فإنَّها مشلولة بذكرى المحرقة. يتكلمون أحيانا، وبعض الإسرائيليين أنفسهم يستحضرون حيثيات ذلك، عن خطة تنصيب قوة عسكرية دولية عند الحدود الإسرائيلية - الفلسطينية، طالما وُجِدت هذه الحدود. لكن من الأوروبي الذي يجرؤ على المخاطرة بإطلاق النار على إسرائيلي؟ يستحيل تصوُّر ذلك. من جهة أخرى، لا أرى حاليا سبيلا لإمكانية تشكُّل دولة فلسطينية. إذا ألقينا نظرة على خريطة الأراضي، وتفحَّصنا مليّا، الأنفاق، أساليب حركة المرور، تجميع الماء، سنكتشف فقط داخل فلسطين حياة عبيد فلسطينيين. تبقى المسألة الديمغرافية مطروحة. إذا كانت نسبة معدل الولادة مستقرَّة ضمن صفوف الفلسطينيين، يستمر في المقابل ارتفاعها الكبير داخل المستوطنات اليهودية الإسرائيلية، حاليا 7.1 طفلا داخل الأسرة، بالتأكيد من بين أكبر المعدلات في العالم. نحصي عدَّة مستوطنات دينية داخل هذه المنطقة. إشارة، تؤكِّد بأنَّ التوازن الديمغرافي، خلال أجل متوسط، لن يكون سلبيا بالنسبة للإسرائيليين، عكس ما يقال. لا أرى إمكانية التعايش بين الدولتين. وتبدو لي دولة ثنائية القومية تناقضا في المصطلحات. فعلا، اليهود الذين سعوا إلى إنشاء دولتهم، لن يقبلوا أبدا مجازفة، اكتشاف أنفسهم مرة أخرى أقليَّة بعد مرور خمسين سنة. تمثَّلت غاية إنشاء إسرائيل أن تكون في بيتها. بكيفية عامة، أنا متشائم حقا بخصوص مآل المستقبل. مع ذلك، هناك شخصيات إسرائيلية رائعة أحدها محاوِرِي الحالي مارك هالتر، أشخاص يمتلكون نظرة نقدية جدا حول الوضعية الراهنة، يؤمنون بمستقبل إسرائيل. هل بوسع أشخاص، من هذا النوع ضبطوا حسب  تصوري، الرهانات التاريخية، إقناع شعبهم نحو المبادرة إلى تقديم تنازلات عميقة؟ هل يمكنهم إقناع محيطهم بأنَّ مستقبل نهر الأردن ليس بحدود استراتجية لإسرائيل؟ تشكِّل قناعة من هذا القبيل، حائلا ضد أيّ مجال للدولة الفلسطينية. هل يمكنهم إقناعهم بالتخلي عن الجدار؟ لا يتعلق الأمر بجدار يفصل فلسطين عن إسرائيل، لكنه يقسِّم فلسطين إلى قسمين. حاليا، امتلكت فلسطين خاصية مفادها تقلُّص مجالها المكاني لكن المسافات تزداد. قصد الانتقال من مكان إلى ثان، احتاج الأمر سابقا إلى ساعة زمنية، بينما حاليا يتطلَّب خمس ساعات. يتفكَّك جدا الإقليم الفلسطيني بدل انسيابه، أضحى السياق بالنسبة للفلسطيني مستحيلا. نعاين وضعية خانقة. تهديدات أخرى بمثابة عبء ثقيل، بحيث تمثِّل الوضعية داخل غزة قنبلة موقوتة. أيضا، محكوم على القادة العرب بالتغير، بعد هذا الجيل من زعماء تابعين للغرب، بل تقريبا يعود فضل تنصيبهم إلى الغرب، لا سيما في الأردن ومصر، إذا لم يحدث التغيير المطلوب، بوسعنا حينها إبداء مشاعر الخوف من تصاعد المدِّ الإسلامي في المنطقة، واستبدال هؤلاء القادة بآخرين أقلّ تساهلا مع إسرائيل. أترقَّب إذن ''دوغول  إسرائيلي''.

باسكال بونيفاس: من أين سيأتي الضغط؟ نلاحظ انعدامه أمريكيا، أوروبا انتفى وجودها، وحاليا لا يبدو اعتبار إسرائيل ديمقراطية عنصرا مساعدا على تحقيق السلام، في نطاق احتماء الحكَّام بالرأي العام قصد الإبقاء على الوضع الراهن.

ريجيس دوبري: المنظومة المؤسساتية الإسرائيلية كارثية للغاية، لأنَّها تفسح المجال أمام أحزاب دينية صغيرة كي تمارس ابتزازا دائما على الحكومات.

