تدوين- سوار عبد ربه
عَايَشتُ الاكتِئَابَ
فُصُولَاً مُتَتَالِيَةً مِن حَربٍ
كَانَ يُطِلُّ فِيهَا بِتَوَتُّرٍ
مِثلَ صَدِيقٍ مُشَاكِسٍ
يُرغِمُنِي أَحيَاناً
علَى البَقَاءِ وَحِيداً فِي المَنزِلِ
-إيهاب بسيسو
دون اللجوء إلى التخفي وراء الكلمات، أو منحها صيغة الغائب لتكون أقل حدة في التعبير عن ذاتها وعن كاتبها، وباستخدام مفردات صريحة، بدلا من التحايل عليها باستعارات مكنية، نظم إيهاب بسيسو شعره خلال فترة الحرب، ليكون علامة واضحة على مزاج أخذ يسوء ويغرقه في الحزن، إلى أن التهمه شبح الاكتئاب، حتى صارت النصوص كلها مصبوغة بالأسود بكل ما فيه من دلالات جنائزية لا دور للمخيلة في إنتاجها؛ لأن الواقع يفوق الخيال في بشاعته. إن هذه النصوص وإن كانت بكل ما فيها من دقة وحساسية تحاكي تجربة معايشة شخصية للألم وكيف ينمو وينتشر، وما يترتب عليه فيما بعد من صدمة وعزلة، إلا أنها أيضا تحمل تجميعا للآثار المحتملة التي قد يعايشها أي فلسطيني صارت ذاكرته مساحة لصور الموت الجماعي. ناهيك عن الهامش الفردي الذي تمنحه تلك النصوص لكل واحد منا في تأويلها تبعا لتاريخ وجوده وما يحفل به من غياب وفقد.
للحديث عن الحالة الشعورية وانعكاسها على الحالة الشعرية، ودور الكتابة في تحرير الألم ليصير أداة للمعرفة والإنتاج بدلا من الغرق في حالة من الجمود تفضي إلى الانزلاق نحو العدمية، التقت تدوين بالشاعر إيهاب بسيسو وأجرت معه الحوار التالي:
تدوين: السوداوية السائدة في العديد من نصوصك التي كُتبت خلال فترة الحرب، هل تعتبر توثيقا أدبيا لحالة تاريخية حاسمة في الذاكرة الجمعية الفلسطينية بما يترتب عليها من تأثيرات نفسية واجتماعية عميقة؟ أم أن هذه السوداوية تعكس قراءة شخصية للأحداث، وتأويلا داخليا لتأثيراتها على الذات؟
بسيسو: هي مزيج من هذا وذاك، بمعنى أننا نتفاعل مع الحدث بكل أبعاده الشخصية والسياسية، وأيضا الإقليمية والدولية. فأن نرى أن جزءًا من هذا الوطن يتعرض لهذه الإبادة الوحشية في ظل صمت العالم بأسره، بمؤسساته الرسمية، يخلق حالة من التساؤل المر حول ازدواجية المعايير الإنسانية والسياسية، التي بات واضحا أنها لا تكترث لطبيعة المعاناة والمأساة التي تُرتكب بحق أهل غزة من قبل دولة الاحتلال، بشكل فظيع. من جانب آخر، أنا ابن غزة، عشت طفولتي كلها فيها وأعرف تماما كل تلك المناطق التي تم استهدافها. فقدت أفرادا من عائلتي، وأصدقائي، وأقاربي، إضافة إلى أن المقبرة التي دفن فيها والديّ تم تجريفها من قبل جرافات الاحتلال.
إذن، هناك مزج بين السياسي والشخصي والعاطفي والوطني، وربما انعكس هذا بشكل أو بآخر على الحالة "السوداوية"، التي ليست بالمعنى الدقيق لذلك المصطلح، لكنها أقرب إلى بيان غضب ضد كل شيء، وضد هذا الصمت إزاء ما يحدث في غزة. ما أراه يوميا يشبه مساحات تفتح أمام القاتل ليرتكب المزيد من الجرائم في غزة، في ظل الحديث السياسي الدولي البارد. جميعنا ندرك أنه كانت هناك بعض المساعي لوقف إطلاق النار في مجلس الأمن، من قبل بعض الدول، لكنها كانت تُجهض في كل مرة. لذلك، أعتقد أن هذه الفترة، التي امتدت لـ 15 شهرا من الإبادة، هي وقت مناسب لنقول إن "السوداوية" هي بيان غضب وصرخة في وجه هذا العالم.
