السبت  14 حزيران 2025

نقد طرح كاثلين كينيون في ضوء الحفريات الأثرية في فلسطين

2025-06-13 08:13:06 AM
نقد طرح كاثلين كينيون في ضوء الحفريات الأثرية في فلسطين
عيسى فريد مصلح- باحث فلسطيني

تدوين-عيسى فريد مصلح

تُعَد كاثلين كينيون من أبرز الأسماء في عِلم الآثار البريطاني خلال القرن العشرين، لا سيما لما قامت به من حفريات ممنهجة في القدس وأريحا. وقد أدّت أعمالها الميدانية إلى إسهامات لافتة على مستوى تقنيات التنقيب، إلا أن تأويلاتها بقيَت رهينة لرؤية توراتية مسبقة، مما أضعف من قدرة مشروعها على إنتاج قراءة عِلمية مستقلة للتاريخ الفلسطيني القديم. لقد اعتمدَت كينيون في كثير من مواضعها على النص التوراتي كمصدر تأويلي موازٍ، حتى في غياب الأدلة الأثرية الداعمة، الأمر الذي يكشف عن خلل منهجي يتطلب إعادة فحص.

تهدف هذه الورقة إلى تقديم مراجعة نقدية لقراءة كينيون في ضوء المنهج الأثري المقارن، مع التركيز على مواطن التناقض بين سردية التوراة والواقع الطبقي للمواقع الأثرية، وذلك بالاستناد إلى النصوص الواردة في كتابها "آثار فلسطين"، بترجمة محمود العابدي، والذي يُعد من أبرز النصوص التي تعكس تمثُّلها لرؤية توراتية مغلّفة بمنهج أثري ميداني.
 أولاً: غزو كنعان
في الصفحة 225 من كتابها، تُقرّ كاثلين كينيون بأن ما يُفترض أنه "فتح إسرائيلي" للأرض الكنعانية لم يُسجَّل له أي أثر مادي واضح، لا في أريحا ولا في حاصور أو غيرها من المدن الكبرى التي تزعم النصوص التوراتية أنها تعرّضت للدمار على يد يشوع. ومع ذلك، فإنها بدلاً من أن تستخلص من غياب الدليل نتيجة عِلمية تنفي الواقعة، تقترح تصوُّراً بديلاً غير مثبَت، يتمثل في انتشار تدريجي "سلمي" للإسرائيليين، دون أن تقدّم أي أنماط استيطان أو شواهد مادية تدعم هذا الفرض.

هذا التردد المنهجي يتكرر في قولها إن "الدور الذي قام به العبرانيون لا يزال غير مؤكد"، رغم إقرارها أن المدن المذكورة (أريحا، عاي، حاصور) لم تُظهر دماراً متزامناً مع القرن الثالث عشر ق.م، بل إن بعضها كان مدمَّراً قبل أو بعد ذلك بقرون. فبدلاً من اعتبار هذه النتيجة تقويضاً صريحاً للمروية التوراتية، تتعامل معها كمعطى مفتوح على احتمالات، ما يجعل التفسير رهيناً بالرواية التوراتية لا بالموقع الأثري.

وحتى في حالة حاصور، التي يصفها سفر يشوع (11:10) بأنها تعرّضت لحرق شامل، تؤكد كينيون أن الحفريات لم تُظهر طبقة دمار واضحة تعود لتلك الحقبة، ثم تُحيل الغموض إلى "عدم اكتمال التقارير الأولية"، دون استثمار هذا الغياب لنقض المرويّة التوراتية. إن هذا النمط من التأويل، الذي يبدأ من النص التوراتي ويبحث في الأرض عن مطابقات، يُعد نكوصاً عن منطق العِلم التجريبي الذي ينطلق من الدليل المادي نحو الاستنتاج، لا العكس.

