تدوين-توفيق العيسى
تتحول صورة التاريخ والهوية إلى قوالب جامدة لا تعكس تعقيد الواقع، حين تختصر الشعوب في حكوماتها، والحضارات في الصراعات الراهنة، ويُسلب الناس القدرة على فهم جذور مشاكلهم الحقيقية، يصبح التاريخ مجرد سلاح يستخدم لتبرير الصراعات السياسية، وتُمحى أصوات الشعوب وثقافاتها المتعددة، مما يؤدي إلى انقسام مجتمعي وفقدان الوعي الجمعي الضروري لمقاومة الاستبداد وتجاوز الأزمة، باختصار، تضيع فرص بناء مستقبل مشترك يقوم على فهم أعمق للتاريخ والهوية، ويحل محلها نزاعات مستمرة تدور في حلقة مفرغة.
لذا يصبح إنصاف التاريخ فعلًا ثقافيا وموقفا سياسيا، ليس من أجل تمجيد قوة إقليمية أو الدفاع عن سلطة قائمة، بل من أجل تحرير الذاكرة من أصفاد التبسيط، والعودة إلى النصوص المؤسسة كمرآة لصراعات الإنسان المتكررة.
من بين هذه النصوص، تأتي الشاهنامة للفردوسي، لا كتمثال قومي فارسي، بل كصرخة مكلومة من الهامش، تحمل طبقات من الغضب، والأسى، والرفض العميق لإعادة إنتاج الاستبداد، سواء من الداخل أو باسم الخلاص الخارجي.
الشخصية الإيرانية: صراع القوى الكبرى والقيم
منذ الثورة الإيرانية في العام 1979 والتطمينات التي قدمها الخميني عن وحدة المصير والصراع مع الأمة العربية، إلا أن كل هذه الشاعارات لم تصمد طويلا، بعد انقلاب الخميني على رجالات الثورة من الخمينيين واليساريين وغيرهم، وظهور نوايا استعمارية للنظام الجديد تجاه الجار العربي، الأمر الذي أدى إلى الحرب العراقية الإيرانية، وبالطبع يقال فيها الكثير بين مؤيد ومعارض وروايات تختلف وتتداخل عن هذه المرحلة، إلا أن التعاون الأكيد في هذه المرحلة نشأ بين الرجعية العربية وأختها الإيرانية، في اظهار صفحات الصراع التناحري من التاريخ على حساب التاريخ المشترك والتكامل الحضاري بينهما، فواحدة اعتبرت " الفرس" كلمة ادانة تدلل على استعمار تاريخي، وأخرى وظفتها بمنطق شعوبي للتمايز والتفوق العرقي على ما دونه، وهذا لا يعني أن العلاقة مع إيران وجارها العربي كانت على أحسن ما يكون قبل الخميني، أو حتى في ظل الدولة الصفوية.
واذا كنا في بداية المقال رفضنا نسج رؤيتنا عن الشعوب والحضارات والتاريخ بناء على صراع سياسي – عسكري راهن واختصار الشعوب في حكوماتها، فإن هذا المقال يرى الشعب الإيراني بمعزل عن الصراع السياسي ويقدم رؤية لأهم رواياته الميثيولوجية المكونة لشخصيته.، ودون عقد محاكمة تاريخية للشعوب رغم ما اقترفته الأنظمة.
في بناء الشخصية الإيرانية كما تجسدها الشاهنامة، تتبدى ملامح كينونة مشبعة بالاعتزاز القومي، والتمسك بالشرف، والولاء للأرض، والاستعداد للتضحية في مواجهة الفوضى والغزو، شخصية تنهض من بين الركام بإيمان قدري بأن الهزيمة لا تنهي التاريخ، بل تعيد تشكيله، وهي في جوهرها جماعية، نبيلة، ترى في ذاتها حارسة للنظام الكوني في وجه قوى الخراب، يتجسد هذا الوعي الملحمي في دم "رستم"، وحكمة "كي خسرو"، ونقاء "سیاوش"، رموز تصوغ هوية تقاتل لا انتقاما، بل حمايةً للمعنى، وتعيش على يقين أن الكرامة أثمن من النصر، وأن الأرض لا تملك بل يؤتمن عليها.
تُظهر الشاهنامة اهتمامها بالصراعات الكبرى بين الإمبراطوريات، ولا تنشغل بتفاصيل الشعوب الهامشية أو أحداث مثل السبي البابلي وعودة اليهود إلى القدس على يد "كورش" الكبير، رغم أهمية هذه الأحداث تاريخيا، هذا الاختيار يعبّر عن رؤية ملحمية ترى العالم من خلال صراع القوى الكبرى، يختزل الهويات في رموز حضارية عريقة. ومن هذا المنطلق، يمكن قراءة الموقف الإيراني المعاصر من من الصراع مع " إسرائيل" ليس فقط كعداء سياسي، بل كدفاع عن الشخصية الوطنية التي شكلتها ملاحم التاريخ، دفاعا عن حقها في الوجود والكرامة، رغم تعقيدات الواقع وسلبيات الداخل.
