الثلاثاء  03 حزيران 2025

من الانتفاضة إلى العدوان: الفن الفلسطيني بين فاعلية المشاركة وحدود المراقبة

سليمان منصور منتقدا الأعمال الفنية خلال العدوان: الفن لا يُنتج على عجل

2025-06-02 02:14:16 AM
من الانتفاضة إلى العدوان: الفن الفلسطيني بين فاعلية المشاركة وحدود المراقبة
سليمان منصور

تدوين - سوار عبد ربه

فرض العدوان الذي يتعرض له الفلسطينيون في قطاع غزة منذ 20 شهرا، تحديات جديدة ومركبة، ألقت بظلالها على مختلف الحقول والمجالات، بينها الحقلان الثقافي والفني، إذ وضع هذا الأخيرين أمام تساؤل إشكالي حول دورهما في ظل الواقع الدموي الراهن، خاصة مع الإدراك المتزايد بأنهما لم يكونا يوما بمنأى عن الأهداف الاستعمارية الإحلالية. فالثقافة بمفهومها الشامل، الذي يضم الأدوات والمؤسسات والعقول، ظلت على الدوام إحدى أبرز الأهداف الاستعمارية القائمة في هذا السياق على أساس المحو الثقافي والإبادة المعرفية، وهو ما تجلى بوضوح في الاستهداف الممنهج لصروح ثقافية وأفراد فاعلين في هذا المجال، في قطاع غزة.

وانطلاقا من التحولات البنيوية العميقة التي أفرزتها المرحلة الحالية، بات من الضروري أن يعيد هذين الحقلين تشكيل نفسيهما، وأن يتحمل الفاعلون فيهما مسؤولية مراجعة الأدوات والتقنيات التعبيرية وتطويرها كوسائل مقاومة فاعلة، بما يضمن إعادة تأكيد الهوية الخاصة بالفن الفلسطيني، وإبراز حضورها كما كان الحال في محطات مفصلية سابقة. هذه المراجعة لا تستوجب بالضرورة أن يعمل هذان المجالان جنبا إلى جنب مع الحدث في لحظته الراهنة، بل قد تقود إلى إمكانية المراقبة، الواعية وإعادة ترتيب الأولويات بما يسمح بإعادة بناء خطاب ثقافي وفني على أسس أكثر اتساقا مع حجم التحولات، ما قد يفتح الباب أمام مسار إنتاج جديد يتجاوز اللحظة وانفعالاتها، ويمنح الحدث مكانته المستحقة في الذاكرة الجمعية، ويؤسس لمرحلة إبداعية قادرة على التعبير عن عمق المأساة الفلسطينية. وهي الرؤية التي يتبناها ضيف الحوار، الفنان الفلسطيني سليمان منصور.

في مقابلة سابقة أجرتها "تدوين" مع منصور، قبل نحو عامين، قدم الفنان الفلسطيني قراءة نقدية للحركة الفنية الفلسطينية المعاصرة، عبّر خلالها عن قلقه من ابتعاد العديد من الفنانين عن الفن السياسي، لصالح أشكال أكثر فردانية وشخصانية من التعبير. ورأى أن هذه النزعة، وإن لم تترسخ بعد، تنم عن تأثر واضح بالتحولات السياسية والاقتصادية، الأمر الذي عززته المؤسسات الثقافية الغربية من خلال تشجيع هذا الانفصال بين الفنان وبيئته. إلى جانب مسألة التمويل التي تفرض على الفنان التركيز على موضوعات دون غيرها، وتدفع باتجاه معالجة مسائل يمكن اختزالها في عمل أو معرض على أحسن تقدير ضمن مسيرة الفنان، إلا أن هذه القيود تجعل منها محورا أساسيا للهوية الفنية لأولئك الفنانين.