مارك هالتر: فعلا، أنت محقّ بخصوص حقيقة تصدُّع هذا النظام. لقد أضاع شيمون بيريز فرصة قصد تدارك مكمن المشكلة. أستعيد حقبة نهاية سنوات 1980، حينما تقاسم السلطة كلّ من حزب العمل بزعامة بيريز السلطة مع الليكود، خلال فترة قيادة إسحاق شامير. شكَّل آنذاك تحالف هذين الحزبين العلمانيين مناسبة قصد تغيير النظام الانتخابي، بحيث امتلكوا عمليا الأغلبية المطلقة، لكنهم لم يبادروا إلى فعل ذلك، فضاعت الفرصة. يفضي نظام التمثيل النسبي، الذي يميِّز المؤسسات الإسرائيلية، نحو استحالة اتخاذ قرار لم يتم التفاوض بشأنه. يعيش المسؤولون إذعانا دائما لهذا الحزب أو ذاك، لا سيما أحزاب دينية صغيرة. فيما يتعلق بالفلسطينيين، لم نستثمر فرصة التفاوض مع الوطنيين مثل ياسر عرفات ومحمود عباس خلال الوقت المناسب. هكذا اصطدمنا حاليا مع فلسطينيين يتكلمون باسم الله. كان بوسعنا رفقة ياسر عرفات، مناقشة تقاسم السلطة. حاليا، الوضع دقيق. أذكر على سبيل المثال، نقاشا شخصيا مع خالد مشعل، وقد أبدى استعداده لتوقيع هدنة مع إسرائيل تدوم ثلاثين سنة، لكن بالنسبة إليه، لا يتعلق الأمر باعتراف بإسرائيل، التي ستزول مهما حدث على منوال المملكة المسيحية في القدس. لكن، أومن كثيرا بديناميكيات التغيير. بشكل غريب، أنا الذي كنت معارضا شديدا للجدار، بحيث ولدت خلف جدران الغيتو، أعتبر اليوم آثار هذا الجدار إيجابية. فعلا، الفلسطينيون الذين صرخوا محتجِّين عن حقِّ ضد الجدار لاحظوا راهنا تدهور مطالبهم، بحيث لم يعودوا يطالبون بتل أبيب حيفا ويافا، بل فقط بالعودة إلى وضعية ما قبل الجدار. أما عن الإسرائيليين الذين تطلَّعوا إلى مجمل الأرض الفلسطينية، فقد أدركوا حاليا بأنَّ مختلف ما يوجد وراء الجدران ليس لهم. غريب جدا كيف أن الشرّ بوسعه دفعة واحدة جعل التاريخ مقروءا بالنسبة لمن يرفضون قراءته. هناك أحداث يصعب توقُّعها وبوسعها مباغتتنا. أومن بقدرة العالم العربي على استساغة وجود إسرائيل، وطن جديد ضمن حدود ثابتة، بوسعهما خلال يوم من الأيام نسج علاقات متميِّزة.

باسكال بونيفاس: يتعلق الأمر حتما بسيناريو مثالي نتوخَّاه نحن الثلاثة، كي نستعيد الفرصة التي استحضرها ريجيس دوبري بخصوص ''دوغول إسرائيلي''، يمكننا أيضا التساؤل عن غياب الزعيم القوي في العالم العربي. تعاني إسرائيل، فجوة بين تطلُّعات المجتمع والحقيقة السياسية. بالفعل، أعلن ثلث الإسرائيليين عن موقف إيجابي بخصوص إنشاء الدولة الفلسطينية، مع ذلك لا نجد زعيما قادرا على تجسيد هذه الرغبة.

مارك هالتر: أنا مقتنع بانبعاث زعيم كاريزمي ذات يوم، يمكنه حمل لواء التغيير، من صفوف هؤلاء الشباب الإسرائيليين الذين التقيتهم صحبة ريجيس دوبري. نعاين هنا إشارات تضمر تحوُّلا.مثلا، تظاهرات ضباط جيش الاحتلال أمام منزل إيهود أولمرت، الوزير الإسرائيلي، بعد اجتياح لبنان عام 2006، أدى ثمن تكلفته حياة العديد من البشر. يتَّضح حين الإصغاء لصدى تلك التظاهرات، تجلِّي إرادة شديدة صوب تحقيق التغيير. أريد إضافة ملاحظة حول تصور ريجيس دوبري، للعلاقة بين المستوطَنة / والمستوطِن التي نسجتها الولايات المتحدة الأمريكية مع إسرائيل. في كل الأحوال، ينبغي التذكر دائما بأنَّ هنري كيسنجر وهو يهودي، يعتبر الشخص الذي أوقف  تزويد الجيش الإسرائيلي بقطع الغيار إبّان ذروة حرب سينا، مما ساهم في تراجع الإسرائيليين. واقعة تؤكد قدرة أمريكا على تحويل مجرى الأمور والتصدِّي لإسرائيل بكيفية ما.