لماذا كتب الفردوسي الشاهنامة؟
تلجأ الأمم حين تهتز هويتها ويختطف تاريخها إلى ماضيها بحثا عن سردية تنقذها من الذوبان، وهكذا ولدت الشاهنامة على يد الفردوسي، لا كحكاية أمجاد، بل كصرخة ثقافية تخرج من جراح أمة فقدت لغتها، وانكفأ مجدها تحت ظل الهيمنة الجديدة.
لكن ما يجعل الشاهنامة أكثر من مجرد ملحمة قومية، هو أنها تُخفي تحت طبقات الشعر خطابا مرا عن الاستعانة بالغريب، وعن مفارقة من يُستدعى كمنقذ، فإذا به يُصبح طاغية أشد.
بين الفردوسي والشعوبية: من سؤال الهوية إلى سؤال العدالة
حين كتب الفردوسي الشاهنامة أواخر القرن العاشر الميلادي، لم يكن ينحت قصيدة لملوك الأمس فقط، بل كان يعيش داخل جسد حضاري فقد لغته، وتاريخه، وموقعه في العالم. كانت الدولة الإسلامية المركزية قد أسست ثقافتها بلغة عربية صاعدة، واستبعدت الفارسية إلى هامش "العجمية"، لا بوصفها لغة فحسب، بل كرمز لماضٍ أُعلن موته رسميًا.
في هذا المناخ، ولدت الشعوبية، كحركة حاولت استعادة الكرامة الثقافية للشعوب غير العربية داخل الدولة الإسلامية، لا برفض الدين، بل برفض الهيمنة الرمزية باسم الدين.
ورغم أن الدولة العباسية، التي جاءت بانقلاب على بني أمية، اعتمدت في صعودها على حلف واسع مع الشعوب غير العربية، وخاصة الفرس، وأفسحت لهم مواقع في الإدارة بل والسلطة (كما حدث مع الخاراسانيين والبرامكة والغزنويين لاحقا)، إلا أن التمركز العربي الثقافي والسياسي بقي حاضرا، وإن بصورة أقل صراحة من الأمويين الذين كانت قوميتهم أكثر وضوحا.
ومع ذلك، فإن الحركة الشعوبية لم تنشأ من فراغ، بل من إحساس مستمر بأن الهوية غير العربية ظلت تُعامل كملحق، حتى حين تسلّلت إلى المراكز العليا، لذلك لم يكن الفردوسي داعية شعوبية بالمعنى الشعاري، بل كان حارسا للذاكرة الثقافية، يعيد صياغة الوجدان الفارسي بلغة أسطورية، من دون كراهية، بل من خلال سؤال مؤلم: من نحن بعد أن نسينا أنفسنا؟
جمشيد والضحّاك: تناوب الطغاة باسم الخلاص
في أحد أهم مفاصل الملحمة، يظهر الملك جمشيد أولًا كحاكم عادل، ثم يطغى ويتأله، فيثور الناس عليه. لكنهم لا يُنتجون بديلاً من داخلهم، بل يلجأون إلى ملك غريب هو الضحّاك، فيدخُل الأرض بوصفه محررًا. وسرعان ما يتحوّل إلى طاغية شيطاني، يطلب أدمغة الشبان كل يوم لإطعام الأفاعي التي نبتت على كتفيه بقبلة من الشيطان.
هنا تتجلّى أخطر مفارقات السلطة في التاريخ الإنساني: حين يخرج الناس من تحت سطوة طاغية محلي، ويستقبلون مستبدا خارجيا، فينقلب الخلاص إلى لعنة، ويُعاد إنتاج القهر في صورة أكثر وحشية.
الطبقة والفكرة: من يأكل أدمغة الفقراء؟
الضحّاك، برمزيته العميقة، لا يقتل أبناء الطبقة الحاكمة، بل يأخذ أدمغة الشبان من عامة الشعب. إنه لا يلتهم الأجساد فقط، بل يأكل العقول، ويقمع المستقبل.
وهذا ما يجعل الشاهنامة، رغم لغتها الأسطورية، نصا يعبر عن الوجدان الشعبي المقهور، لا عن فخر السلالات، ورغم أنها كتبت بصوت الملوك، إلا أنها تفضح آليات سلطتهم، وتُدين الذين يحكمون بدم الأبناء.