اليوم، وبعد مرور عام ونصف على اندلاع أحد أكثر أشكال العدوان دموية في العصر الحديث، نعود للقاء سليمان منصور، للوقوف على تلك الملاحظات السابقة، ومراجعة التجربة الفنية الفلسطينية في ضوء التطورات الراهنة، لمساءلة الفن وممارسيه، من حيث الدور، الإنتاج، التوقيت، والحاجة. وتطرح في هذا السياق تساؤلات بشأن ما إذا كانت هذه المرحلة مرشحة لأن تمثل انعطافة في مسار الفن الفلسطيني، تنهي النزعة الفردانية وتعيد الفن إلى أصله بوصفه ممارسة جمعية متجذرة في الهوية الوطنية، ومرتبطة بالواقع الاجتماعي والسياسي للفنان ومجتمعه.

يرى منصور أن هذه المرحلة، بكل ما تحمله من مأساوية وفظاعة، وفرت فضاء خصبا للتعبير الفني، أدت إلى حالة من الكثافة في الإنتاج في أوساط الفنانين الفلسطينيين، غير أن قليل منها فقط كان على مستوى الحدث من حيث العمق الفني والصدق التعبيري.

ويؤكد الفنان الفلسطيني على أن أبرز هذه الأعمال كانت تلك التي أنتجت من رحم المعاناة، على يد فنانين من غزة. إلى جانب أعمال محدودة أخرى من خارج القطاع، رأى أنها جاءت في معظمها بمحض الصدفة، دون قصدية فنية أو وعي إبداعي كاف.

سليمان منصور: الفن ليبلغ مرحلة النضج، يحتاج إلى التأمل واستيعاب التجربة، لا إلى التفاعل اللحظي فقط

ذلك أن الفن ليبلغ مرحلة النضج، وفقا لمنصور، يحتاج إلى التأمل واستيعاب التجربة، لا إلى التفاعل اللحظي فقط، منبها إلى أن الإنتاج الفني الذي يستعجل زمنيا، لا ينطوي على كافة أشكال التعبير الفنية، ففي الوقت الذي يمتلك فيه فن الكاريكاتير قدرة آنية على التفاعل مع الأحداث الجارية، تحتاج الفنون التشكيلية على وجه الخصوص إلى وقت أطول حتى تنضج وتتحول إلى شهادات جمالية وأخلاقية.

بين التوثيق والجماليات

وفي معرض إجابته عن سؤال يتعلق بدور الفن في المرحلة الراهنة، وما إذا كان الاشتغال على الجماليات أمر يجب أن يؤخذ في الحسبان نظرا لحساسية المرحلة، كشرط أساس للإنتاج، يطغى على البعد التوثيقي، أم أن المسارين يسيران بشكل متوازٍ، أوضح منصور أن التوثيق ليس مقتصرا على وسيلة واحدة، ويمكن أن يتحقق عبر أشكال متعددة. غير أن إنتاج العمل الفني لا يكتمل دون الاشتغال على الجماليات.

فالفن بحسب منصور، يتطلب معالجات فنية عميقة تتجاوز التوثيق المباشر، وتستلزم من الفنان أن يتشبع بالتجربة، وأن يعيد إنتاجها من خلال عملية فنية تأملية يفعل فيها الحِس الجمالي والوعي الإبداعي. وهو ما يعني، بحسب منصور، أن العمل الفني الحقيقي لا يُنتج على عجل، بل يُجتر ويُخمر فكربا وجماليا حتى يبلغ مستواه التعبيري المطلوب.

تسليع المأساة

ولا تكمن الإشكالية الرئيسية في الإنتاج الفني الراهن، بحسب منصور في طابعه الاستعجالي فحسب، بل بما هو أعمق من ذلك، إذ يشير إلى ظاهرة تسليع المأساة، التي جعلت من بعض الفنانين يتعاملون مع الحدث كفرصة استثمارية، مستفيدين من قابلية السوق الفنية لشراء كل ما يتعلق بغزة من أعمال.

ويحذر الفنان الفلسطيني من هذا التوجه الذي ينطوي على مخاطر أخلاقية وفنية، عندما يباع العمل فقط لأن عنوانه غزة، وهو لا يحمل قيمة جمالية كافية، إذ يرى منصور أن في هذا استغلالا للمأساة كأداة لتحقيق مكاسب فنية أو تسويقية تفرغ الخطاب الفني من مضمونه الإنساني والسياسي.

