تدوين- سوار عبد ربه
في العاشر من شباط 2025، قامت قوات الاحتلال بمداهمة المكتبة العلمية في مدينة القدس المحتلة، حيث صادرت كتبا تتعلق بالقضية الفلسطينية واعتقلت أصحابها. وبعد الإفراج عنهم، أصدرت سلطات الاحتلال أمرا يقضي بإبعادهم عن المكتبة. لم يمر هذا الحدث مرور الكرام نظرا للمكانة المرموقة التي استطاعت هذه المكتبة ترسيخها على مدار 38 عاما منذ افتتاحها، واستمرارها في ظل الاستعمار الذي لم يتوانَ يوما عن تنفيذ إحدى أهم استراتيجياته، وهي محاولة محو الهوية العربية الفلسطينية في المدينة المحتلة وتدمير الذاكرة الجماعية عبر سياسات محو ثقافي منظمة. هذه السياسات لم تقتصر على منطقة جغرافية واحدة من كامل فلسطين، بل شملت مختلف المناطق رغم اختلاف الأساليب المتبعة. ففي قطاع غزة، على سبيل المثال، تعرضت المكتبات للقصف، ومسحت العديد من المراكز الثقافية خلال حرب الإبادة. وفي الضفة الغربية، خلال العمليات العسكرية التي نفذها الاحتلال في شمال الضفة، دوهمت العديد من المكتبات وصودرت محتوياتها.
وتاريخيًا، ظلت الكلمة الفلسطينية هدفا مستمرا للاستهداف والملاحقة، سواء عبر السرقة أو النهب أو الاغتيال أو الاعتقال أو المنع. في محاولة لفهم هذه الممارسات الاستعمارية، التقت "تدوين" بالكاتب الفلسطيني سمير أبو الهيجاء، الذي قام بتوثيق الذاكرة الفلسطينية من خلال عدد من المؤلفات. وقد جمد نشر عمله الجديد مؤخرا بعد استشارات قانونية، في ضوء المتغيرات السياسية المتسارعة التي تشهدها القضية الفلسطينية. وأجرت معه الحوار التالي:
تدوين: ما الدور الذي تلعبه المكتبات في الحفاظ على الهوية الوطنية الفلسطينية في ظل الهيمنة الاستعمارية ومحاولات المحو الثقافي؟
أبو الهيجاء: للمكتبة دور كبير ومهم للغاية في الحفاظ على الهوية الفلسطينية، حيث تتيح للقارئ الفلسطيني بشكل خاص والعربي بشكل عام أن يدرك أن له تاريخًا وجذورًا عميقة، وأنه لم يتواجد في فلسطين بمحض الصدفة، بل هو منحدر من نسبٍ معروف. هذه الكتب، المؤلفة من قبل المؤرخين، تسد الطريق أمام مزيفي التاريخ. فعندما يتم توثيق الحدث بأمانة وصدق في كتب محفوظة في متناول أيدي الناس، فإن هذا التاريخ يبقى محفوظًا.
ومع إصرار الكتاب والأدباء على نقل الحقيقة للأجيال القادمة، عملوا على توثيق الشهادات على التاريخ والنكبات، ما جعلها تتجذر في صدور الناس. على سبيل المثال، إذا سألنا أي طفل في أي مخيم: "من أين أنت؟"، يجيب قائلاً: "أنا من حيفا، أنا من يافا، أنا من اللد، من الرملة"، رغم شدة الظروف التي يعيشونها. لا يمكن لأي شخص أن ينسى مسقط رأسه.
تدوين: كيف انعكست سياسة استهداف الكلمة الفلسطينية، سواء من خلال ملاحقة أصحاب الكلمة مثل الشهيد غسان كنفاني، أو من خلال استهداف المؤسسات الثقافية، وسرقة الأرشيف ونهب الكتب، على تشكيل الهوية الفلسطينية وحفظ الذاكرة الجماعية للشعب الفلسطيني؟
أبو الهيجاء: رغم تركيز السلطات المختلفة على محو الذاكرة الفلسطينية، فإن الكتاب الفلسطينيين دأبوا على التوثيق من خلال الشهادات الحية والروايات، مثل رواية "رجال تحت الشمس" للكاتب غسان كنفاني. فقد عملت هذه الروايات على ترسيخ الذاكرة الفلسطينية، رغم أن القاعدة تقول إن التاريخ يكتبه المنتصر. فكم من المنتصرين كتبوا لتشويه التاريخ ومحوه، إلا أن الرواية الشفوية ما زالت حاضرة في وجدان الشعب الفلسطيني.
