الثلاثاء  08 نيسان 2025

التكنولوجيا الرقمية وفرص استدامة الصناعات التقليدية الفلسطينية

2025-04-08 01:51:23 AM
التكنولوجيا الرقمية وفرص استدامة الصناعات التقليدية الفلسطينية

تدوين- جاد عزت الغزاوي*

ملخّص

تتناول هذه الورقة البحثية؛ مسألة الصناعات التقليدية الفلسطينية ضمن بعديها الهوياتي والاقتصادي، إذ تستعرض أهم المعيقات وما تتسبب به من اتساع في الفجوة الفاصلة على صعيد زيادة حضور ونمو هذا القطاع، وتُقَدِّم افتراضاً مبدئياً بأن التكنولوجيا الرقمية تفتح مجالاً واسعاً أمام تقليص ما تتضمنه المعيقات من فجوات وثغرات على صعيد التسويق الإلكتروني وزيادة عدد الزبائن المحتملين محليا وخارجياً.

المقدّمة

ساهمت الصناعات التقليدية عبر تاريخها في بلورة ملامح التراث الثقافي الفلسطيني، إذ شكّلت إلى جانب دورها الاقتصادي مجالاً حيوياً للتعريف بالهوية، ومصدراً للتباين عن باقي الدّول لما تتضمّنه من مميزات تجعلها مختلفة ومرغوبة. واعتبرت كذلك مكونا من مكونات الثقافة الفلسطينية.  لذا فإن أهمية الصناعات التقليدية تتجاوز حدودها المادية أو المعيشية، لتطال أبعادا وطنية وتاريخية، ما يدعو إلى الاهتمام بها حتى لا تندثر أو تفقد قدرتها على الاستمرار، فهي تتعرض لتهديدات متنوعة، أهمها جودة المنتج وقدرته التنافسية والوصول إلى المستهلكين المحليين والأجانب.

ومن الأسباب الموضوعية لتناول هذه المسألة، هو ما تتطلّبه تلك الصناعات من عناية خاصة، وتحديداً في مجال تنمية القدرات لدى العاملين فيها، والعمل على تمكينهم لتحقيق الأرباح الكفيلة بمواصلة نشاطهم وذلك من خلال طرح الأفكار المتعلقة بالتغليف والترويج والتصاميم، وغير ذلك من الوسائل المعززة للتسويق الثقافي ضمن السياقات الرقمية.

إذاً، تأتي هذه الورقة، لتطرح سؤالاً محورياً: ما هي الآفاق الممكن استغلالها فيما يتعلّق بالتحولات الرقمية من أجل استدامة الصناعات التقليدية الفلسطينية؟

يندرج ضمن ذلك، العديد من الأهداف التي يمكن التعبير عنها وخاصة أن الورقة البحثية تهدف إلى خلق الروابط بين المكوّنات الرئيسية التي يمكن للصناعات التقليدية أن تُشكّلها لما تتمتع به من خصوصية، فهي تتضمن أبعادا اقتصادية هامة، وتراثية لا تقل أهمية في بلورة الهوية الفلسطينية، ومن هذا المنطلق فإن المزاوجة بين التكنولوجيا والصناعات التقليدية ستؤدي إلى إحداث نقلة نوعية على هذا الصعيد.

كما أن الورقة البحثية تأتي في سياق الاهتمام بالبعد الرقمي وأثره على الصناعات التقليدية، وكيف له أن يُقدّم تلك الصناعات بحلّة جديدة، وخاصة أن هناك ضعفا واضحا على صعيد استخدام التكنولوجيا الرقمية في هذا السياق، لا سيّما وأن معظم الصناعات التقليدية في فلسطين تُعاني من أزمات متنوّعة كالقصور في التسويق، إذ أن غالبية العاملين في الصناعات التقليدية هم من ذوي التحصيل العلمي المتواضع.

لذا فإن الورقة البحثية تفترض أن التكنولوجيا الرّقمية ستضاعف من الفرص للوصول إلى أكبر شريحة ممكنة من المستهلكين.

