تدوين-فراس حج محمد
في الذكرى الثالثة والأربعين لوفاة أم كلثوم (2018) كتبت تدوينة على توتير. قلت فيها: "تلك الفنانة الظاهرة، العلامة الفارقة المميزة في مسيرة الطرب الأصيل، غنت العاطفة فأبدعت، وغنت للوطن فأبهرت، وأنشدت دينياً فتجلت". فأنا ما زلت مغرماً بسماع أغنيات أم كلثوم، وأكثر ما يلفت انتباهي بحفلاتها الغنائية ذلك الجمهور المستمع بكل جوارحه، متناغماً مع الكلمة واللحن والأداء، جمهور أشعر من هيأة أشخاصه أنهم مثقفون أو سياسيون، أو مهتمون، أناس يتقنون التحية كما يتقنون الإصغاء، جمهور يجبرني على المقارنة بينه وبين جمهور اليوم ممن يستمع إلى أغاني الموضات الجديدة لمطربي اليوم. ثمة فرق في الشريحة الاجتماعية والثقافة والاتزان، بل ثمة بون كبير بين الحالتين إلى درجة انعدام المقارنة على كل الأصعدة، الأغنية بلحنها وكلماتها وعازفيها وجمهورها، ومدة بقائها حية في أذهان الناس.
رافقتني أم كلثوم أكثر من عشرين عاماً، مرّتين يوميّاً منذ أوائل التسعينيّات وحتى بداية عقد الأربعين من عمري، كنت كما كنت يافعاً حالماً رومانسياً؛ لا شيء يمنعني عن الاستماع إليها، فأندسّ بين جمهورها، لأعيش أيام الزمن الجميل، زمن كان فيه بعض كرامة وعزة نفس واحترام للذات، وتقدير كل ما هو راق وعذب، لأردد معها "حبيبي مبارح وحبيب دي الوقت، ده حبيبي لبكرة ولآخر وقتي".
كما رافقتني أغاني أم كلثوم، وأنا أقتبس منها للدلالة على ما كنت أمرّ به من حالات نفسية أو عاطفية، ويشهد على تلك الحالات ما يحتفظ به حساباي في توتير والفيسبوك من تدوينات، كأنني كنت أجعل من تلك المقتبسات حِكماً توازي حكم الدهر والمتنبي، خاصة قولها في واحدة من أغانيها: "وهوّ العمر فيه كم يوم"؟ كانت ترافقني في وحدتي الطويلة وانعزالي في غرفتي بعيداً، فكتبت في حينها: "كَأَنَّ أمّ كلثوم الآن تغني لي وحدي، أنا كل جمهورها وأنت تلك الأغنية".
ولم أستطع الانفكاك من حضورها في القصائد والقصص القصيرة جداً التي كتبتها تلك الفترة، وجاءت في ديوان "وأنت وحدك أغنية" وكتاب "دوائر العطش"، وأشارت الدكتورة لينا الشخشير في قراءتها للديوان إلى هذا الحضور بقولها: "وكأني بالشاعر يلجأ إلى هذه الأغاني ليعبر عن الحالة النفسية المضطربة التي يمر بها العشّاق، فهو يختزل المشاعر من خلال نقل المستمع إلى كلام الأغنية" (جريدة الرأي الأردنية، 4 آذار 2016) كما أشارت الدكتورة نهلة زيدان الحوراني في مقدمتها لكتاب دوائر العطش إلى حضور أم كلثوم في نصوص الكتاب، وذلك بقولها: "هذه السرديات المنحوتة من الضوء تحتفل بتفاصيل شرقية جدّاً كصوت أم كلثوم وفناجين القهوة ودبابات فلسطين... فأنت ستسمع (الست) لفترات طويلة بعد إنهاء كل سردية... الكاتب كان ذكياً في نقل حياة قاسية لكنها جميلة تجعلك تعزف الألم ولا تكرهه".