تستمر هذه الروايات والشهادات الشفوية في الانتشار بأعداد كبيرة، مما يشكل حاجزًا أمام محاولات سرقة المكتبات التي يعتمد عليها الاحتلال في كل مكان يستعمر فيه شعبًا ما. في حالة الشعب الفلسطيني، تمت سرقة المكتبات في العديد من المدن الفلسطينية، مثل القدس ويافا وحيفا. لكن القارئ الفلسطيني لا يزال يبحث عن الحقيقة التي يسعى الاحتلال إلى طمسها، وتبقى الرواية الفلسطينية حية، سواء كانت نصًا مكتوبًا، شعرًا، نثرًا، أو من خلال الشهادات الشفوية لمن عاشوا النكبة وذاقوا مرارتها. وهذا ما وثقته في إصداراتي التي احتوت على شهادات مئات الفلسطينيين، الذين أكدوا أنه رغم السرقات والنهب، ستظل فلسطين هي الهدف وروايتها سيدة الموقف.
تدوين: برأيك، هل ستؤدي سياسة الملاحقة إلى تراجع الإنتاجات الثقافية المرتبطة بالقضية الفلسطينية، أم ستشكل تحديا يحفز على استمرار تلك الإنتاجات، كتابة أو تداولا؟
أبو الهيجاء: في الحقيقة، أثرت سياسة الملاحقة في الفترة الأخيرة بشكل كبير، حيث كان هناك تراجع في عدد الإنتاجات الثقافية، بما في ذلك إنتاجاتي الشخصية. فقد تأجل إصدار آخر أعمالي لمدة عام بعد استشارات قانونية، وهناك عمل جديد لي تم تجميده حاليًا بسبب الملاحقة. ومع ذلك، لا تزال هناك إصدارات جديدة صدرت في الأشهر الأخيرة، وسيصدر المزيد في المستقبل، وهي تمثل تحديًا كبيرًا، خاصة بعد المضايقات والمحاكمات والأحكام القاسية بحق الشعراء. على سبيل المثال، تم سجن شاعرة لعشرة أشهر بسبب كلمة واحدة هي "قاوم". وبالتالي، أقول المثل الشعبي المعروف: "ما بروح دين ووراءه مطالب".
تدوين: كيف تقرأ هذه السياسات في ظل الانفتاح التكنولوجي وعصر الرقمنة، حيث أصبحت المصادر متاحة إلكترونيا ويمكن الوصول إليها بطرق متعددة؟
أبو الهيجاء: ورد عن وزير خارجية أمريكا، كورديل هيل (1929 – 1945)، أنه قال: "إذا أردت أن تلغي شعبًا ما، عليك أن تبدأ بشل ذاكرته التاريخية، ثم تشوه لغته وثقافته، وتجعل هذا الشعب يتبنى ثقافة أخرى غير ثقافته، ثم تلفق له تاريخًا آخر غير تاريخه وتعلمه إياه. عندئذٍ ينسى هذا الشعب من هو ويصبح كالأمم المنقرضة". هل تتعرض هذه السياسة نفسها للشعب الفلسطيني المنكوب؟ أعتقد أن هذه السياسة مورست منذ النكبة وقبلها، وما زالت تمارس حتى يومنا هذا.
أما بالنسبة للانفتاح التكنولوجي، فهو سيف ذو حدين؛ يمكن الاستفادة منه، لكن يبقى السؤال: من الذي يغذي تلك المواقع بالمعلومات؟ إنه الإنسان. ومن هو هذا الإنسان؟ هل يتعامل مع المعلومات على أنها معلومات تاريخية أم لإملاء سياسة معينة بتوجيه أجهزة أمنية؟ من خلال تجربتي الذاتية، هناك معلومات غير دقيقة في محرك البحث "جوجل"، لذلك تجد أن أي منشور أو أي ملاحظة لا تعجب مغذي المعلومات وأسياده يتم تجاهلها أو إغلاق الحسابات المرتبطة بها.
على سبيل المثال، هناك الكثير من المعلومات عن النكبة الفلسطينية غير دقيقة، وهناك تلاعب في هذه المعلومات، مثل إلغاء معلومات وإنكار مجازر، مثل مجزرة الطنطورة على ساحل البحر المتوسط. كما أن هناك تفاوتًا في عدد الضحايا في مجزرة دير ياسين. الرأي السائد في المجتمع الإسرائيلي هو: "نحن لم نطرد الفلسطينيين من قراهم، نحن جئنا إلى أرض فارغة، بدون شعب". فإذن، أي منصة إلكترونية يمكنني اتباعها كقارئ؟ يبقى الكتاب الورقي في مكتبتي أكبر دليل وبرهان على صدق الكاتب الفلسطيني أو الروائي الفلسطيني.