وستؤدي إلى تقليل التكاليف والرفع من مستوى الجودة بما يُحقق الأرباح من جهة، ويُحافظ على استدامة الصناعات التقليدية بوصفها أحد مكوّنات الهوية التراثية والثقافية الفلسطينية  من جهة أخرى.

1

الأبعاد الاقتصادية والتراثية للصناعات التقليدية

لقد عرفت مؤسسة المواصفات والمقاييس الفلسطينية الصناعات الحرفية التقليدية على أنها، "هي تلك الصناعات التي يقوم بمزاولتها فرد أو مجموعة من الأفراد لغرض إنتاج أو تصنيع منتوجات بالطرق التقليدية وتعتمد في صناعتها على اليد أو الآلات البسيطة، وترتبط ارتباطاً وثيقاً بتاريخ وتراث الشعب الفلسطيني" (مؤسسة المواصفات والمقاييس، ميثاق جودة الصناعات الحرفية التقليدية الفلسطينية، 2019، ص5).

ولا يخفى على أحد الأهمية التاريخية والاقتصادية للصناعات التقليدية، فعلاوة على أبعادها الثقافية فإنها تعتبر واحدة من أهم مصادر الدخل التي تصدرت التجارة الفلسطينية قبل مئات السنين، ذلك لاعتمادها على المواد الخام المرتبطة بطبيعة البلاد، كخشب الزيتون وزيت الزيتون والصوف والنسيج والطين وغير ذلك، ولأنها تعتمد أيضاً على مهارة الأيدي العاملة دون الحاجة إلى آلات معقدّة. لذا فإنها تعكس طابعاً وطنياَ بامتياز لما تتضمّنه من أبعاد هويّاتية ذات آثار اقتصادية.

تبعاً لذلك، شكّل الاهتمام بالسوق هاجساً للعاملين والمهتمين في قطاع الصناعات التقليدية الفلسطينية منذ أن بدأت الأنماط الشرائية بالتغّير نتيجة الحصار وتدهور الأوضاع الأمنية والسياسية من ناحية، ونتيجة انفتاح السوق الفلسطيني على الواردات العالمية والتقدم على صعيد تعدد الخيارات وتنوّع مصادرها في الأسواق المحلّية من ناحية ثانية، ذلك أن أنماط السلوك التي غزت المستهلك الفلسطيني جعلت الاقتصادات التقليدية في حالة من التراجع في ظل غياب السياسات الاقتصادية القادرة على حماية المنتجات المحليّة لا سيّما منتجات الصناعات التقليدية، فواحدة من الدراسات الرائدة في هذا السياق هي دراسة أُجريت عام 2000، لصالح جمعية مخيم قلنديا النسائية التعاونية، تحت عنوان دراسة سوق المطرزات الفلسطينية التقليدية والجوادل في فلسطين،  جاءت تلبية لحاجة باتت ملحّة تقتضي إعادة النظر في آليات التسويق المتبعة في ظل التراجع الحاصل على صعيد ترويج وبيع منتجات التطريز في الجمعية، فقد بيّنت الدراسة أن حوالي 90% من منشآت قطاع النسيج والملابس تعاقدت من الباطن مع مؤسسات إسرائيلية. (جمعية مخيم قلنديا التعاونية النسائية، 2000).

إن أشكال الهيمنة الإسرائيلية على الإنسان الفلسطيني لا يمكن حصرها، فعلى صعيد الاقتصاد والتجارة فإن السوق الفلسطيني مرهون بالإجراءات الإسرائيلية في هذا الإطار، إذ يعاني من اختلالات جوهرية نتيجة للسياسات والإجراءات الهادفة إلى تقويض قدراته المستقبلية التي يمكن لها أن تنتقل بالاقتصاد الفلسطيني إلى مصاف الاقتصادات الأخرى، إذ تعمّدت تلك السياسات والإجراءات إلى خنق الاقتصاد المحلي وتقليصه إلى أبعد الحدود، بحيث يبقى تابعاً للاقتصاد الإسرائيلي الذي يتحكم فيه من حيث مدخلاته ومخرجاته.