عدا ما في تلك الأغنيات من الاختلاف، لقد كان لي قصّة أو حكاية مع كل أغنية من أغانيها، تثيرني على نحو معيّن، كأنّ كل حالة لها أغنية خاصة، ووحي خاصّ، أثارتني قصيدة "الأطلال" لأكتب من وحي لحظة الاستماع والغرق في اللحن: "يا فؤادي رحم الله الهوى" كم شخصاً قالها؟ وكم شخصاً يقولها أو سيقولها؟ ولكنني لم أقل إلا: يا فوادي هلّ في عمري الهوى/ فاعتراني ما اعتراهُ في الجــــوى". ابني؛ الطالب في الصف الثامن الأساسي، كذلك يعيدني إلى هذا المطلع وهو يتعلم "الجناس التام"، فيلتفت إلى ما تؤديه كلمتا "الهوى/ هوى" من معنيين مختلفين.
ولأغنية "القلب يعشق كل جميل" حضور آخر، فهذه الأغنية تقف مثالاً بديعاً للشعر الشعبي الصوفي الذي يوظف معجم الغزل في التعبير عن المشاعر الدينية، إضافة إلى ما في الألحان من عبقرية، وخاصة المقدمة الموسيقية. أتت عليّ فترة من حياتي لم أكن أسمع إلا هذه الأغنية التي أعتبرها قمة الإبداع التجريدي في وصف المشاعر الدينية الممزوجة مع المشاعر الذاتية والمشاعر الاجتماعية، حتى أن الكلمات لم تتخلص نهائياً من البعد الغزلي، كما في هذا المقطع:
يا ريت حبايبنا
ينولوا ما نلنا
يا رب توعدهم يا رب
يا رب واقبلنا
وتعود إليّ هذه القطعة الفنية النادرة مرة أخرى، وأخي يتعلم الموسيقى، لقد أعجبه على نحو لافت هذا التأرجح المعنوي بين العاطفتين الدينية والغزلية، ويطالبني بكتابة نصّ له هذه القدرة على المراوغة أو الدغدغة المشاعرية العالية.
هذه كانت أم كلثوم بالنسبة لي، امرأة أسطورة، ساحرة الأداء، "قيثارة الله" كما وصفها الكاتب طاهر الطناحي في كتابه "حدائق الأدباء": "هي بين الأنام قيثارة اللهِ ونعمى قد صاغها تغريدا"، فــ "صوتها أحلى من الموسيقى، وأنغامها أسمى من أنغام الأوتار" (حدائق الأدباء، (ص 33- 38).
لم يفلت من الحديث عنها الكبار، فتحدث عنها إدوارد سعيد في كتابه "خارج المكان"، وإن لم يبد إعجابه بها، وفضل الموسيقى الغربية على موسيقاها، إلا أنه لم يستطع إلا أن يتحدث عنها لأنها تشكل "ظاهرة فريدة" في الفنّ. ومحمود درويش خصص لها نصا جميلا بعنوان "إدمان الوحيد" في كتابه "أثر الفراشة".
تأتي على ذكرها فدوى طوقان في حواراتها التي جمعها د. يوسف بكار، ولم يكن رأيها إيجابياً دائماً. كانت تدمن الاستماع إلى حفلاتها في الراديو، وتعزف مقطوعات من أغانيها؛ إذ كان لفدوى هواية العزف، لكنها بعد أن قابلَتْها في القاهرة كرهتها، كما قالت؛ لأن "الست" حمّلت الفلسطينيين جريمة ضياع بلادهم؛ لأنهم هم من باعها على حد قولها الذي ترويه الشاعرة الفلسطينية.
وكتب أنسي الحاج مقارناً بين فيروز وأم كلثوم تحت عنوان "موسيقيات 2" فقال: "تُخاطبُ أمّ كلثوم المستمع على طريقة الزعيم، وتخاطبه فيروز بصوتِ صبيّة خائفة، ومع هذا تحمل الطمأنينة. الأولى تهزّ الجسد وتمخر به عباب استمتاعه، والثانية تمسّ الجسد كالشعاع فيركع على روحه. صوت الأولى ينقضّ بسطوة الجبّار، وصوت الثانية يُرْعِش إرعاشَ قمرٍ يَسْطع فوق بحيرة. الأولى فرعون والثانية حُلُم" (جريدة الأخبار، لبنان، 22/8/2009). لكن لا تدري إن كان يمدح كوكب الشرق أم كان يذمها، فوصْفها بصفات القوة ليس دليلاً كاملاً على المدح، وليس برهاناً على الذم أيضاً.