تدوين: إذا كانت للشعر وظيفة توثيقية، كيف يمكن تحقيق الموازنة بين التوثيق الموضوعي للأحداث التاريخية والاجتماعية من جهة، وبين التعبير الذاتي عن المشاعر والألم الشخصي من جهة أخرى؟
بسيسو: لم يكن المقصود من الكتابة التوثيق بقدر ما كان التعبير عن الحالة اليومية التي نعيشها، بكل ما تحمله من حزن وفقدان وغضب وألم وفراق. كان هناك تحدٍ كبير في التعبير شعريا عن هذه المأساة، إذ لم تكن المسألة سهلة؛ فقد كان علينا أن نكتب دون أن نتنازل عن شروط الشعرية لكن المفارقة أنه خلال 15 شهرًا من الإبادة، أصبح كل حدث في غزة، وكل جريمة، مجازا مرعبا يصعب على المخيلة تجسيده في صورة شعرية كما كانت تحدث.
المفارقة أنه خلال 15 شهرًا من الإبادة، أصبح كل حدث في غزة، وكل جريمة، مجازا مرعبا يصعب على المخيلة تجسيده في صورة شعرية كما كانت تحدث
أستحضر هنا جريمة استشهاد الطفلة هند رجب والعديد من الأطفال، وغيرهم ممن تجمدوا من البرد، والصور المتداولة لأطرافهم المجمدة، والعائلات التي أبيدت بالكامل، وبعضها ما زال تحت الأنقاض. بالنظر إلى هذه الصور والاستماع إلى الشهادات، كان من الواضح أن الصورة نفسها هي مجاز مؤلم يفوق خيال أي شاعر. وربما كان التقاط الصورة ووضعها كما هي في سياقها هو ما أنتج نصا شعريا.
أعتقد أننا بحاجة إلى فترة بعد هذه الإبادة الطويلة لنتأمل كيف كنا نكتب خلالها، ولماذا كنا نكتب. بالنسبة لي، كانت الكتابة إلى جانب كونها صرخة غضب، محاولة للتطوير النفسي، عبر التقاط الصورة وإعادة إنتاجها. في تلك الفترة، كان دور الكاتب أو الشاعر بمثابة الوسيط بين اللغة والحدث، لأن الحدث كان يفوق الخيال بكل بشاعته وسوداويته.
نعم، كان هناك تحدٍ، لكن الكتابة كانت بحاجة إلى أن تظل في سياقها الإبداعي، دون أن تتحول إلى ركاكة. التحدي كان في الموازنة بين توثيق الحدث والتعبير عنه بطريقة تخدم اللغة وتوصل هذه الصرخات إلى أبعد مدى ممكن.
تدوين: كيف تقيّم دور الكتابة في عملية الشفاء الشخصي وتحرير الألم؟
بسيسو: ربما تكون هذه من الأوهام التي نحاول أن نقنع أنفسنا بها، لكنها تلعب دورا مهما في الانكشاف على الذات. عندما نُحاصر بالعديد من الصور والمواقف والصراخ، ونواجه هذا الكم الهائل من المشاعر المختلطة مثل الغضب والحزن والفقدان، نحتاج إلى التعبير عنها بطريقة أو بأخرى. وهنا يأتي دور الإبداع بكل أشكاله كوسيلة للخروج من مأزق "الموت الحي". فعملية عدم التفريغ الذاتي تشبه دفن الإنسان حيًا، إذ يحتاج الإنسان إلى عملية تفريغ ليتمكن من مواصلة الحياة الفعلية. ولذلك، أعتقد أن كل شخص فينا يحاول أن يقنع نفسه بأن الإبداع هو المخرج، وأن الكتابة، على وجه الخصوص، هي حالة تفريغ نفسية.
أستحضر هنا تجربة أفلام "المسافة صفر" التي أشرف على إنتاجها المخرج رشيد مشهرواي، حيث تم إنتاج أكثر من 20 فيلما لمخرجين شباب في غزة أثناء الإبادة. كانت هذه الأفلام نوعا من التفريغ الإبداعي، رغم ما صاحبها من فقدان ووجع للمخرجين والمخرجات الشباب، مع قصص متنوعة. بل إن القصص الموازية لعملية التصوير نفسها كانت تصلح لأن تكون أفلاما مستقلة. وقد كانت هذه التجربة الإبداعية في السينما من خلال "أفلام المسافة صفر" تعبيرا صادقا عن الواقع، مما أكسبها الشاعرية التي جعلتها تحصد العديد من الجوائز في المهرجانات وترشيحات لجوائز الأوسكار.