إن ذلك التحكم لم يقتصر على إخضاع الأنماط السلوكية الشرائية للفلسطينيين بما يجعلها تابعة للمستمثرين الإسرائيليين فحسب، بل تعداه إلى أبعد من ذلك، فعلى سبيل المثال أصبحت النساء في العديد من القرى الفلسطينية تقوم بإنتاج المطرّزات بأسعار زهيدة لصالح مستثمرين إسرائيليين ليُعاد تصدير وبيع تلك المطرّزات على أنها منتج تراثي إسرائيلي. إن ذلك يتكرر ضمن مختلف الصناعات التقليدية تقريباً. حيث تقوم دور العرض الإسرائيلية باستخدام الأيدي العاملة الرخيصة من النساء الفلسطينيات في تطريز ملابس خاصة بتلك الدور، ومن ثم تقوم بعرضها في المعارض الدولية باعتبارها أزياء إسرائيلية وباعتبارها جزءاً من التراث الإسرائيلي في المنطقة، وتجني بذلك أرباحاً مادية ومعنوية كبيرة على حساب تاريخ الشعب الفلسطيني. (جمعية مخيم قلنديا التعاونية النسائية، 2000)

وإذا ما رجعنا إلى تاريخ الصناعات التقليدية فإن بعضها كان يهدف إلى الاستخدام الشخصي، فالمطرّزات على سبيل المثال لم تكن سلعة متداولة في السوق، وإنما عُرفت كسلعة إثر نكبة عام 1948 عندما اضطر الإنسان الفلسطيني إلى بيع مقتنياته كي يستطيع العيش، إن هذه المحطّة الفارقة جعلت من الصناعات التقليدية الفلسطينية متداولة ضمن هذا الإطار كمصدر تراثي واقتصادي متعدد الطبقات من حيث تأثيراته الثقافية والمعيشية.

ولعل المثير للاهتمام هو أن عملية الإنتاج بدأت بالتطوّر على صعيد الصناعات التقليدية منذ أن عرفت التجارة الفلسطينية طريقها إلى أوروبا، إذ "في حوالي عام 1930 استورد تجار القدس وبيت لحم الأقمشة المشغولة آلياً وكذلك الخيطان المصنّعة في أوروبا التي بدأت تحل شيئاً فشيئاً مكان خيطان الحرير الأصلية اللماعة. إذ أن الخيطان الجديدة كانت متوفرة ومجهزة للتطريز بينما كان على المرأة إذا أرادت أن تطرّز بالحرير الأصلي الطبيعي أن تعده هي وأحياناً كان عليها أن تصبغه في البيت" (جمعية مخيم قلنديا التعاونية النسائية، 2000، ص26).

بالاتصال مع ذلك، عرفت الصناعات التقليدية الفلسطينية حضوراً مميزاً منذ بداية القرن الثامن عشر، وخاصة إثر زيادة الاهتمام الأوروبي بالمنطقة، ما أدى إلى إحداث تطور في الحياة الاقتصادية والاجتماعية انعكس إيجابيا على طبيعة النمو السكاني والمعيشي، وقد دخلت تلك الاهتمامات في دائرة الحرف الصناعية وخاصة التحف وصناعات الأراضي المقدّسة التي أخذ إنتاجها يزداد مع ازدياد وصول الحجاج إلى الأراضي المقدّسة ومع البدء بتصدير هذا النوع من الصناعة إلى الخارج. (الجمعية الأنطونية الخيرية البيتلحمية، 1998، ص58)

إلا أن ذلك لم يستمر طويلا، إذ أدت نكبة عام 1948 ونكسة عام 1967 إلى خلخلة التركيبة السكانية في فلسطين، لا سيّما في المدن التاريخية مثل الناصرة ويافا وحيفا والقدس وبيت لحم وغيرها، ما أدى إلى ضمور العديد من الصناعات التقليدية بسبب الحصار المفروض على الفلسطينيين، فالظروف السياسية والأمنية ألقت بظلالها على حركة السوق المرتبطة بالصناعات التقليدية، إذ باتت تُعاني من العديد من المشاكل والصعوبات المتعلّقة بالجوانب الإنتاجية والتسويقية والتمويلية.