أما الشاعر أحمد رامي الذي كان عاشقاً لأم كلثوم، وكتب لها أجمل الأغاني والقصائد، فإنه يرثيها بقصيدة طويلة، أقتبس منها هذه الأبيات:
وبى من الشجو من تغريد ملهمتى
ما قد نسيت به الدنيا وما فيها
وما ظننت وأحلامى تسامرنى
أني سأسهر في ذكرى لياليها
يا درّة الفن يا أبهى لآلئه
سبحان ربى بديع الكون باريها
مهما أراد بيان أن يصوّرها
لا يستطيع لها وصفاً وتشبيها
وفي مقابلة مع الشاعر المصري الراحل "الفاجومي" أحمد فؤاد نجم ذكر أم كلثوم، وقصيدته ذائعة الصيت "كلب الست". تعرّض الشاعر بسببها إلى الاستدعاء لقسم "البوليس". بدت أم كلثوم من خلال حديث الفاجومي امرأة متعالية، لا تهتم بالآخرين، فكلبها بعد أن عضّ "الود الغلبان إسماعيل" لم تكلّف خاطرها وتسأل عنه، مع أن إسماعيل هذا وحيد أبويه من الذكور وأنفق عليه أبوه "دم قلبه" ليصبح مدرس ألعاب رياضية، وجاء "كلب الست" ودمر أحلامه وأحلام أبيه، ولم تقم السيدة كوكب الشرق بتعويضه، فقد "تحولت الست إلى سلطة" حتى أنها لم تتدخل في القضية إطلاقاً تولتها النيابة والشرطة. يختم أحمد فؤاد نجم القصيدة بقوله ساخراً:
هيص يا كلب الست هيصْ
لك مقامك في البوليسْ
بكرة تتولّف وزارةْ
للكلاب ياخدوك رئيسْ
على الرغم من ذلك، فإن أحمد فؤاد النجم ذلك الشاعر المنحاز للغلابى والطبقات الكادحة ظل على حبّه لأغنيات أم كلثوم، وتفضيله لها، فكما قال: "لا زلت أحب أسمع أم كلثوم، ده موضوع تاني".
ليست أم كلثوم وحدها من يتعالى على الآخرين، المشاهير إجمالا لا يحبون التعاطي مع الجماهير، وينفرون منهم. يتغيّر تفكيرهم، ويحددون العلاقة معهم ببروتوكولات وطقوس عجيبة، ومشاهير الفن، كمشاهير الشعر والكتابة، كمشاهير السياسة والرياضة، كلهم على ما يبدو تحكمهم "سيكولوجية" واحدة، يحبون الناس وهم "جمهور" كتلة من البشر، تشتري إبداعاتهم، ويمدونهم بالطاقة وشراء تذاكر الحفلات، أو وهم يتحولون إلى أرقام في عداد المشاهدات، ليس أكثر. إنهم يمارسون "نرجسية" من النوع الفظّ، وقد سُجّلت حوادث كثيرة من هذا التعالي مؤخراً، برز فيها تعالي الفنانين على المعجبين، والنفور منهم، وضربهم أحياناً، وأصبحوا مادة للتندر والقضاء معاً.