ثانياً: إشكالية الهوية الإسرائيلية وغياب التمايز الثقافي
 في الصفحة 233، تؤكد كينيون أن اليهود لم يكونوا مميَّزين عن الكنعانيين من حيث اللغة أو الطقوس أو أساليب المعيشة، وأن الادعاء بالهوية اليهودية الموحدة جاء في مراحل لاحقة. هذا يتناقض كلياً مع الأساس الذي تقوم عليه النصوص التوراتية من تمايُز جذري بين بني إسرائيل والشعوب المحيطة. غير أن كينيون تكتفي بطرح الملاحظة دون تفعيلها نقدياً لتقويض سردية "الشعب المختار" أو مساءلة جذورها اللاهوتية.

ثالثاً: القدس ومملكة داود وسليمان
تَكشف كينيون، في الصفحات 249–251، أن البنية العمرانية للقدس خلال الحقبة التي تُنسب إلى داود وسليمان وِفق التوراة، لا تَدعم، بأي شكل، الفرضية القائلة بوجود عاصمة مَلكية موحَّدة ذات طابع إداري أو عسكري. فقد اقتصرت المكتشَفات على مساكن متواضعة، تُشبه في نمطها ما وُجد في القرى الجبلية المحيطة، دون شواهد على وجود تحصينات، قصور، أو بنى تحتية متقدمة مثل أنظمة تصريف المياه أو المعابد المركزية.

تقول كينيون نصاً: "أما أبنيتهم فكانت متواضعة ومشابهة لا تتعدى الحاجيات الضرورية... لم يتم العثور على آثار للبناء الفخم كما وصفت التوراة مدينة داود" (ص. 249–251)، ما يُعد بحد ذاته إقراراً صريحاً بتهافت الصورة التوراتية لعاصمة مركزية.

ورغم وضوح المفارقة بين الواقع المادي والنص، فإن كينيون لا تُفعِّل هذه المفارقة في سياق نقد الرواية، بل تلجأ إلى تأويلات غير قابلة للتحقق، مثل افتراض أن المباني ربما كانت من مواد عضوية او خشبية لم تَترك أثراً. وهذا ما يكشف عن خلل في المنهج: إذ حين يغيب الدليل المادي، يُفترض أن يتم التشكيك في أصل السرد، لا أن تُختلق له مبررات غيابه.

إن استمرار كينيون في الاحتفاظ بفرضية "المملكة الموحدة" بوصفها مسلَّمة تأويلية، رغم انتفاء الأسس المادية لها، يُحوّل الرواية التوراتية من موضوع للبحث إلى مصدر لليقين، ويجعل من مشروعها الأثري رهينة للنص لا مرآةً للنقض العلمي له.

رابعاً: الهيكل – بناء بلا أثر
في الصفحة 262، تُقر كينيون بصراحة بعدم وجود أي بقايا أثرية يمكن نَسْبها إلى الهيكل الأول المنسوب لسليمان، سواء على مستوى المعمار أو النقوش أو الأدوات الطقسية. ومع ذلك، فإنها لا تَتَّخذ من هذا الغياب دافعاً لنفي الرواية، بل تلجأ إلى فرضيات تفتقر إلى السند المادي، من قبيل أن الهيكل بُني بمواد قابلة للتلف، أو أنه دُمِّر بالكامل دون أن يترك أثراً. وهذه فرضيات تُعد علمياً غير قابلة للاختبار أو التأكيد، مما يُفقدها قيمتها في منهج البحث الأثري.

وتوضح كينيون بقولها: "إن مكان الهيكل يقع تحت المسجد الأقصى، ولم يتم العثور له على أثر واضح... نتصور بعض التفاصيل... لكن لا يمكننا التأكد علمياً من أنه وُجد أصلاً" (ص. 262)، وهو تعبير يجمع بين الإقرار بانعدام الدليل، والرغبة في التمسك بالتصور التقليدي للهيكل، رغم أن كافة التفاصيل المعمارية المذكورة في التوراة، مثل الحجارة الضخمة والزخارف الفينيقية، تتطلب وجود بنى حجرية متينة، كان من المفترض أن تبقى في الموقع أو في محيطه، كما هو حال الأبنية المعاصرة في باقي المدن الكنعانية والفينيقية.