في هذا الإطار تطرّق معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني (ماس) في دراسة أجراها بالخصوص بعنوان: قطاع الصناعات الحرفية غير المنظم في الأراضي الفلسطينية- الواقع والآفاق عام 2006، إلى جملة من المشاكل والصعوبات التي واجهت الصناعات التقليدية، فمن الناحية الإنتاجية واجهت هذه الصناعات مجموعة من الصعوبات المتعلقة بالحصول على المواد الخام المستخدمة في العملية الإنتاجية، وتحديداً المواد المستوردة، كما أن الآلات والمعدات المستخدمة في الإنتاج لا زالت بدائية ولا تحقق الكفاءة الإنتاجية، أضف إلى ذلك ندرة الأيدي العاملة والماهرة والمدربة، أما الجوانب التسويقية، فتتمثل الإشكالات على هذا الصعيد باعتماد تلك الصناعات على الحركة السياحية والطلب الخارجي لدول العالم، وقد تأثر كلا المصدرين خلال السنوات الأخيرة بالأوضاع السياسية والأمنية وما رافقها من إجراءات ومعوقات إسرائيلية، يضاف إلى ذلك محدودية استفادة المنتجين من وسائل الترويج، وضعف المشاركة في المعارض المحلية والخارجية بسبب ارتفاع التكاليف، ولغياب الجهات الراعية لهم، ولعدم قدرتهم على الولوج في عالم الأسواق المحلية والعالمية بشكل مباشر، إذ تتم عملية تسويق منتجاتهم بواسطة كبار التجار أو بعض الوكلاء. (مكحول و قطان، 2006)

السمات السائدة للصناعات الحرفية (مكحول و قطان، 2006، الصفحات 43-44)

1.     يغلب على معظم المنشآت العاملة في مجال الصناعات الحرفية الطابع غير الرسمي، أي أنها غير مسجلة لدى الجهات الرسمية، ولا توجد لها ملفات ضريبية.

2.     إن إنشاءها لا يحتاج إلى رأس مال كبير، حيث تمثل تكلفة فرصة العمل قيمة صغيرة للغاية مقارنة بمنشآت الصناعات الحديثة الصغيرة، كما أنها لا تحتاج إلى خدمات أساسية مميزة أو إضافية.

3.     لا تحتاج الصناعات التقليدية إلى أعداد كبيرة من العاملين، بل تعتمد على عدد محدود من العمال المهرة الذين يتقنون العمل بهذه الصناعات.

4.     في أغلب الأحيان يتم تناقل الحرفة من جيل إلى جيل حيث لا توجد مراكز أو معاهد متخصصة لتدريب العاملين في تلك الصناعات.

5.     يغلب على المنشآت العاملة في مجال الصناعات الحرفية الطابع العائلي، إذ عادة ما يكون العاملون في الورش والمنشآت هم من أفراد العائلة.

6.     إن احتياجاتها من المعدات والآلات ومستلزمات الإنتاج بسيطة نسبيا؛ حيث يغلب عليها استخدام معدات يدوية أو ميكانيكية يتم تشغيلها يدوياً، وهي غير مكلفة في الغالب.

7.     تعتمد بعض الصناعات التقليدية على المواد الخام المحلية.

8.     تتميز بالمرونة العالية في مكان العمل.

في عام 2019 أقرت مؤسسة المواصفات والمقاييس الفلسطينية ميثاق جودة الصناعات الحرفية التقليدية الفلسطينية، إذ تضمّن الميثاق أربعة أهداف فرعية مضافة إلى هدفه الأساسي، وذلك على النحو الآتي:

"الهدف الأساسي من الميثاق هو تمييز وحماية منتوجات الصناعات الحرفية التقليدية الفلسطينية، بالإضافة إلى الإسهام في تحقيق الأهداف الفرعية التالية:

1.     ضمان إنتاج صناعات حرفية تقليدية مرتفعة الجودة.