على أية حال، ما يهمّ هو الإبداع، وما يهم من أم كلثوم أغانيها، وأغانيها أصابتها الكثير من "المصائب"؛ نعم. ففي زمن "التك توك" و"الريلز" والمقاطع المرئية الصغيرة، والقصص الفيسبوكية والانستغرامية، تتعرّض الأغاني إلى البتر والمنتجة، أصبحت الأغنية ذات التسعين دقيقة مختصرة في مقطع لا يتجاوز الدقيقة إلى خمس دقائق. يعمد هؤلاء الجزّارون إلى الانتقاء والاقتطاع، وصارت ظاهرة أنك لا تسمع لأم كلثوم بكامل تجلياتها من أول اللحن إلى آخر لحظة في تصفيق الجمهور وإسدال الستارة. الآن أمامك مقطع قصير مرسل يحمل رسائل مشفّرة بين المحبين الافتراضيين معجون بمقاطع تمثيلية للمسلسلات العربية والتركية والمكسيكية. إن هذه المسألة أشبه بالمجزرة الفنية، ولم أستطع أن أرى فيها نوعاً من العبقرية أو القدرة التناصية بين الفنون المختلفة، ما بين النص المكتوب واللحن المؤدى والمقطع السينمائي المتحرك المتوافق صدفة مع المقطع الغنائي، أو ربما أجبرته التقنيات التلفيقية على أن يكون متوافقاً، هؤلاء لم يفهموا ما معنى الأغنية وهي عمل فني متكامل، ممتد من أول جملة موسيقية في المقدمة، وحتى آخر جملة تبعثها حنجرة الست، لينتهي المشهد بالتصفيق والتعبير عن روعة الأداء الكلثومي، إنك لن تستطيع أن تفهم هذا المشهد الأخير إذا لم تعش المشهد من أوله.
أظنّ أن أغاني الستّ لا يُستمع إليها بهذه الطريقة المجتزأة، عليك أن تتفرّغ لها تفرغاً كاملاً في "ساعة صفا" لتستمع وتتشرب اللحن والكلمات، وتعيش تلك الحالة العاطفية الباذخة، تدخل في هذه الحالة، تدريجيا، حتى تصل إلى النشوة الكاملة، وأي انقطاع يؤدي إلى التشويش المزاجي. بهذه الكيفية كنت أستمع إلى أم كلثوم، أيام أن كان لدي راديو صغير (ترانزستور) ورثته عن جدي، رحمه الله. كنت أشعر وأنا أسمع، كأنني أقرأ كتاباً مصنوعاً على بصيرة، بخبرة ومعرفة وعلم وإتقان وفن وذائقة جمالية مدرّبة، فكل "كوبليه" في الأغنية يشبه فصلاً في كتابٍ، ذي المقدمة، والفصول، والخاتمة، والأسلوب، والتأمل، والأفكار، والاستمتاع، والفائدة، والراحة النفسية، والتوهج العاطفي والفكري.
كانت أغاني أم كلثوم مصدراً من مصادر الثقافة، ففيها الشعر الجيد، والصورة الفنية المدهشة، فلم أجد في الشعر الفصيح مثالاً يوازي هذه الصورة التي كانت تأخذني بعيداً من الإيحاء العشقي النادر الحدوث "والموجة تجري ورا الموجة، عايزة تطولها، تضمها، وتشتكي حالها من بعد ما طال السهر". وكذلك التصوير المذهل في "والفرحة تمت للأحباب، والغصن عانق حبيبه"، وليست الصورة فحسب، بل إنني كنت أجد الكلمة المعبرة والصدق الواقعي والفني في التعبير عن الحالة المعينة، حزناً وفرحاً، وصلاً وقطيعة.