أما في الفن التشكيلي، فهناك العديد من التجارب التي تستحق التسليط عليها، مثل تجربة الفنان ميسرة بارود الذي ابتكر منهجا خاصا في رسم اللوحات خلال الإبادة تحت عنوان "لا زلت حيًا"، وأنتج من خلالها العديد من الأعمال الفنية أثناء نزوحه من مكان إلى آخر. بالإضافة إلى ذلك، هناك العديد من التجارب الإبداعية لأشخاص نجوا بأنفسهم ليعبروا عن تجربتهم، رغم أن القتل العشوائي لم يكن يميز بين شخص وآخر. كما أن الشاعرة فاتنة الغرة ستصدر كتابا يتناول يومياتها أثناء نزوحها في مستشفى القدس.
بناءً على تجربتي الشخصية والتجارب الإبداعية السابقة، يصبح الإبداع نوعا من التفريغ الذاتي، وأيضا تفاعلا يوميا مع الواقع المرير. فهو يساعدنا على عدم دفن أنفسنا أحياءً وسط هذا الكم الهائل من الدمار.
تدوين: في أحد نصوصك، أشرت إلى شعورك بالوجود في حالة "بينَ بين"، حيث لا أنت حي ولا أنت ميت. كيف يمكن للإنسان الذي يعيش هذه الحالة الوجودية المعقدة، التي تجعله نصف ميت أو شبه حي، أن يظل قادرا على منح الكلمات روحا؟ ألا ترى أن الكتابة في هذه الحالة تصبح فعلا منافيا للجمود؟
بسيسو: أعتقد أن الكتابة هي التي تمنحنا، بطريقة أو بأخرى، الروح والجسر والقشة التي نحاول التمسك بها كي لا نغرق. وبالتالي، ستكون لدينا أيضا مساحة لأعمال قادمة. وسيظهر الكثير من المبدعين والمبدعات بأعمال روائية، ونصوص شعرية، ولوحات بصرية، وغيرها. هذه القشة، أي العملية الإبداعية، هي ما نحاول من خلالها أن نقنع أنفسنا أننا نجونا.
وهنا نطرح سؤالا أمام أنفسنا: ماذا تعني لنا كلمة "نجاة"؟ أصبحت النجاة مفردة غامضة. هل هي فقط النجاة الجسدية بعد هذا الكم من القتل البشع؟ أعتقد أن من نجا كان بمحض صدفة، وأقصد هنا النجاة الجسدية فقط. ولكن مفهوم النجاة اتسع كثيرا. أنا أتساءل يوميا عن معنى النجاة، عندما تتحول أجسادنا إلى مقابر لدفن الأصدقاء والأقارب والشهداء، وعندما نتحول إلى امتداد لهذا الركام بكل ما يحمله من صدى ذكريات وحياة سابقة.
علينا أن ندرك أن النجاة لم تعد قاصرة على النجاة الجسدية فقط، بل إن نفسيا، لم ينجُ منا أحد. لذا، من خلال الإبداع، نريد أن نقول: نجونا على الأقل بما احتفظنا به من ذاكرة، وحاولنا أن نقدمه للقارئ عبر النصوص المختلفة.
علينا أن ندرك أن النجاة لم تعد قاصرة على النجاة الجسدية فقط، بل إن نفسيا، لم ينجُ منا أحد
تدوين: ما الفرق بين النصوص التي يتم إنتاجها وتوثيقها خلال لحظة الحدث، وتحت تأثيره المباشر، والمتمثلة في الكتابة الفورية دون المرور بعملية التنقيح المعتادة، وبين النصوص التي تُؤجل كتابتها وتُنتج بعد مرور فترة زمنية على الحدث، حيث يخضع النص لعملية تأمل وتنقيح؟
بسيسو: أعتقد أن هذا يمثل أحد أبعاد الأدب الرقمي، حيث نشرت العديد من النصوص بشكل مباشر، لكنني كتبت أيضا عددا كبيرا من النصوص التي لم أنشرها، وربما تفوق تلك التي نشرتها. أحيانا، يرتبط هذا بالرغبة في تفريغ ما في النفس، حيث إن حالة الضغط الشديد قد تدفع الكاتب إلى إنتاج نصوص يتم نشرها دون مراجعة أو تنقيح. في حالتي الشخصية، قد أعود لاحقا إلى النصوص التي تم نشرها على منصات التواصل الاجتماعي لإعادة تدقيقها، ولكن مع ذلك، لم تكن لدي رغبة في إسقاط حق اللحظة في التعبير عن نفسها. كان من المهم بالنسبة لي أن تكون اللحظة، بكل ما حملته من مخاضات نفسية وتجارب، حاضرة في النص.