2.     رفع القدرة التنافسية في الأسواق المحلية والخارجية.

3.     رفع القدرة الإنتاجية لأصحاب الصناعات الحرفية التقليدية.

4.     الحفاظ على الموروث الثقافي والحضاري، واعتماده كأداة من أدوات التنمية الاقتصادية". (مؤسسة المواصفات والمقاييس، ميثاق جودة الصناعات الحرفية التقليدية الفلسطينية، 2019، ص4)

2

الآفاق الممكنة للتحول الرقمي في الصناعات التقليدية الفلسطينية

نعيش تحولات ثقافية واجتماعية متسارعة، إذ ساعدت المعاملات البنكية وما نجم عنها بجعل السوق أكثر وضوحاً، حيث "تتطور المالية العالمية باتحاد وثيق مع الشبكات والتقانات الفكرية ذات الركيزة الرقمية، فهي تنحو باتجاه نوع من الذكاء الجماعي الموزع الذي يتكافأ فيه المال والمعلومات تدريجياً". (ليفي، 2018، صفحة 64)

وقد أشار بيير ليفي في كتابه عالمنا الافتراضي إلى طرق زيادة فعالية العمل إما بتشييء قوة العمل بواسطة الأتمتة أو بواسطة دمج الكفاءات ضمن عالم افتراضي في سياق من العلاقات المتشابكة عبر أجهزة مهمتها مضاعفة الذكاء الجماعي، ذلك أنه في الحالة الأولى يتم استبدال الإنسان بالآلة أما الثانية فإنها تستند إلى التحول الافتراضي من خلال زيادة الفعالية بدمج القدرات الإنسانية مع قدرات الآلة في مزاوجة نوعية تجمع بين الذكاءات الفردية والذاكرة الدينامية لفرق العمل. إن ذلك ينبثق بعبقرية منقطعة النّظير، فكل ما تتضمنه العمليات الافتراضية يترافق بتدافع مستمر ومتجدد وسريع للمعلومات، وهذا ما تنبني عليه الأسواق الحديثة في خروج عن المألوف للتعاملات التجارية التقليدية، فالإنترنت فتح آفاقاً جديدة تتبدل فيها الأنماط المتعارف عليها ليسيل الزمن على بعضه، وتنتقل عبره الأشياء من أماكنها الراهنة إلى أماكن أخرى افتراضية، فهي هنا وهناك في سياق زمانيّ متسارع.

"لا يتعارض الافتراضي من الناحية الفلسفية الدقيقة مع الحقيقي، ولكنه يتعارض مع الفعلي، فالافتراضية والفعلية مجرد طريقتي وجود مختلفتين" (ليفي، 2018، صفحة 15)، إذ "كان الفرد في المؤسسة العادية يتنقل من الحيز الخاص لمنزله إلى الحيز العام في مكان العمل، وعلى النقيض من ذلك فإن العامل عن بعد يحوّل حيزه الخاص إلى حيز عام والعكس بالعكس." (ليفي، 2018، صفحة 27)، "فنحن موجودون في آن واحد هنا وهناك، بفضل تقنيات الاتصال والتواجد عن بعد". (ليفي، 2018، صفحة 29)

لذا، فإن الصناعات الحرفية التقليدية، تندرج ضمن الصناعات الإبداعية، إذ "ظهر تعبير الصناعات الإبداعية لعدم وضوح الحدود بين الفنون الإبداعية والصناعات الثقافية وبين الحرية والرفاهية وبين العام والخاص وبين التجاري والمملوك للدولة وبين المواطن والمستهلك والسياسي والشخصي، فالصناعات الإبداعية مستمدة من المشهد السياسي والثقافي والتكنولوجي" (هارتلي، 2007، صفحة 28).