تكاد كل أغنية ترتبط بموقف أو قصة واقعية، كأغنية "أغداً ألقاك؟" أو "رق الحبيب". كانت تلك الأغاني- وما زالت- نماذج كلاسيكية عالية المستوى، تصلح للاقتباس والتعليم والاستشهاد المدرسي والجامعي، فمثلاً لم أنتبه إلى بحر مخلّع البسيط إلا من خلال أغنية أم كلثوم "أغار من نسمة الجنوب"، وثمة قواعد نحوية ترسخت لديّ من خلال تلك الأغاني، كذلك الخطأ التي وقعت فيه عندما غنت قصيدة أبي فراس الحمداني، فاستبدلت بكلمة بلى كلمة نعم في قولها:
أراك عـصيّ الدمع شيمتك الصبرُ
أما للهوى نهيٌ عليك ولا أمر
نعم، أنا مشتاق وعنديَ لوعةٌ
ولكنّ مثلي لا يُذاع له سرُّ
فانقلب المعنى تماماً؛ إذ يقتضي الجواب أن تقول كما قال الشاعر "بلى"، لأن السؤال منفيّ، وللإجابة بالإيجاب لا بد من حرف الجواب بلى. هل لم تفطن أم كلثوم لذلك؟ ألم ينبهها لهذا الخطأ المحيطون بها؟ أظن أن في الأمر سرّاً ما. وليس هذا وحسب، بل إن في القصيدة مخالفة نحوية للشاعر نفسه، أستحضر دائماً هذا البيت من القصيدة المغنّاة؛ للدلالة على هذا الخطأ الذي خالف فيه أبو فراس النحويين:
تكاد تـضيء النار بين جوانحي
إذا هي أذكتها الصبابة والفكرُ
وحسب القاعدة لا بد له من أن يقول "تكاد النار تضيء" كما قال سبحانه وتعالى "يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار" و"يكاد زيتها يضيء"، فالنحاة المتشددون لا يجيزون مجيء اسم يكاد ضميراً مستتراً. وعلى أية حال، فكانت أغاني أم كلثوم عاملاً مساعداً لي على الحفظ والاستذكار وتنشيط الذاكرة، وهذا أمر تربوي تعليميّ بالغ الأهمية، وما زلت أحتفظ في نفسي بأمنية قديمة؛ أن أستطيع تدريس قواعد اللغة العربية، نحوها وصرفها وبلاغتها عن طريق الأغاني الرائقة، لحناً وأداءً وكلمات.
إن كل أغنية من تلك الأغاني منظومة من الجمال الذي لا يسمح أي أحد باختراق معاييره العالية، لتقدم إلى جمهور جماليّ الإحساس، يعرف حدود الجمال، وتجلياته، فينفعل به، فيهتز طرباً لجملة شعرية أو لعزف على آلة من الآلات الموسيقية التي كانت تأخذ المتلقي إلى لحظات من الاندماج الكامل، ليصبح الجمهور والعازفون وأم كلثوم في بوتقة اللحظة المصنوعة بدقة وبعناية، ليفعل هذا السحر تأثيره على الجميع، فالشاعر الذي كتب بحب قصائده، وجد ملحناً يلحن بحبّ، وعازفاً يعزف بحبّ، ومطربة عظيمة تصنع كلها هذا الحب بحب أكبر منه، التقى كل هذا مع موهبة خاصة، فولدت أسطورة.
هذا واضح مثلاً في علاقات أم كلثوم بالشعراء الذين كتبوا لها وبالملحنين كذلك، فثمة علاقات إنسانية قوية كانت موجودة بين أم كلثوم وبين كل واحد منهم على حدة، يشتبه في أنها حالات حب، وذكر شيئاً من ذلك الإعلامي المصري وجدي الحكيم في إحدى حلقات برنامج "ساعة صفا" مع الفنانة صفاء أبو السعود. وقد عاصر أم كلثوم وعملا معاً في الإذاعة، وكان شاهداً على عدة مواقف بينها وبين الشعراء، أو بينها وبين الملحنين، فقد أحبوها جميعاً كما قال. أما هي فكأنها قد واعدت مرة الشاعر أحمد رامي، واتصلت به ليأتي إلى بيتها، فمن فرحته كتب لها وهو قادم إليها قصيدة "رق الحبيب" التي غنتها أم كلثوم فيما بعد، يقول في بعض أبياتها:
وإيه يفيد الزمنْ
مع اللي عاش في الخيالْ
واللي في قلبه سكنْ
أنعَم عليه بالوصالْ
وهو ما حدث شبيه له مع الشاعر محمود بيرم التونسي الذي كتب أغنية "هو صحيح الهوى غلّاب" تعبيراً عن اشتياقه لأم كلثوم بعد جفوة حصلت بينهما.