في بعض الأحيان، لا يكون النص مرتبطا بيوم واحد فقط، بل يمكن أن تكون الأحداث التي يتناولها قد تراكمت على مدار فترة من الزمن، ثم يأتي حدث مفاجئ يختصر كل تلك الصور، مما يدفع الشخص إلى الشعور بحاجة ملحة للكتابة والتواصل، ليصرخ في تلك اللحظة. من هنا، يمكن القول إن منصات التواصل الرقمي قد ساهمت في تشجيع وجود نصوص لحظية مباشرة، بالإضافة إلى النصوص التقليدية التي نكتبها، ثم نراجعها، ونتركها لفترة، ثم نعود إليها لقراءتها مرة أخرى.
تدوين: الإشارة المتكررة لمفهوم "التروما" في نصوصك الشعرية، هل يمكن أن تفهم على أنها استسلام واعتراف بحجم المعاناة النفسية التي تمر بها، أم أنها نداء استغاثة توجهه عبر الكتابة لعل هناك من يلتقط هذا الألم الجماعي والفردي؟
بسيسو: هي صرخة غضب، وفي بداياتها كانت تلك الصرخة محاولة لفت الانتباه إلا أننا، بكل ما نحمله من ذكريات فردية وجمعية، نُساق قسرا إلى مطحنة لا تعرف سوى الإبادة لذاكرتنا، ومكاننا، وإنساننا. في البداية، كانت النصوص تعكس، بشكل عفوي، صيغة استغاثية تهدف إلى تسليط الضوء على طبيعة المعاناة. غير أن تلك الصيغة تحولت مع مرور الوقت إلى تعبير عن حالة من الغضب الداخلي المتراكم.
إننا بكل ما نحمله من ذكريات فردية وجمعية، نُساق قسرا إلى مطحنة لا تعرف سوى الإبادة لذاكرتنا، ومكاننا، وإنساننا
إن حرب الإبادة التي تعرضت لها غزة قد خلَّفت في أعماقنا حالة من الغضب الشديد على مختلف الأصعدة، وهو ما يستدعي قراءة أعمق لفهم كيفية تأثير هذه التجربة علينا. وكيف يمكن تصور أن جزءًا من شعبنا كان يُطحن يوميا في آلة الموت، ونحن نشهد ذلك بحالة من الضغط النفسي العميق؟ من هنا، جاءت المفردات في النصوص لاحقا لتعكس لحظة الغضب الجماعي من كل شيء.
تدوين: تطرقت في نصوصك الأخيرة بشكل متكرر إلى موضوع العزلة. هل كانت هذه العزلة استجابة طبيعية للظروف المحيطة تنتهي بانتهاء الحدث، أم أنها إقرار بانعدام المعنى وعبثية الأشياء من حولك؟
بسيسو: إن العزلة التي شعرت بها جاءت نتيجة إحساس مؤلم بالاغتراب النفسي. وأود هنا أن أوضح بشكل جلي أنني عايشت الانتفاضة الأولى، وكُنت على دراية تامة بما تعنيه حالة وطنية شاملة ودائمة في جميع الأراضي الفلسطينية المحتلة. بدأت الانتفاضة الأولى في مخيم جباليا، عقب استشهاد أربعة من الشباب، ثم انتشرت بشكل منظم، حيث كان هناك تنسيق واضح في مجالات عدة مثل سياسة التعليم الشعبي، التي شملت الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس والداخل الفلسطيني. كما كان الاقتصاد الوطني والمنزلي جزءًا أساسيا من تلك الحركة، وعشنا جميعا تفاصيل هذه المفردات بشكل حيوي. تلت ذلك أحداث أخرى، مثل تلك التي وقعت في عام 1996، ثم الانتفاضة الثانية. وبين هذه الذكريات الشخصية العميقة، كانت ذاكرتنا مشحونة بكثير مما قدَّمه كبار الأدباء والشعراء في الرواية والشعر، من غسان كنفاني إلى محمود درويش إلى معين بسيسو إلى عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى) وغيرهم.