إن ذلك يتصل على نحو كبير بالاقتصادات الجديدة وما طرأ عليها من تحوّلات جوهرية في بُنيتها، إذ بات منطق الاقتصاد الحديث يرتبط بخدمات المستهلك "فالقيمة لا تأتي من تصنيع أشياء وإنّما من معلومات، حيث أصبحت السيادة في سوق الأسهم لميكروسوفت وشركات الاتصالات العملاقة" (هارتلي، 2007، صفحة 30). ليتمخض عن ذلك أجهزة اتصالات قادرة على التحاور والتخاطب فيما بينها، هذا أدى إلى "التحول من بُنية إلى محتوى" (هارتلي، 2007، صفحة 32).

تبعاً لذلك فإن فكرة الصناعات الإبداعية تتيح توسيع المشاركة في الإمكانات التي يوفرها الإعلام التفاعلي الجديد الذي يطلق عليه الاقتصاد الجديد، ليصبح الاستهلاك جزءاً من دائرة الصناعات الإبداعية لا غايتها النهائية، فهو بذلك مُدخل وليس منتجاً، ذلك أن الصناعات الإبداعية جاءت كنتيجة للعولمة وما طرأ عليها من تغيرات في الأنماط الاقتصادية والاستهلاكية ضمن مناخ من الثقافة والاتصال. (هارتلي، 2007).

ويعتقد الباحثون أن الإنتاج الثقافي سيكون الساحة الرئيسية للتجارة العالمية الراقية في القرن الحادي والعشرين، وضمن هذا السياق الديناميكي فقط يمكن أن يكون للتراث والتقاليد أهمية حقيقية، وذلك يثير مسألة غاية في الأهمية في إطار حديثنا عن الطرق التقليدية أو التراثية ومآلاتها، فيبقى السؤال الأهم بالنسبة إلى أي ثقافة ليس ميراثها الماضي، وإنما القدرات الابتكارية والإبداعية لحاضرها. (هارتلي، الصناعات الإبداعية - الجزء الثاني، 2007).

إن ذلك ينعكس على ما تحاول هذه الورقة تسليط الضوء عليه، إلا أن المعضلة الأساسية هي أن القضية الفلسطينية ترتبط بشكل وثيق مع تاريخها وسرديتها، فمحاولة الابتكار والإبداع الحاضرين سيبقيان مشدودين بوثاق التراث، فكل ابتكار لا يُعزّز من التراث الفلسطيني سيبقى مُحايداً وضعيفاً وكل ابتكار ينهض بالقضايا التراثية سيلقى تشجيعاً وإقبالاً.

تسويق منتجات الصناعات التقليدية والحرفية عبر الإنترنت:

إن تجارب الدّول الحديثة تستند إلى فكرة استخدام تكنولوجيا المعلومات في العمليات التجارية المتعلّقة بالصناعات التقليدية، ذلك أن الحكومات من خلال توفيرها للبنى التحتية التكنولوجية لقطاع الصناعات التقليدية تضع شريحة الحرفيين والمهرة على الطريق السّليم في تنمية واستدامة أعمالهم ومنتجاتهم التقليدية والفنية، فمن خلال الترويج والتسويق عبر الإنترنت استطاع أصحاب الحرف والصناعات التقليدية نقل منتجاتهم من منطقة الظّل إلى مناطق أكثر اتساعاً على المستويين المحلي والدّولي.

بحسب موقع (datareportal) العالمي، بلغ عدد مستخدمي الإنترنت في العالم مطلع عام 2023 حوالي 5.16 مليار نَسمة أي ما يُعادل 64.4% من عدد سُكان الكرة الأرضية،  لنجد أن النسب تغيّرت تصاعديا بعد عام واحد فقط (2024) لتصبح نسبة مستخدمي الإنترنت 66.2%.[1] بزيادة 190 مليون نسمة عن كانون ثاني 2023، وبزيادة تصل إلى 690 مليون نسمة خلال ثلاث سنوات. من خلال الأرقام والإحصاءات السابقة يتبين لنا الحجم الضخم لمستخدمي الإنترنت عبر العالم، ما دفع بالكثيرين لترويج صناعاتهم عبر الشبكات العنكبوتية لزيادة حصصهم من السوق والاستفادة قدر الإمكان مما توفره التقنيات الحديثة من امتيازات ترتبط بانخفاض التكاليف وسرعة الوصول إلى المستهلك محليا ودوليا.