لذلك كانت تلك الأغاني "مؤلفات" إنسانية بالغة القيمة، أظن أنها لن تتكرر على هذه الحالة من الصناعة والإتقان الحسيّ الجمالي والمادي أيضاً عند ظاهرة فنية غير أم كلثوم.
وما يزيد من جعل أم كلثوم ظاهرة فنية، ملأت الدنيا وشغلت الناس في حياتها وبعد رحيلها، أنها ما زالت عند الباحثين لغزاً محيراً، يقبلون على حياتها ليؤلفوا فيها الكتب، أذكر من ذلك رواية الكاتب محمد بركة "حانة الست" التي كما يقول الكاتب في حوار له "تحاول إزالة ستار القداسة عن الشخصيّات العامّة، عبر وضع أم كلثوم، وسط لؤم التخيّل الأدبي وخبثه" (حانة الست: قصص مهجورة في حياة أم كلثوم، هوشنك أوسي، موقع درج: 30/7/2021). وكتاب "أم كلثوم وسنوات المجهود الحربي" لمؤلفه كريم جمال، واصفاً عمله هذا بأنه "توثيق دور أم كلثوم السياسي والاجتماعي والوطني في المرحلة الحرجة بعد هزيمة 1967، وذلك من خلال متابعة يومية دقيقة لتحركاتها ورحلاتها الفنية التي بدأت في محافظات مصر ثم انطلقت لتجوب العالم العربي وباريس وموسكو من أجل دعم المجهود الحربي، وإصرارها على رفع الروح المعنوية للشعوب المهزومة، وإعادة توحيد الأمة العربية حول القضية المصرية خصوصا. الشعوب التي قاطعت مصر في عقد الستينيات بسبب سياسيات النظام الناصري". (حوار منشور في موقع جدلية الإلكتروني)، وغير ذلك الكثير من الكتب التي أضاءت على حياة الفنانة التي لا يتكرر مثيلها.
ومن الكتب اللافتة للانتباه كتاب الناقد والباحث الفلسطيني د. حسن عبد الله "أم كلثوم في تجربة المعتقلين الفلسطينيين" الذي يبين كيف كان الأسرى الفلسطينيون يجدون في أغانيها ملاذاً إنسانياً عاطفياً، يثير فيهم الحنين لزوجاتهم ولحبيباتهم، وكيف كانوا يحرصون على سماعها ضمن طقوس فردية وجماعية، تسمح لكل واحد منهم أن يحلق معها ليعود إلى نفسه، غير آبه بالسجان، وجدران السجن العالية العاتية.
إضافة إلى حضورها في كثير من الأعمال الدرامية التي وثقت لمصر خلال حقب تاريخية معينة، كمسلسل بوابة الحلواني، أو في الأعمال التي تدور حول أم كلثوم، كمسلسل أم كلثوم التي جسدت شخصيتها الفنانة "صابرين"، فإن الإعلامية ريهام عيّاد تخصص لأم كلثوم حلقة من حلقات برنامجها "القصة وما فيها"، تناولت فيها جانباً محدداً من حياة أم كلثوم، وهو "قصص الحب في حياتها"، وعندما نشرت الحلقة على اليوتيوب تحت عنوان "هل تزوجت أم كلثوم 4 مرات سراً؟"، بتاريخ: 27/7/2022 لقيت تفاعلاً كبيراً، يتّضح من خلال عدد المشاهدات والتعليقات التي حازتها الحلقة، عدا التفاعل الذي لقيته الحلقة عندما نشرت على صفحة الفيسبوك للإعلامية عيّاد.
وأما على صعيد الفن نفسه، فإن "الست" غنت العامية والفصيح، وغنت للحب وتجلياته السامية وكل أحواله ومقاماته العشقية الأرضية والإلهية"، كما غنت للهو والمجون، كما في أغنيتها:
الخلاعة والدلاعة مذهبي
من زمان أهوى صفاها والنبي
لما يخطر حبي عندي بمشيته
تلقى قلبي له يميل من فرحته
شوف دلاله والّا قده وطلعته
تفرح القلب يا ناس كده والنبي
فقد أسست أم كلثوم لفن التغزل بالرجل، قبل أن تأتي الشاعرات المعاصرات، من أمثال عاتكة الخزرجي ولميعة عباس، ونهى نبيل، ويتغزلن بالحبيب في أمسياتهنّ الشعرية، أو في دواوينهنّ المنشورة، وبذلك يجد الباحث في تراث أم كلثوم الغني والمتنوع ما يؤكد أنها لم تكن مجرّد مطربة، تحيي الحفلات من أجل أن تعتاش، لقد كانت ملكة متوجة على عرش ذلك الزمن.