لقد عشنا مع كلمات أحمد دحبور في قصيدته خلال اجتياح بيروت عام 1982، حيث قال: "اشهد يا عالم علينا وع بيروت"، وعشنا أيضا مع لوحات ناجي العلي التي عرّت الصمت العالمي إزاء حصار بيروت الذي دام لقرابة ثلاثة أشهر. كانت تلك الأحداث جزءًا لا يتجزأ من تجربتنا اليومية، إلى أن جاء وقت تحوّلت فيه المفردات، وأصبحنا نشعر بشيء من التغيير في سياقنا.
لذلك، نعم، شعرت بحالة من الاغتراب النفسي. لم يكن كافيا أن نقول إننا مع هذا الإنسان في غزة، الذي يتعرض للقصف والموت ويفقد كل شيء. ولكن السؤال الأبرز في هذه الحالة العامة هو: هل ما يحدث في غزة ينفصل عما يحدث في باقي فلسطين؟ هل الاحتلال الإسرائيلي يمارس هذه الجرائم في غزة فقط بسبب جغرافية المكان؟ وهل الفلسطيني في الضفة الغربية محصن من تعرضه لحالة مشابهة لتلك التي يعيشها سكان غزة؟ بالتأكيد لا، وهذا ما يظهر بوضوح من خلال الاقتحامات المستمرة للمخيمات والقرى، وسياسات الاستيطان، وتفاوت حجم الجرائم المرتكبة.
من هنا، علينا أن ندرك أن هذه الحالة تخلق اغترابا نفسيا حادا، وعليه يجب أن نفكر في كيفية تحركنا الإنساني على الأقل، في ظل هذه الأوضاع.
إن العزلة التي شعرت بها هي نتاج لهذا الاغتراب النفسي، والذي حاولت أن أجد له منفذا من خلال العودة إلى ذكرياتي الشخصية، واستحضار هذا التاريخ الذي يفسر مفرداتي اليومية. ربما هي حالة من التصادم المؤقت مع هذا الزمن الرديء، فكانت العزلة في ذلك الوقت هي الخيار المؤقت.
تدوين: في أحد نصوصك، كتبت عن رغبتك في أن "تلفظ الحرب أنفاسها الثقيلة" وأن "تسترد الأوقات التي غابت". رغم أن النص يحمل بعدا عبثيا في رؤيتك للحياة، كيف يمكن التوفيق بين هذه الرغبة في مستقبل أفضل والنظرة المقلقة التي تظهرها في نصوصك؟ وهل ترى أن الأمل قابل للتحقق رغم سوداوية الواقع؟
بسيسو: هنا يطاردني سؤال شخصي للغاية يتعلق بغزة، تلك المدينة التي أعرفها بكل تفاصيلها: بعمارتها، بشوارعها، بكل شيء فيها. تبدو الآن وكأنها اختفت، وهذا التفكير بحد ذاته مخيف. أتحدث هنا عن ذكريات شخصية ترتبط بأماكن مثل المدارس، المستشفيات، المقاهي، المواقع الثقافية، وأسواق المدينة والأماكن المقدسة وغيرها التي لم يدخر الاحتلال المجرم جهدا في تدميرها وهذه الحقيقة تظل مخيفة دائما.
نعم، أدرك تماما أن غزة هي الموازية لأسطورة العنقاء التي تخرج من الرماد، وأقول: ليكن، سيكون هناك غزة قادمة، غزة المستقبل. الروح الغزية، رغم كل ما لحق بها، ستكون قادرة على ترميم جراحها والنهوض مجددا من تحت الركام. ولكنني لا أستطيع أن أتجاهل هذه الذاكرة التي أصبحت الآن، بطريقة أو بأخرى، ذاكرة مفقودة، حتى وإن تم ترميم المكان. فهناك أحياء بكاملها تمت إبادتها ومسحها عن وجه الأرض. فالأحياء ليست مجرد مبانٍ من إسمنت ونوافذ وأبواب، بل هي ذكريات حية، صدى ألعابنا ونحن صغار، وذكريات زياراتنا لهذه الأماكن.
