السبت  14 حزيران 2025

غزة: بين استراتيجيات الإخضاع وسياسات الطرد القسري

2025-06-13 08:09:11 AM
غزة: بين استراتيجيات الإخضاع وسياسات الطرد القسري
د. سليم أبو ظاهر| كاتب ومستشار سياسات من فلسطين

تدوين- د. سليم أبو ظاهر

لم تكن غزة يومًا مجرد رقعة جغرافية صغيرة مطلة على البحر، بل ظلّت على الدوام عقدة سياسية وأمنية واستراتيجية في الوعي الصهيوني، ومحلًا لمعادلات إقليمية ودولية أكبر من حدودها. ولعلّ أهم ما يجعل غزة "قضية" دائمة هو تمسك سكانها بفلسطينيتهم، ورفضهم للوقائع التي سعت إسرائيل إلى فرضها على الأرض، سواء عبر الحصار أو العدوان المتكرر أو محاولات تفكيك البنية الاجتماعية والاقتصادية.

تسعى إسرائيل، منذ عقود، إلى جعل غزة مكانًا طاردًا لأهلها. لم يكن الأمر عارضًا أو وليد اللحظة، بل سياسة ممنهجة ومتعمدة تهدف إلى تقويض الحياة في القطاع، ودفع السكان إلى التفكير في الهجرة، سواء تحت ضغط الفقر أو بفعل الدمار أو من خلال الإغراءات المبطّنة بمشاريع إنسانية واقتصادية ظاهرها الرعاية وباطنها الإفراغ والترحيل. وقد تعزز هذا التوجه خلال السنوات الأخيرة، ليتخذ أشكالًا متعددة تتراوح بين القوة العارية والاقتراحات "الدبلوماسية" التي تندرج في إطار خطط التصفية، وعلى رأسها "صفقة القرن" و"ريفيرا غزة" أو ما عُرف بخطة ترمب.

التهجير كأداة استراتيجية في العقيدة الصهيونية

تقوم العقيدة الصهيونية منذ نشأتها على فكرة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، وهي مقولة تختصر جوهر المشروع الاستيطاني القائم على نفي وجود الفلسطينيين، إما عبر محوهم الفعلي أو عبر إحالتهم إلى كائنات فائضة لا مكان لها في السردية المهيمنة. ومن هنا، يُفهم التهجير لا بوصفه انتهاكًا عارضًا لحقوق الإنسان، بل بوصفه ممارسة تأسيسية للدولة العبرية.

هذا التوجه لم يقتصر على نكبة عام 1948، بل استمر بأشكال متعدّدة، وظهر بأوضح صوره في العقود الأخيرة من خلال مشاريع التقسيم والعزل، وسياسات الحصار، واستهداف البنى التحتية، واستخدام القوة المفرطة ضد المدنيين، خصوصًا في غزة. واللافت أن هذا النمط من السياسات بات يُسوَّق في الإعلام العبري والدولي ليس فقط كـحق دفاع عن النفس، بل كخيار عقلاني لإدارة "الأزمة الديموغرافية" التي تمثلها الكتلة السكانية الفلسطينية.

غزة في المخيال الإسرائيلي: من العزل إلى التصعيد

منذ الانسحاب الأحادي الذي نفذه أرئيل شارون عام 2005، تعاملت إسرائيل مع قطاع غزة ككيان منفصل ومعزول، تُسقِط عليه أدواتها الأمنية وتتحكم بمنافذه وتحاصره من البر والبحر والجو. لكن العزل لم يكن غاية في حد ذاته، بل تمهيدًا لتحويل غزة إلى "مختبر" لاختبار السياسات الجديدة للإخضاع والسيطرة، بما في ذلك الاعتداءات المتكررة وسياسات "جز العشب".

ومع كل جولة عدوان، تزداد الملامح الكولونيالية في التعاطي الإسرائيلي مع غزة، ليس فقط من حيث شراسة الهجمات، بل أيضًا من حيث اللغة المستخدمة لتوصيفها؛ بداية من "الوكر الإرهابي" إلى "التهديد الوجودي"، مرورًا بمفردات العنصرية المتعددة والمتعمدة، كما صرّح بن غفير مؤخرًا أن غزة يجب أن تُقصف بلا رحمة، وأن بمقدور أهلها المغادرة إلى أي مكان في العالم.

"ريفييرا غزة": الطرد بوصفه تنمية

تتجلّى هندسة الخطط الأميركية-الإسرائيلية للتعامل مع مستقبل غزة في محاولة إعادة تشكيل الوعي الفلسطيني نحو خيارات مصطنعة، منها خيار تحويل غزة إلى ما يشبه منطقة سياحية-اقتصادية تحت السيادة الإسرائيلية الفعلية، ضمن ما سُمّي بـ"ريفييرا غزة"، حيث تُقدَّم المشاريع التنموية بوصفها حلولًا إنسانية، لكنها في الحقيقة مشاريع هندسة ديموغرافية ومسح سياسي للحق الفلسطيني.