انعدم في زمن الأجهزة الذكية والفيسبوك وتوتير والواتسآب الإحساس بهذه الحالة وهذه الهيبة العارمة لأم كلثوم، ولم يعد المزاج كما كان. أفسدته الإشعارات المتلاحقة، وأصبحنا أكثر تداولاً، وانكشافاً على الآخرين، وانتهكت الخصوصية، فلم يعد بإمكانك أن تعيش مع نفسك تلك الساعة من الصفاء والتجلي لتستمع لأم كلثوم ساعة ونصف الساعة.
على العموم تغيرنا كثيراً، ليس لأننا تقدمنا في السن، بل إن "كبار السن" ومن هم في جيلنا اليوم، هم من كانوا مغرمين بأم كلثوم، اليوم لا أحد يستمع إليها كالسابق، على الأقل في المحيط الذي أعيش وأعمل فيه، ليس لأنهم لا يحبون الاستماع إليها، بل المزاج العام تغير ولم يعد "كبار السن" يشعرون بالحاجة لأن يستمعوا إلى "أنت عمري"، ولا "فكروني" ولا "فات الميعاد"، ولا حتى "أراك عصيّ الدمع" أو "الأطلال". على الرغم من أن بعض الإذاعات العربية ما زالت تخصص لها وقتاً خلال البث الإذاعي المسائي، وتستعيدها بعض الفضائيات العربية كذلك ليلة كل عيد في أغنية "يا ليلة العيد آنستينا".
أشعر بالفعل أننا تغيرنا، وتغيّر غيرُنا. الشباب قديماً، عندما كنت شاباً يافعاً، ابن جامعة، كنا نتحدث عن أم كلثوم وأغانيها بشغف ونؤلف حولها النكات؛ كنت أردّد على مسمع أحدهم مرة: "أروح لمين؟". فأجابني: للي بدفع أكثر! هل قتل زميلي وقتئذ الإحساس بالجمال، لا أعتقد ذلك، لكنه، ربما كان مصاباً بأزمة عاطفية، فذهبت حبيبته لمن دفع لها أكثر، فنحن أبناء القرى، كثيراً ما وقعنا في أزمات عاطفية، لأننا "كنّا طيبين وسذّجاً"، وفقراء أيضاً.
الآن مع أن جميع أغنيات "كوكب الشرق" كاملة وبتسجيلات نادرة متوفرة على اليوتيوب لم نتوجه إلى التطبيق لنستمع إليها، ولم تعد تغرينا، ولا أظنّ أن العشاق اليوم بحاجة لأن يتولّهوا على أغانيها، ولا أن يسهروا قلقين وقد وخزتهم إبرة العشق الحادة، ففي سرعة الوصول الكامل إلى الحبيبة ما يغني عن الدخول إلى هذا المزاج من العشق الكلاسيكي القديم الذي كانت ترسمه أغاني أم كلثوم العاطفية، ومن يريد تأمل هذه المشهدية العاطفية كيف كانت تصنع في الكلمة واللحن والأداء، فليسمع مثلا "ومرت الأيام" أو "ليلة حب"، أو "الحب كدة"، و"انت الحب" وإذا كان الحنين عالي ارتفاع الموج فإنك ستجد هذه الحالة في أغنية "أنا في انتظارك" أو في أغنية "قصّة الأمس" أو "يا اللي كان يشجيك أنيني" أو "أنساك"، وربما ذات وقوعك في إعصار عاطفي تجد نفسك تترنم بقول الحجة: "هجرتك يمكن أنسى هواك وودع قلبك القاسي".