ريجيس دوبري: بالتأكيد، لكن عند رصد طبيعة التوجهات الكبرى، لا يمكن قط التحلِّي بالتفاؤل. هناك عودة أو صعود متزايد للتيارات الدينية وبالتالي الانتقال من حرب سياسية وطنية إلى حرب دينية عند جانبي الحدود. مما يدفع نحو التخلِّي عن حقل المفاوضات والمجالات الأرضية، كي نلج مجالا يتعذر مقاربته أقصد الدين وبعده المطلق. لقد تفاجأت وأنا أرصد تصاعد هيمنة حماس على المجتمع الفلسطيني وكذا جماعات أخرى أكثر تشدُّدا، فالدين يجسِّد عائقا أمام  ديناميكية المعطيات، يخلق إعادة الوصل بالله، نتيجة انعدام الأمل لتحقيق أيِّ شيء هنا. تأويل يفضي إلى فكرة حرب لانهائية، قد تستمر في الزمان والمكان. يتجلَّى على امتداد جغرافية عمان غاية أندونيسيا، نوع من التصعيد وجهة الأسوأ، ومفزعة أكثر قياسا إلى العالم العربي. لقد أبان الغرب عن عجز بخصوص استتباب حدٍّ أدني من العدالة والإنصاف داخل هذه المنطقة، مما غذَّى اليأس. صحيح لا يمكننا بناء آمال حول تطور استثنائي يختبره المجتمع الإسرائيلي فكريا وإيتيقيا. لكن بعد كل شيء، على سبيل المقارنة، فقد كانت أيضا ألمانيا جمهورية فايمار بلد نخب مذهلة امتلكت أعلى درجات التعليم في أوروبا. لكن استنادا على الكيفية التي يستوعب وفقها الإسرائيليون الصدمات، وانزواؤهم بين طيات مخاوفهم، في خضم اجترار للماضي، تتبدَّى هشاشة إمكانية النفاذ صوب وجهة تحوُّل عميق. أظنُّ بأنَّ مأساة هذه المنطقة مصدرها من جهة عمى الإسرائيليين نتيجة المحرقة، بينما العرب لا يبصرون جيدا المحرقة. هذا يخلق سوء فهم فظيع. الإسرائيليون أعمت عيونهم المحرقة، ما دامت الواقعة لديهم مرتبطة بتجربة مؤسِّسة. لا أفسِّر الصهيونية بالمحرقة، ولا أيضا نشأة الدولة الإسرائيلية. حتما، الصهيونية لحظة سابقة عن مختلف ذلك، غير أنَّه يوجد هوس بالشعب من خلال قاعدة الضحيّة، بالتالي حضور مبرِّر امتلاكه مختلف الحقوق لأنَّه فقط ضحيّة، قانونيا وأنطولوجيا. يكمن هنا العمى السياسي نتيجة عُصَاب الذاكرة. بالانتقال إلى الجانب العربي، وبكيفية تثير الانتباه فالمحرقة لم تحدث قط. يظهر من جهة إفراط الذاكرة، ومن ناحية ثانية انعدام الذاكرة. هذا يفقد العرب التبصُّر بحيث لا يفهمون سواء ردود الفعل الإسرائيلية أو في الغرب. من جهة ذاكرة متضخِّمة، ومن ناحية ثانية ضمور ذاكرة أخرى، مما يجعل الحوارات صمَّاء مع مراكمة الطرفين لمخاوف جانبية. أساس التاريخ مفاجآت، وتبلور إشارات التغيير. تقدِّم دول الخليج عن الإسلام صورة أخرى غير المنحى الكاريكاتوري الذي نعرفه في فرنسا. دول بمثابة فضاء لظاهرة تحديث الإسلام، لقد زرتُ قطر مؤخرا واندهشتُ كثيرا لاكتشافي يافطة ''ثانوية فولتير'' على ثانوية فرنسية - قطرية. إشارة مذهلة داخل بلد إسلامي، علما بأنَّ فولتير هو صاحب تراجيدية ''تعصُّب محمد''. وضع مفارق بكيفية مثيرة. هذه الجزئية العادية جدا غمرتني بالتفاؤل. أيضا، والحديث عن قطر دائما، دُشِّنَتْ مؤخرا كنيسة مسيحية.