إن الرؤية التي تطرحها خطة ترمب تعزز هذا التصور: غزة ينبغي أن تتحوّل إلى منطقة خدمات و"فرص"، دون أي مضمون سيادي أو سياسي، ما يُفضي عمليًا إلى تحويل السكان إلى يد عاملة في مشاريع مشكوك في أهدافها، تُدار من الخارج وتُشرف عليها شركات مرتبطة بإسرائيل وحلفائها. هذه الرؤية تدفع باتجاه إفراغ القطاع من معناه السياسي وتكريس الانفصال، وربما -في مراحل لاحقة– الدفع بخطوات تهجيرية أكثر وضوحًا تحت عنوان "التحسين الاقتصادي".

وزراء الاحتلال ودعوات التهجير العلني

برزت في الأعوام الأخيرة دعوات صريحة من وزراء في الحكومة الإسرائيلية، مثل بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، تطالب بطرد الفلسطينيين من الضفة الغربية وقطاع غزة على حدّ سواء. وفي أعقاب العدوان الأخير على غزة، أعاد هؤلاء المسؤولون طرح أفكار تقوم على "تشجيع الهجرة" وتسهيل مغادرة الفلسطينيين إلى دول الجوار مثل مصر والأردن، أو حتى إلى دول بعيدة مثل إندونيسيا أو الكونغو أو كندا.

وقد نقلت وسائل إعلام عبرية ودولية عدّة مقترحات متكررة قدّمتها شخصيات رسمية في إسرائيل لإعادة توطين سكان غزة، سواء من خلال التنسيق مع دول خليجية أو عبر وسطاء دوليين. وعلى الرغم من الرفض المعلن من غالبية هذه الدول، إلا أن استمرار طرح هذه الفكرة يعكس نية إسرائيلية عميقة لتفريغ القطاع من سكانه، على نحو يُذكّر بمشاريع التهجير الصهيونية الأولى خلال النكبة. وما يزيد من خطورة هذه المقترحات هو أن بعضها يُقدَّم في إطار "حلول إنسانية" لإخراج السكان من "جحيم الحرب"، أي أنه يُغلّف بإطار أخلاقي زائف، يخفي خلفه إصرارًا على تغيير الواقع الديموغرافي والسياسي للقطاع.

من "الحل الأمني" إلى "الهندسة الديموغرافية"

تكشف هذه التوجهات عن تحوّل نوعي في المقاربة الإسرائيلية: لم يعد الهدف هو فقط تحييد غزة أمنيًا أو فرض شروط الاستسلام السياسي، بل الانتقال إلى تصوّر أكثر جذرية يقوم على "حل المشكلة" من جذورها، عبر تقليص عدد الفلسطينيين و"تطبيع" فكرة مغادرتهم أو نفيهم القسري.

ويتم ذلك عبر أدوات متعددة، تبدأ بالعدوان العسكري، وتمر بسياسات التجويع والحصار، وتنتهي بمحاولات تغيير السردية العامة: من شعب يُقاوم الاحتلال، إلى "مجتمع يُعاني من الإرهاب الداخلي ويحتاج إلى حل خارجي". وهذا التحوّل في السردية يهدف إلى تبرير أي إجراءات قادمة قد تتخذ شكل الإجلاء القسري أو الهندسة السكانية.

هل نحن أمام نكبة جديدة؟

يشير كثير من المراقبين الفلسطينيين والدوليين إلى أن ما يجري اليوم في غزة يشبه في بعض ملامحه نكبة 1948، لكن بأدوات معاصرة. فبدلًا من الطرد المباشر تحت فوهة البنادق، تُمارس اليوم ضغوط متعددة الأشكال: حرمان من الماء والغذاء، هدم المساكن، استهداف المستشفيات، تجفيف مصادر الدخل، وفي الوقت نفسه فتح ممرات هروب مؤقتة نحو الجنوب أو نحو المعابر الدولية، على أمل أن يُكمل المواطن الفلسطيني "قرار الرحيل" من تلقاء نفسه.

لكن التجربة التاريخية تُظهر أن الفلسطينيين، ورغم كل هذا الضغط، ظلّوا يتمسكون بأرضهم، حتى في أقسى الظروف. إن البنية الاجتماعية والسياسية لغزة تُثبت أن مشروع التهجير لن يمر بسهولة، وأن الرهان الإسرائيلي على استنزاف الإرادة الفلسطينية قد يُثبت فشله من جديد.

الخاتمة: من المقاومة إلى الاستمرارية

لا يمكن فصل الحديث عن تهجير غزة عن السياق العام للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، ولا عن التحولات التي طرأت على مفهوم الدولة في الخطاب الصهيوني. فالدولة الإسرائيلية لم تعد تكتفي بإدارة الأرض، بل تسعى إلى إدارتها بدون سكانها الأصليين، بما يعني الإبقاء على الجغرافيا وإلغاء الديموغرافيا.

وفي مواجهة هذا المشروع، تبرز الحاجة إلى خطاب فلسطيني جديد لا يكتفي برفض خطط التهجير، بل يعمل على تثبيت السكان وخلق روافع مادية ومعنوية للصمود، بالتوازي مع فضح الطابع العنصري والسياسي لهذه السياسات أمام المجتمع الدولي، ليس بوصفها "ردود أفعال"، بل كجزء من نظام إحلالي ممنهج يجب تفكيكه لا التكيف معه.