أم كلثوم وجيلها من المطربين العمالقة أصبحوا من الماضي الجميل الذي يأسرنا الحنين إليه، لكنّ شيئاً ما يمنعنا من العودة إليه، وهو القريب إلينا، كأن العودة إلى الماضي تلزمها عودة النفس أيضا إلى ماضيها. هل أصابنا الخراب إلى هذا الحدّ أم أنها "سنة الله في خلقه"؟ هل ماتت أم كلثوم حقاً واستقرت تراثاً جميلاً يستعاد في الأحاديث الصحفية دون أن نكون قادرين على الذهاب إليها بكامل ضعفنا الإنساني لنستمع إليها، لعلنا نشفى من بعض ما نعانيه من آلام؟
على ما يبدو لقد ماتت شهوتنا للاستماع، لأن ثمة شيئاً فقدناه، لا أستطيع تفسيره، كما فقدنا القدرة على قراءة الكتب ودواوين الشعر الرصينة ومشاهدة الأفلام والمسلسلات القيّمة، وكما فقدنا القدرة على الاستماع إلى البرامج المفيدة لتصنعنا التفاهة بنظامها الجديد، ليكون كل شيء على شاكلة "Arabs Got Talent"، و"Arab Idol" فالتقليد هو البضاعة الرائجة، تلك البضاعة المتآخية مع التفاهة، فهما وجهان لحقيقة واحدة في عصر التفاهة والبلادة وقتل الجمال.
وعلى الرغم من هذا التشاؤم الحاصل في النظرة إلى تلقي الجمهور اليوم لأغاني أم كلثوم إلا أن المرء لا يستطيع أن يتجاوز عما فعلته مجلة رولنيغ ستون (يناير 2023) التي وضعت أم كلثوم في المرتبة 61 في تصنيف من بين 200 مطرب ومطربة في العالم على مدار مئة عام، وأشارت إلى طبيعة غناء أم كلثوم وتأثيرها في المتلقي العربي. ومع هذه المرتبة المتقدمة نوعاً ما التي لم ترضِ عشاق أم كلثوم من ذوي النزعة القومية أو الوطنية المصرية فقد وصفت المجلة أم كلثوم بأنها: "ليس لها نظير حقيقي بين المغنيين في الغرب. لعقود من الزمان مثلت النجمة المصرية روح العالم العربي".
كما أن أثر أم كلثوم تجاوز الأثر العاطفي على المستمعين السكارى والمولهين إلى الأثر السياسي والقومي العربي، وأثرها المهم في تخليد ذكر الشعراء الذين غنت لهم، فكل شاعر يحلم أن تحمل كلماته أصوات الفنانين فما بالك إذا كان الصوت صوت أم كلثوم؟ فمن خدم من، آم كلثوم خدمت الشّعراء وخلدتهم أم هم من خدموها؟ إن هناك شعراء لم يكن ليسمع بهم أحد لولا أن أم كلثوم جعلتهم في حنجرتها الخالدة، إنه أثر باقٍ؛ أعظم من أي أثر.
في هذا العام (2025) يكون قد مرّ على وفاة السيدة أم كلثوم خمسون عاماً، ولا أظنّ أن صوتها انقطع عن الدنيا منذ ذلك الحين، إن ذلك لا يحصل إلا للنوابغ النادرة، بل إنّه لا يمكن أن يحدث إلا للأيقونات المقدسة المرتبطة بالدين الأبدي. هل لكم أن تتخيلوا كثافة هذا الحضور ورقته الجمالية المتناهية؟ فستعيده الأقلام، وتخصص له كثير من المجلّات فرصة للاحتفاء بهذا الذي يشبه المعجزة التي لن يتكرر لها حدوث، فكما أنه لا يوجد إلا المتنبي المنفرد بعبقريته الشعرية، ولا يوجد إلا سقراط واحد بهيبته الفلسفية الطاغية، كذلك أم كلثوم التي لم ولن يوجد لها نظير، إنها من رتبة هذه العبقريات الخالدة.