يستعرض الباحثان سماعيل حسيبة ومزيان حمزة في بحثهما بعنوان: تسويق منتجات الصناعة التقليدية والحرفية عبر الإنترنت عددا من التجارب الدولية في هذا السياق، من بينها فرنسا، حيث يوضح الباحثان أن الحرف اليدوية وحدها تشكّل 25% من الاقتصاد الفرنسي، "إذ تم تنمية هذا القطاع العام عبر إنشاء منتدى (Studyrama) وهو مكان للتبادل والمناقشة بين طلاب المدارس الثانوية والطلاب والمعلمين الحرفيين، ما زاد من عدد الأعمال التجارية من الحرف اليدوية بنسبة 11.3% من الاقتصاد الفرنسي بنسبة 6 مليارات يورو كل عام". (حمزة، 2022، صفحة 137)

إن ذلك، يؤكد أهمية تسويق منتجات الصناعات التقليدية والحرفية، وربطها بالأبعاد التقنية والإلكترونية، فعلى سبيل المثال، نجد أن مؤسسة دار الصانع التابعة لوزارة السياحة في المملكة المغربية قد خصّصت ضمن برنامجها مشروعاً استراتيجيّاً يتمثّل بالتجارة الإلكترونية بوصفه دعامة جديدة لتسويق المنتجات في مجال الصناعات التقليدية، حيث عملت على دمج سبع منصات للتجارة الإلكترونية تتضمن جميع المنتوجات، إذ تعمل مؤسسة الصانع على تحفيزها وفتح الآفاق أمامها على صعيد العلاقات الدّولية، ففي هذا الإطار أقامت المؤسسة علاقات مع وزارة السياحة والعلامة التجارية الفرنسية "لافيط" بهدف تسويق المنتجات المغربية المتعلقة بالصناعات التقليدية وتوسيع قاعدة الزبائن في هذا السياق.[2]

ليس بعيداً عما سبق، نشرت صحيفة الشرق الأوسط في تشرين ثاني من العام 2020، تحت عنوان: الحرفية التقليدية تجتمع مع التكنولوجيا الحديثة للدفع بمفهوم الاستدامة، تقريراً حول أبعاد التكنولوجيا في تطوير الصناعات التقليدية والحرفية من حيث الجودة ومن حيث التسويق وكيف أن لبناء المنصات المتخصصة في ذلك أن تُحدثَ فارقاً في هذا الإطار، حيث جاء في التقرير:

"دعم الأمير تشارلز لكل ما هو مستدام واحترام التقاليد في الوقت ذاته، شجعه في عام 1986 على إطلاق مؤسسته «ذي برينسيس فاوندايشن» التي تعنى بالأمور الإنسانية والمجتمعية كما بالتقاليد الحرفية الأسكتلندية، بدءا من الصوف والتارتان إلى فن العمارة والتصميم والزراعة وغيرها. هذه المؤسسة هي التي كانت الجسر الذي وصل منه فريديريكو ماركيتي الرئيس التنفيذي لـ«يوكس نيت أبورتيه» إلى الأمير في العام الماضي. حينها تم الإعلان عن أول تعاون بينهما، على أن يكون احتفاء بالتراث الغني والأصيل لصناعة الأقمشة في كل من بريطانيا وإيطاليا. أما الهدف فهو ضمان مستقبل هذه الصناعة لدعم أيادٍ شابة لا سيما أن الحرفيين الكبار بدأوا يختفون أو يتقاعدون وهو ما قد يؤدي إلى فراغ ونقص مهارات مهمة في هذا المجال.
 تلخص عنوان التعاون بين الطرفين، في كلمة واحدة هي «أرتيزان» Artisan أي الحرفي، وجاء على شكل مبادرة من بطولة ستة طلاب إيطاليين وستة طلاب بريطانيين التقوا مرتين فقط وجها لوجه، واحدة في ميلانو والأخرى في «دامفريز هاوس»، مقر مؤسسة The Prince’s Foundation في مقاطعة أيرشاير الأسكتلندية. كل التعاونات الأخرى بينهم جرت عن بعد بواسطة تطبيقي الواتساب وزووم، وكانت النتيجة تشكيلة مدهشة صنعت باليد وبالحب وتتكلم لغة التكنولوجيا الحديثة بأناقة ورقي.