إن تَمسُّك كينيون بفرضية وجود الهيكل، رغم غياب كل من الشاهد المعماري والدليل النصي المعاصر، يَكشف عن خلل تأويلي مزدوج: فمن جهة تُبنى استنتاجات على نصوص لاحقة كُتبَت بعد قرون من الحدث المزعوم، ومن جهة أخرى تُبرَّر الفجوة الأثرية بتخمينات غير قابلة للتحقق، مما يُفرغ البحث من معناه العلمي القائم على المادية والتوثيق.

خامساً: شعوب البحر والفلسطينيون ضمن تسلسل زمني مختل
في الصفحة 236، تدرج كينيون الفلسطينيين ضمن شعوب البحر الذين تشير السجلات المصرية، ومنها نقش مرنبتاح، إلى استقرارهم في الساحل الجنوبي لفلسطين بعد عام 1175 ق.م. إلا أن السرد التوراتي يضعهم في قلب الصراع مع بني إسرائيل منذ زمن يشوع (حوالي 1250 ق.م.) أي قبل استقرارهم الأثري الموثَّق بأكثر من 75 عاماً.

بالتالي، فإن الرواية التوراتية تُسقط حضور سياسياً وعسكرياً للفلسطينيين في فترة تسبق وجودهم الحضاري المدوَّن بأثر مادي، وهو خلل تأريخي بنيوي يُرجِّح الطابع الأدبي المتأخِّر للأسفار التاريخية.

ورغم وضوح هذا التناقض الزمني، لا تُفعّله كينيون كإشكال تأريخي يستوجب مراجعة مصدرية للنص، بل تتعامل معه كمعطى متعايش مع باقي المروية، دون مساءلة لمصدر التوراة أو بنيتها التركيبية. والأسوأ من ذلك، أنها لا تميِّز في طرحها بين مجموعات شعوب البحر المختلفة، مثل الشكليش والدانون، الذين قد تكون لهم أصول متباينة، وبين الفلسطينيين الذين ظهرت حضارتهم المادية المميزة – في تل الدوير، عسقلان، إسدود (الكنعاني أشدود) – بعد انتهاء العصر البرونزي، بما يحمله ذلك من نقوش وفخار وعمارة لا صلة لها بالسرد التوراتي عن "الفلستيين" كشعب معادٍ قائم في قلب التلال منذ عصر يشوع.

إن انزلاق كينيون إلى إعادة إنتاج الطرح التوراتي، دون تفريق بين واقع حضاري مدوَّن بالأثر ومروية لاهوتية مكتوبة بعد الحدث بقرون، يُضعف من قيمة مشروعها النقدي. فالخلط بين التوثيق المصري والرؤية التوراتية يُنتج قراءة هجين، تَفشل في تفكيك الاستخدام السياسي والرمزي لمفهوم "العدو الفلسطيني" في نصوص ما بعد السبي البابلي.

تكشف نصوص كينيون عن مأزق مزدوج في مشروعها، فهي من جهة تَطرح ملاحظات دقيقة حول غياب الأدلة المادية التي تدعم الرواية التوراتية، لكنها من جهة أخرى تتردد في ترجمة هذه الملاحظات إلى موقف نقدي صريح. يَكشف هذا التردد عن استمرار هيمنة السرد التوراتي كمرجعية غير معلَنة في تحليلها. ولذا، فإن إعادة كتابة تاريخ فلسطين القديمة تستوجب القطع مع هذه المرويات، والانطلاق من الوقائع المادية وحدها، باعتبارها النص الأصلي الذي لا يقبل التزوير.