الشاهنامة والمثقّف المقاوم
النص الذي كتب بالفارسية الخالصة، جعل الفردوسي فخورا بعدم خلطه بالعربية، - كما ذكر - وأظن أنه لا كرها بالعربية، بل رفضا لطمس الهوية، وهذا ما يجعل منه لا شاعر عرش، بل مثقّفًا مقاوِمًا بالمعنى الرمزي، دافع عن ذاكرة شعبه في وجه ثقافة المركز.
لكن مقاومته لم تكن قومية مبتذلة، بل معركة رمزية ضد السلطة، والطغيان، والهيمنة الثقافية. لقد قدم لنا الحكاية القديمة كما تُروى في المنتديات والمجالس العامة والحانات وحمامات السوق، لكنها محمّلة بأسئلة السلطة، والهوية، والطبقة.
الوعي الجمعي بديل الاستبداد
شعب الشاهنامة، وكثير من شعوب غيرها في عصور مختلفة وحتى يومنا هذا، هرعت نحو المنقذ الخارجي، حين عجزت عن إنتاج بديل من رحمها، مصدقين وهم الخلاص، فوجدوا أنفسهم في حلقة قهر جديدة، بلونٍ آخر.
لكن الشاهنامة، على مأساتها، لا تُغلق الباب. ففي نهايتها يظهر فريدون، شاب من عامة الشعب، يقود ثورة ضد الضحاك، لا كملك بديل، بل كممثل لوعي جمعي جديد، وهذا هو درسها الأهم،أن الخلاص لا يأتي من خارج الطبقة، ولا من خارج الذات، وأن كل منقذ لا ينبع من الشعب، سيتحول إلى قاتله.
عن الضحّاك وتغييب العرب: هل في موقف الفردوسي تناقض؟
قد يلحظ القارئ أن الفردوسي، في الشاهنامة، يتجنب ذكر العرب ضمن "أصول الشعوب الأربع" (الفرس، والروم، والترك، والأفغان)، بينما يجعل من "الضحّاك" العربي الأصل، منقذًا يستدعيه الفرس في لحظة انهيار، ثم ينقلب إلى طاغية مرعب.
فهل في هذا الطرح موقف معاد للعرب؟ وهل يتناقض مع ما قيل سابقا عن أن الفردوسي لم يكن شعوبيا بالمعنى العنصري؟
الجواب الأدق هو: لا تناقض، بل تعقيد مشروع.
برأيي، الفردوسي لم يُقدّم العرب بوصفهم "عدوا قوميا"، كما ذهبت كثير من التحليلات، رغم انتقادي ومعارضتي للحالة الشعوبية تاريخيا، والشعوبية الجديدة، كحالة انساقت نحو الابتذال في كثير من الأحيان، الا أنه لم يسقط عليهم خطاب الكراهية الشعوبي المباشر، بل، أقصى ذكرهم من "بنية الهوية الفارسية" في بداية النص كنوع من المقاومة الثقافية لا كموقف عنصري، ثم أعادهم رمزيا عبر شخصية الضحاك، لا كممثل لأمة، بل كرمز للمخلّص الخارجي الذي يُستدعى من قِبل الجماهير في لحظة ضياع، فيتحوّل إلى أداة قمع أعنف من الطغاة المحليين.
وهنا تتجلى المفارقة المؤلمة، فالشعب، حين يفتقد بديله الذاتي، يُسلم نفسه طوعًا للغريب، الذي لا يلبث أن يُفصح عن وجهه الحقيقي، وهذا ليس نقدا للعرب فقط، بل نقدا لفقدان الوعي الجمعي، ولعنف التبعية، ولآليات إعادة إنتاج الاستبداد باسم الخلاص.
فبنية الشاهنامة لا تقوم على ثنائيات عنصرية (فرس مقابل عرب)، بل على مفارقات مركبة، المنقذ الذي يصبح قاتلًا، والهوية التي لا تُبنى على نفي الآخر، بل على مواجهة الذات بصدق.
ورغم ما تحمله من رمزية قد تفهم أنها شعوبية، وظهور صورة العربي فيها عبر قناع الملك الضحّاك ذي الأصل "الأجنبي" الشيطاني، فإن النص لا يمكن اختزاله في مجرد خطاب كراهية أو قطيعة حضارية، بل تشكل، في عمقها، وثيقة رمزية لعلاقة معقّدة وعنيفة وطويلة بين العرب والفرس، علاقة اتسمت بالصدام والتداخل، بالغزو والتثاقف، بالحرب والاندماج. فالفردوسي، وهو يكتب في ظل جراح الفتح وانهيار الدولة الساسانية، كان يسجل أيضا سيرة التماس الحضاري مع العرب، لا على أساس عداء مطلق، بل من موقع من خسر سلطته ويريد استعادة صوته، لذلك، فإن قراءتنا للشاهنامة في هذا المقال، تضعها برمزيتها العالية، مرآة لهوية فارسية تكونت في محك الصراع مع العرب، لا خارجه، وفي ظل هوية قوية وإن هيمنة بفعل قوتها على هويات أخرى إلا أنها لم تقمع خصوصيتها.