3

أهم النتائج والاستخلاصات

من الجدير بالذّكر، أن مساهمة الصناعات التقليدية في بلورة ملامح  التراث الثقافي الفلسطيني أمر لا يمكن التغاضي عنه، فهناك تاريخ طويل في هذا الشأن، إذ ارتبطت تلك الصناعات بالأرض والإنسان، وكانت جزءا من مآلات الأحداث الكُبرى التي مرت بها الأرض الفلسطينية، وخاصة تلك المتعلّقة بالنكبة بوصفها حدثاً مركّباً ومعقداً متعدد الطبقات والمآلات، وكونها مستمرة ولم تتوقف تأثيراتها حتى يومنا هذا، ويُضاف إلى الدّور الهويّاتي الذي تؤديه الصناعات التقليدية فهنا أهمية اقتصادية بارزة المعالم والحدود، إذ بدون الصناعات التقليدية العديد من الأسر والعائلات والأفراد سيفقدون مصدراً مهماً يعتاشون من خلاله، إلا أن ثمة فجوة تتسع رقعتها بسبب عدة معطيات، أهمها الممارسات الإسرائيلية والضعف في البنية الإدارية والمالية لدى أصحاب تلك الصناعات، ولّعلّنا هنا ندعم باتجاه الرّقمنة كوسيلة هامّة تقلّص من الفجوات والعقبات التي تعترض العاملين في قطاع الصناعات التقليدية، إلا أن ذلك يتطلّب رعاية وعناية حكومية خاصة كما شاهدنا في التجارب التي تم استعراضها في هذه الورقة، فالآفاق الممكنة على صعيد التسويق الإلكتروني والاستفادة من التكنولوجيا في سياق جودة المنتجات يجب أن تأخذ مساحة هامة في تخطيط المؤسسات الفلسطينية ذات العلاقة، رغم ما يجري حاليا من خطط وتصورات بشأن إقامة متجر إلكتروني فلسطيني يهدف إلى تسويق منتجات الصناعات التقليدية وذلك بالتنسيق ما بين الجهات ذات العلاقة وبالتعاون مع القطاعين الخاص والأهلي.

 *جاد غزاوي: باحث في الشأن الثقافي وشاعر فلسطيني

المراجع:

البيتلحمية, ا. ا. (1998). بيت لحم. بيت لحم: الجمعية الأنطونية الخيرية البيتلحمية.

الفلسطينية, م. ا. (2019). ميثاق جودة الصناعات الحرفية التقليدية الفلسطينية. رام الله: مؤسسة المواصفات والمقاييس الفلسطينية.

النسائية, ج. م. (2002). دراسة سوق المطرّزات التقليدية الفلسطينية والجوادل في فلسطين. القدس: جمعية مخيم قلنديا التعاونية النسائية.

حمزة, س. ح. (2022). تسويق منتجات الصناعة التقليدية والحرفية عبر الانترنت. المجلة الأورومتوسطية لاقتصاديات السياحة والفندقة, 129-143.

ليفي, ب. (2018). عالمنا الافتراضي . المنامة: هيئة البحرين للثقافة والآثار.

مكحول, ب., & قطان, ف. (2006). قطاع الصناعات الحرفية غير المنظم في الأراضي الفلسطينية: الواقع والآفاق. رام الله: معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني (ماس).

هارتلي, ج. (2007). الصناعات الإبداعية - الجزء الأول. الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب.

هارتلي, ج. (2007). الصناعات الإبداعية - الجزء الثاني. الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب.


[1]  https://datareportal.com/reports/digital-2023-global-overview-report

https://datareportal.com/reports/digital-2024-global-overview-report

[2]  https://mda.gov.ma/ar/