أفهم أن التحولات التي تحدث في المدن هي جزء من تطورها، حيث يتم هدم بيت قديم وتبنى مكانه عمارة حديثة. المدن تتطور، والهياكل المعمارية تتغير تدريجيا لصالح أنماط جديدة، لكن هذا يتطلب سنوات طويلة. وما حدث في غزة لن يكون تحولا عمرانيا، بل هو إبادة كاملة، مسحت معالمها. لذلك، يبقى السؤال الشخصي والإنساني مخيفا ولم أتمكن من حسمه بعد. فأنا لا أريد أن أتخلى عن ذكرياتي الشخصية بهذا الشكل. أعتقد أنني أتحدث عن حالة شعورية مختلطة بين غزة التي أعرفها وغزة القادمة. أدرك تماما أن غزة ستنهض مرة أخرى من تحت الرماد، ولكن، من حقي أن أتمسك بهذا المكان بكل تفاصيله، مفرداته، وإفرازاته كي لا أشعر أننا مقتلعون من جذورنا.
تدوين: هل تظل الأماكن محتفظة بنفس المعنى والدلالة في الذاكرة، حتى عندما تتم مغادرتها؟ بمعنى آخر، أنت تقيم بين بيت لحم ورام الله وتتحدث عن غزة كأنها ما تزال جزءًا من تجربتك الحية، هل تستمر الأمكنة في حمل نفس المعاني والدلالات في الذاكرة رغم البُعد المكاني؟
بسيسو: إن الواقع يفرض معطياته الخاصة، بينما تتباين الذكريات والمخيلة في تصوراتها وتطلعاتها. فبينما يسعى الواقع إلى تجسيد الحالة كما هي، تود الذاكرة والمخيلة أن تحافظ على وظيفة المكان كما كانت، وتدافع عن بقاء الذكريات بنفس المعنى الذي حملته في الماضي، لتظل تلك الذكريات بمثابة البوصلة التي توجهنا نحو المستقبل. نحن إذن أمام تحدٍ كبير عندما نتحدث عن إعادة الإعمار، قد تكون إحدى رسائله الأساسية هي أن المطلوب ليس بناء الأبنية الجديدة مكان الأبنية القديمة التي تم تدميرها، بل الحفاظ على روح المكان لتظل حية في ذاكرة الأفراد. المكان بلا روح لا يحمل أي معنى، ومن هنا تبرز ضرورة العمل المكثف للحفاظ على هذه الروح، وضمان أن تتم إعادة إعمار غزة بما يتماشى مع تاريخها العميق وروحها الثقافية.
إن غزة اليوم تمثل التحدي الأكبر أمام الفلسطينيين في كيفية إعادة بناء الحاضر وصياغة المستقبل. لا نريد لغزة أن تتحول إلى مجرد كتلة إسمنتية تضم في جدرانها مليوني فلسطيني، بل يجب أن نسعى إلى دراسة عميقة لتاريخها وجذورها الثقافية، وتوجيه جهودنا نحو إعادة بناء المدينة بما يحافظ على هويتها ويجسد روحها التاريخية. شخصيًا، أشعر بانحيازي العاطفي إلى غزة التي أعرفها، بما تحمله من عفوية وتفاصيل.
قد تتغير وظيفة المكان مع مرور الوقت، ونحن الآن أمام غزة، أصبحنا نعي تماما خارج النص والكتاب والصور الفوتوغرافية، ماذا كانت تعني النكبة التي عرفناها من حكايات الأمهات والجدات، والذاكرة الشفوية والصور العائلية القديمة التي نجت بالصدفة أثناء النزوح واللجوء، والروايات والذكريات التي قرأناها، ومن خلال هذه المصادر، تكونت ذاكرتنا لتكون امتدادًا لذاكرة من سبقونا، وتفاعلنا معها وحافظنا عليها بطرق شتى.
اليوم، مع ما يحدث في غزة، نعيش تجربة مشابهة لتلك التي مر بها الجيل الأول من اللاجئين بعد نكبة 1948. أصبحنا، نحن الذين بلغنا سن الثانية عشرة فما فوق، ندرك تمامًا معنى النكبة. وقد خصصتُ ذكر سن الثانية عشرة تحديدا لأن غسان كنفاني كان في هذا العمر عندما وقعت النكبة، ورغم ذلك تمكن من إنجاز ما أنجزه. كما كان محمود درويش في السابعة من عمره خلال النكبة، ومع ذلك ترك إرثا ثقافيا وأدبيا عظيما. نحن اليوم نعيش في ظروف توازي تلك التي مر بها جيل النكبة في عام 1948.