القدس والضحّاك: حين تتحوّل العواصم إلى أقنعة للاستبداد
تزداد دلالة الضحّاك غموضًا حين نعلم أن الفردوسي، في الشاهنامة، يجعل أصل هذا الطاغية من الجزيرة العربية، لكن عاصمته ليست مكة أو صنعاء، بل القدس.
وهنا يطرح النص سؤالًا يتجاوز الجغرافيا إلى الرمز، لماذا يتوج الشيطان في مدينة يفترض أنها مقدسة؟
الجواب، على الأرجح، يكمن في رؤية الفردوسي العميقة للسلطة حين تفقد جذورها الأخلاقية.
فالقدس في النص ليست بيت النبوة، بل عاصمة تستباح من قِبل غريب، جاء باسم الخلاص، فحولها إلى قصر للدم.
وهي رمز للمركز الحضاري الذي يختطفه الطغيان تماما كما تحولت قصور بني العباس في بغداد إلى رمز لسلطة استمدت مجدها من الإسلام، ثم حولت المقدّس إلى واجهة لترف سلطوي واستبداد طبقي يخنق جوهر الرسالة.
بالمقابل، فإن تصوير القدس بوصفها مقرّا لحكم الضحاك، يعكس نقدا عميقا لمآلات العواصم حين تتحول من منابر للعدل إلى واجهات فارغة للقوة، مهما كان اسم الحاكم أو أصله.
وهنا تتقاطع رمزية القدس مع بغداد العباسية، حيث لم يعد المقدس ملاذا للحق، بل غطاء لشرعية المنقذين الزائفين.
ومن جهة أخرى تدعونا هذه القصة على أسطوريتها نتمعن في البحث عن جذر هذه القصة فهل حقا كانت القدس عاصمة لدولة مركزها الجزيرة وتبسط نفوذها على بلاد فارس؟ وعدا عن العلاقة الرمزية للمقدس والطاغية، اذا صح وجود جر حقيقي لهذه القصة فهي تشير الى علاقة خاصة بين شعوب هذه المنطقة لم تذكر سابقا أو لم تأخذ حقها في السرد والتاريخ.
ليس تمجيدا لإيران… بل إنصافا للشعوب
هذه القراءة لا تنطلق من تمجيد لإيران كقوة سياسية راهنة، فواقعها المعاصر حافل بالتناقضات والقمع والتوسع الأيديولوجي، ولا لتبييض تاريخها الإمبراطوري، بل هي دعوة لإنصاف شعب خاض معاركه الثقافية تحت السقف الإسلامي دون أن يتنكر له، ودون أن يسمح للسلطة أو الدين أو اللغة أن تطمس هويته.
فالعودة إلى الفردوسي ليست حنينا رومانسيا، بل محاولة لفهم كيف تصوغ الشعوب خلاصها داخل سياق معقد من الاحتلال، والاستبداد، والخذلان الذاتي.
فمن الظلم أن يُختزل تاريخ " الفرس" في نظام سياسي. فالفردوسي لم يكن جنرالا، بل شاعرا مثقلا بهوية مهددة، وما كتبه لم يكن دعوة للعنف، بل احتجاجا شعريا على فقدان الذات.
وإنصاف " الفرس" لا يعني تبني سياستهم، بل الاعتراف بأنهم، كالعرب، عاشوا مراحل الاندثار والبعث، والغفلة واليقظة، وأنهم، مثل غيرهم، مروا بتجربة المنقذ الذي تحوّل إلى آكل عقول، والهوية التي لم تحتمِ إلا بالأسطورة.
وهنا تكمن عبقرية الفردوسي، لقد وضع يده على الجرح الذي يتكرر جيلاً بعد جيل، الاستبداد الداخلي يولد وهم الخلاص الخارجي، والوهم لا يتأخر في التحول إلى لعنة.
فكل قراءة مخلصة للشاهنامة تكشف أن التاريخ لا يتكرر فقط لأن الناس تنسى، بل لأنه كثيرا ما يُختزل في الشعارات والخطابات، فيما الحقائق الكبرى تُقال في الحكايات والأساطير.
والفردوسي لم يكن شاعر مجدٍ غابر، بل شاعر الوعي المقهور، الباحث عن خلاص لا يأتي من السماء، بل من الناس، حين يرفضون أن يأكل الطغاة أدمغتهم مرة أخرى.