تدوين: هل يمكن الربط بين استهداف المكتبات والمراكز الثقافية في غزة مؤخرا، وبين استهداف المكتبات في القدس؟ وهل لهذا الاستهداف دلالة معينة بالنظر إلى المنطقتين كجغرافيتين مختلفتين من حيث السياسات الاستعمارية المتباينة وما تقتضيه كل منهما من منهجيات مختلفة في التعامل مع الفلسطينيين في كل سياق؟
أبو الهيجاء: أكيد، استهداف المكتبات في غزة مؤخرًا واستهداف المكتبات في القدس مرتبطان ببعضهما البعض، رغم بُعد المسافة بينهما، فالاحتلال واحد والضحية واحدة: الشعب الفلسطيني. وهذا يرتبط بما ذكرته في الإجابة السابقة عن كورديل هيل، الذي قال: "إذا أردت أن تلغي شعبًا ما، عليك أن تبدأ بشل ذاكرته التاريخية، ثم تشوه لغته وثقافته، وتجعل هذا الشعب يتبنى ثقافة أخرى غير ثقافته، ثم تلفق له تاريخًا آخر غير تاريخه وتعلمه إياه. عندئذٍ ينسى هذا الشعب من هو ويصبح كالأمم المنقرضة".
كان من الواضح أن استهداف كل شيء في غزة كان يتم بمساعدة أمريكا، بقصد شل الذاكرة الفلسطينية ومسح الهوية. هكذا يعمل الاستعمار في كل مكان، حيث يقضي على كل شيء ثم يطالب بإقصاء السكان بما يسمى "الترانسفير". إضافة إلى ذلك، يعمل المستعمر على تغيير مناهج التعليم وفقًا لرغبات المحتل والمغتصب للأرض.
تدوين: في كتاب "إبادة الكتب" للألمانية ربيكا نوث، تقول: "المكتبات قد تكون الحصون الأساسية ضد الاندثار الثقافي، وتدميرها هو آلية يسعى من خلالها النظام السياسي إلى إضفاء شرعية على هيمنته على الأقليات المتنافسة أو تأكيد مزاعمه بحقوقه في الإقليم والموارد". إلى أي مدى تتقاطع هذه المقولة مع الواقع الراهن في مدينة القدس، خاصة في ظل التحولات الديموغرافية التي يسعى الاحتلال لتحقيقها، والتي تتضمن سياسات تهدف إلى تقليص الوجود الفلسطيني وتحويل القدس إلى مدينة ذات أكثرية يهودية؟
أبو الهيجاء: ما يمكن قوله عن الكاتبة الألمانية ربيكا نوث ينطبق تمامًا على الواقع الذي يحدث في القدس. ما يجري لا يمكن أن يقبله المنطق السليم؛ فالاحتلال يسعى لفرض هيمنته على كل شيء في القدس، سواء كان في عدد السكان أو من خلال المناهج التعليمية التي تصر وزارة التعليم على فرض التعليم الإسرائيلي عليها تحت ضغط منع الميزانيات للمدارس الفلسطينية. بالإضافة إلى هدم البيوت، كل ذلك يأتي في إطار مسعى لخفض عدد المواطنين العرب وزيادة الضرائب عليهم.
علاوة على ذلك، هناك الهجوم المستمر على المكتبات، وبسطات الكتب، وأكشاك الصحف، والتي تعد هدفًا استراتيجيًا للاحتلال. فقد صادر الاحتلال الكثير من الأراضي الوقفية بحجة وجود آثار يهودية فيها، وهو جزء من سياسته لتكريس السيطرة على المدينة وتغيير معالمها.
تدوين: بالنظر إلى الكتاب كوسيلة لتنظيم وتوثيق المعرفة، خصوصا في ظل محاولات المحو الثقافي التي لا يتوقف الاستعمار عن ممارستها، كيف تقيّم الوعي الفلسطيني بأهمية الكلمة ودورها في المواجهة، وهل ترى أن الكلمة في زمننا الحالي ما زالت تؤدي دورها الوظيفي والقيمي بشكل فعال؟
أبو الهيجاء: يعتبر الكتاب أفضل وسيلة لحفظ وتوثيق المعرفة، رغم محاولات المحو الثقافي المتعمد، الذي يتم تنفيذه بشدة ويمول من مؤسسات كبيرة. فماذا يعني أن يُمنع شاعر من ذكر فلسطين في شعره؟ وما معنى أن يُحظر على الكاتب ذكر مدينة القدس في نثره وسرده؟ ولكن، أعتقد أن الوعي الفلسطيني بدأ يولي اهتمامًا أكبر بالكلمة المكتوبة والمعلومة الصحيحة، خصوصًا بعد الأحداث الأخيرة في غزة والضفة الغربية.
وأعتقد أن الكلمة تؤدي دورها الوظيفي بشكل قوي، رغم التنافس بين الوسائل الإلكترونية والكتاب في سرعة نقل الحدث. لكن الكتاب يبقى حاضرًا، ولا يمكن منافسته بحسب تقديري الخاص. كما أعتقد أن الوسائل الإلكترونية ستفقد كثيرًا من اهتمام الناس، وسيرتد الكثيرون إلى الكتاب بشكل أكبر في المستقبل.