بين المراقبة والمشاركة: مرحلتان متباينتان في التجربة الفنية الفلسطينية

سليمان منصور، واحد من أربعة فنانين شكلوا معا مجموعة "نحو التجريب والإبداع"، والتي ظهرت في خضم الانتفاضة الأولى (1987-1993)، ما يدلل على أن الفن، كان يعمل جنبا إلى جنب مع الحدث ولم يكن منفصلا عنه، بل شكل أيضا رافعة وفعلا تحريضيا استمد فلسفته آنذاك من الأحداث الميدانية التي تطلبت تلاحما واشتباكا تنخرط فيه كافة مكونات المجتمع الفلسطيني، الأمر الذي عززته أيضا خطابات منظمة التحرير الفلسطينية، عندما وجهت نداءً حثت فيه "كافة الفئات والطبقات للبدء بمقاطعة شراء سلع ومنتجات الاحتلال لصالح المصانع والمشاريع الوطنية".

مجموعة التجريب والإبداع. من اليمين: سليمان منصور، تيسير بركات، نبيل عناني، فيرا تماري.

يعزو منصور ذلك الانخراط إلى قناعة فنية نابعة من كون الفنانين جزءًا فاعلا من الحراك الشعبي، وليسوا فقط متلقين أو مراقبين، ذلك لأن طبيعة المرحلة آنذاك سمحت بهذا الانخراط، سياسيا وجغرافيا.

ويؤكد منصور أن الانخراط كان مبنيا على فلسفة واضحة تمثلت في مقاطعة منتجات الاحتلال والاتكال على الذات، بما يعكس فهما عميقا لروح المرحلة واستحقاقاتها، خاصة وأن الكاميرا كانت حاضرة بقوة في تغطية أحداث الانتفاضة، فكان الصحفيون والمصورون يلتقطون صورا جميلة ومعبرة، أوصلت القضية الفلسطينية إلى العالمية، بينها صور لأطفال يلقون حجارة وآخرون يواجهون الدبابات. هذا الحضور الطاغي للصورة، شكل قناعة لديه بمحدودية قدرة الفن التشكيلي على مجاراة الكاميرا أو منافستها، ما قاده للبحث عن طرق انخراط بديلة تتيح له التعبير عن هويته الفنية والوطنية.

وبمقارنة تلك المرحلة والواقع الراهن، يرى منصور أن حالة الانخراط الفني الكثيف التي نشهدها اليوم تبدو في كثير من الأحيان، غير مبررة. إذ تختلف طبيعة اللحظتين اختلافا جوهريا: ففي الانتفاضة الأولى، كان الفنانون شركاء في الفعل الثوري، أما اليوم، فالحدث متمركز في رقعة جغرافية واحدة ما يبقي كل من هو خارجها، في موقع المتفرج على مشاهد الإبادة، وبالتالي توجد مسافة شعورية ومادية، تضعف إمكانات الانخراط الحقيقي والفاعل.

إن استعادة هذا الدور الفني في الانتفاضة الأولى، يقود إلى استنتاج مفاده أن الفن لا يقتصر على عملية الإنتاج فحسب، بل يتعدى ذلك ليعدو كونه حالة إبداعية تتطلب قراءة وفهم مواكبين لروح العصر وسياقاته الميدانية، وفي أحيان كثيرة، تكون المراقبة أكثر فاعلية من المشاركة الآنية، كما أن المشاركة قد تتخذ أشكالا متعددة لا تنحصر في الإنتاج، بل قد تتطلب من الفنان أن يخرج من المشهد لصالح أولويات قد تفرضها اللحظة التاريخية.

ويختم الفنان الفلسطيني سليمان منصور حديثه في هذا السياق قائلا: "يكفيها غزة بهدلة، لا أُفضّل أن يعمل الفنانون عليها حاليا"، ضاربا مثالا على أن "أهم الأعمال التي وثّقت الحرب العالمية الثانية أُنجزت بعد عامين من انتهائها".