بناءً على ذلك، أعتقد أنه سيكون هناك تفاعلا كبيرا، وهو ما يظهر بوضوح في الأصوات والكتابات الصادرة عن الشباب الذين يكتبون بزخم رائع. لذا، من المهم أن نلتقط هذه الإشارات والذكريات بعناية، وأن ننسق بين المكان المتخيل والمكان المستقبلي. علينا أن نعيد الاعتبار للمكان بطريقة تظل تلامس ذاكرتنا وتاريخنا، حتى نتمكن من الحفاظ على الهوية الجماعية في مواجهة التحديات الجديدة.
تدوين: إذن ربما هذه فرصة أمام الأدب وغيره من الأشكال الإبداعية المتراكمة منذ النكبة للتحول من حالة نظرية إلى حالة مشتبكة مع التجربة الحية؟
بسيسو: نعم، تمثل هذه اللحظة فرصة حقيقية لهذا الفعل، من خلال إعادة قراءة الأدب والتاريخ الفلسطيني، والنكبة الفلسطينية، بالإضافة إلى دور الأدب والثقافة في النضال الوطني الفلسطيني، ولكن بطريقة نقدية وواعية. يجب علينا أن ننحاز إلى النضال الفلسطيني بكل أشكاله، سواء في الأدب، أو الرواية، أو الصورة، أو غيرها من الأشكال الإبداعية. بمعنى آخر، يجب علينا تحويل الحزن والغضب الداخلي، كما حوله من سبقونا إلى جدوى مستمرة.
تدوين: أشرت في أحد نصوصك إلى مقولة "الرجال لا يبكون"، وهي إحدى "التابوهات" المجتمعية الراسخة، مثلها مثل الحديث عن الاضطرابات النفسية. كيف تجاوزت هذه "المحرمات الثقافية" في كتاباتك؟ وما الذي دفعك لاختيار التعبير عن هذه المواضيع بتلك الكثافة الشعرية، رغم أنها غالبا ما تُعتبر محظورة أو غير قابلة للنقاش في الثقافة السائدة؟
بسيسو: ما حدث خلال الإبادة في غزة كان يستدعي منا أن نكشف عن ذواتنا بشكل صريح وواضح، دون أي أقنعة أو صور تجميلية. لقد عانينا من الاضطراب الناتج عن هذه الصدمة العميقة، مما انعكس على تفاصيل حياتنا اليومية. ومن المهم الاعتراف بأننا نبكي، إذ أن القضية لا تتطلب إخفاء هذه المشاعر. وبالتالي، أصبح من الضروري التعمق في مناقشة العديد من التابوهات المتعلقة بالاكتئاب، والاضطراب النفسي ما بعد الصدمة، والرجل والمرأة وغيرها.
علينا إعادة صياغة أرواحنا بطريقة تتناسب مع صراحتنا وتقبلنا لهذه الحالة. لا أرى في تناول هذه القضايا والتابوهات عبر النصوص المختلفة أي نوع من الضعف، بل هو بمثابة مكاشفة حقيقية؛ فلا شيء يعيبنا لأننا بشر.
تدوين: إلى جانب نصوصك الشعرية والنثرية، نشرت أيضا كتابات سياسية ذات طابع أكاديمي من موقعك كأكاديمي إلى جانب كونك شاعرا، أي الحقلين وجدته أكثر تأثيرا وفاعلية في التأثير على المتلقي؟ هل ترى أن الكتابة السياسية قد تساهم في التغيير على المستوى الاجتماعي، أم أن الشعر يحمل قوة أكبر في التأثير الشخصي والعاطفي؟
بسيسو: كنت أحاول دائما التعبير عن ذاتي من خلال التوازن بين الكتابة الأكاديمية التحليلية والكتابة الوجدانية. إذ يسعى الإنسان في هذا السياق إلى قراءة المفردات السياسية وفهم المتغيرات والمصالح الإقليمية والدولية، في محاولة لإيجاد تفسير لهذا الواقع القاسي، وتقديم تحليل يمكن للعقل فهمه وقراءته بطريقة ما ومع ذلك، أعتقد أن الكتابة الأقرب إلى نفسي هي تلك التي تنحاز في جوهرها إلى العاطفة.