مارك هالتر: تحُثُّ بعض الإشارات على التفاؤل، لا سيما الإعلان الأخير لملك السعودية، الذي ينفتح على الديانات اليهودية والمسيحية. المفارقة كبيرة مع استحالة الحصول على تأشيرة سفر إلى السعودية غاية اليوم بالنسبة لشخصية تعتنق اليهودية. من جهة، يتجدَّد الإسلام، فيأخذ بعين الاعتبار جلّ ما راكمه الغرب منذ قرون، لكن في الوقت ذاته يأخذ هذا الإسلام نفسه منحى متطرفا، مما يثير قلق أنصار الإسلام الحديث. أمام هذا التطرف، يبدو لي أننا نعاين تقاربا بين بعض القوى الفلسطينية. هناك مجازفة في حدوث انقسام بين الشيعة والسنة. خلال لحظة معينة، أضحت مطالب زعيم القاعدة بن لادن أكثر خطورة على واقع العالم الإسلامي مما الشأن عليه في الغرب. تمثِّل الأطراف الفاعلة في الإسلام الحديث جزءا لا يتجزأ من العالم الإسلامي: يتحدّون مسلماته، نتيجة ذلك يعرِّضون أنفسهم للخطر. قصد العودة إلى وضعية الضحية المرتبطة بالهوية اليهودية، أعيد التذكير بأنِّي كنت دائما معارضا ضد الخلط بين المحرقة وإسرائيل. لقد أتت المحرقة على وجود ثلث الشعب اليهودي. أستعيد نقاشا مع الصحفي والمناضل الفلسطيني غسان كنفاني الذي اعتبر المحرقة مرعبة، لكنه تمسُّك برأيه حول عدم مسؤولية العرب بتاتا بخصوص ما جرى، بالتالي من الظلم البحث عن تعويض الشرِّ الذي عاشه اليهود بإعطائهم أرض العرب. أجبته بأنَّه إذا اضطلعت الأرض فعليا بدور التعويض، فلن تكون جلّ الأرض العربية، وأمريكا وأوروبا كبيرة بما يكفي قصد توفير ستة ملايين قطعة أرضية تتناسب مع ستة مليون ضحية. إرادة إقامة دولة يهودية وكذا الوسائل المقترنة بها، سبقت سياق المحرقة. تجلَّى الحكم الإسرائيلي، دون دولة، غداة ذهاب العثمانيين ومجيء البريطانيين، جهاز أشرف على إدارته بن غوريون سنة 1935. صدرت ''هآريتس'' أول جريدة يومية عبرية سنة 1919، وتأسَّست المركزية النقابية الكبيرة ''الهيستدروت'' وكذا الضمان الاجتماعي سنة 1920، والجامعة العبرية في القدس سنة 1924. بيد أنَّه لم يبادر أيُّ شخص بهدف شرح مختلف ذلك إلى الفلسطينيين. بكيفية غريبة، ياسر عرفات نفسه أبدى ولعه بمنظومة الدولة قبل الدولة، وكان معتزّا بأن ينادونه بـ''الرجل العجوز''، نفس لقب بن غوريون. يومان قبل اغتيال إسحاق رابين، تلقيتُ دعوة منه وزوجته لتناول وجبة عشاء رفقة زوجتي كلارا. تصادف الموعد مع يوم السبت، حيث فضَّل دائما ''الانزواء'' وفق تعبيره في فندقه على ساحل البحر غير بعيد عن تل أبيب، كي يتأمل، متحرِّرا من ضغط السياسيين والمستشارين، خلال ذلك اللقاء حدَّثني عن ياسر عرفات، والتمس مني إبلاغ الأخير بأنَّ إنشاء دولة يعتمد على مدى كفاءته بخصوص تطويره منذ البداية إدارة حقيقية، لذلك حين الإعلان عن دولة فلسطينية، ستكون حينها مختلف المقتضيات قائمة سلفا بغية ضمان أداء جيِّد. حقيقة لم يشرحها أيضا الإسرائيليون كفاية إلى الفلسطينيين. لا يجوز توظيف الدليل الأخلاقي للمحرقة على نحو مسيء، بغية شَرْعنة ظهور إسرائيل. يستمد الإسرائيليون مصدر حقوقهم من المعركة التي خاضوها غاية تجسيد دولتهم على أرض الواقع، وهو معطى سابق عن سياق المحرقة.

مرجع الحوار:

Revue international et stratégique :numéro 71.2008.pp :19-26.