تدوين-سوار عبد ربه
عند تناول الفن التشكيلي، بوصفه مجالا للتعبير الجمالي والبصري، فإن النقاش التقليدي يكون حول العناصر التكوينية للعمل الفني، كالألوان، والأسلوب، والتقنيات، غير أن الفن التشكيلي في قطاع غزة، خصوصا في ظل العدوان الصهيوني المستمر منذ قرابة عامين، لا يقاس فقط بما يتضمنه من عناصر فنية أو براعة تقنية، إنما يأخذ بعدا وجوديا، فيصبح العمل الفني بهذا المعنى، شهادة ونجاة في آن معا، وفي بعض الأحيان يكون هدف النجاة هو الشهادة.
وفي هذا السياق، برزت تجربة الفنان التشكيلي، مروان نصّار، الذي عمل على مدار أيام العدوان، على التقاط التفاصيل اليومية للإنسان الفلسطيني في قطاع غزة، كواحدة من التجارب التي أعادت تعريف الفن، ليس بوصفه مجالا إبداعيا فحسب، إنما بوصفه مجالا توثيقيا، عبر تحويل كل عمل إلى شهادة حية، تنبض بتفاصيل الإنسان والمكان، وتجسد المعاش اليومي للغزيين تحت القصف والحصار.
وكون الإنتاج هنا خرج عن إطاره التقليدي، لم يغفل نصّار، عن إرفاق أعماله بعبارات مثلت خطابا موازيا للبعد البصري، إذ عنون كل مجموعة بعناوين محمولة بمعان دالة، وأيضا نشر أعماله عبر مواقع التواصل الاجتماعي مرفقة بأسئلة وجمل، مثل: "إلى أين المصير؟"، أو "أنا هنا بكامل تفاصيلي، هنا شيء ناقص ولا شيء فائض"، وفي أحيان أخرى، كان يرسل نداءات استغاثية إلى العالم المتفرج والعاجز، بقوله: "إلى الغائبين هنا غزة".
فيما يلي حوار مع الفنان التشكيلي، مروان نصّار
تدوين: اتسمت تجربتك الفنية بطابع توثيقي يستحضر تفاصيل الحياة اليومية وطقوسها في سياق الحرب. كيف انعكست هذه الظروف الاستثنائية على مقاربتك الجمالية، وعلى رؤيتك للواقع المعاش؟
نصّار: اتسمت تجربتي الفنية بطابع توثيقي يستحضر تفاصيل الحياة اليومية وطقوسها في سياق الحرب. وقد انعكست الظروف الاستثنائية التي نعيشها، منذ فجر السابع من أكتوبر، على مقاربتي الجمالية وعلى رؤيتي للواقع المعاش.
فمنذ ذلك التاريخ، شكّلت الأحداث صدمة كبرى على المستوى الشخصي كفنان وكربّ أسرة، وأدركت سريعًا أن القادم ينذر بكارثة وشيكة. دفعتني هذه التحولات إلى إعادة ترتيب أولوياتي، وإلى مساءلة جدوى الفعل الفني في ظل الإبادة.
المتتبع لمسار الصراع مع المحتل يدرك أن ردّات الفعل النضالية غالبًا ما كانت تأتي كردّ فعل على جرائم الاحتلال، أما اليوم، فقد حاولت غزة أن تبادر بالفعل، وهذا يمثل تحوّلًا في سياق المواجهة بأبعادها المختلفة.
لا يمكن فصل الحالة السياسية عن السياق الفني؛ إذ طالما انسجمت الرؤى الثقافية تاريخيًا مع الواقع السياسي. وتأتي تجربتي ضمن هذا المسار المتداخل، إذ حاولت أن أرمم، عبر الفن، ما تم تدميره في المشهد البصري والشفوي، وأن أوجد عبر الإنتاج الفني والثقافي قاعدة تعزز من حالة الصمود والدعم المجتمعي الفلسطيني.
التحولات التي شهدناها بعد السابع من أكتوبر، على المستوى السياسي والاجتماعي والجمالي، أفرزت واقعًا جديدًا يتطلب أدوات سردية وفنية مغايرة لفهم الحالة الطارئة، لا سيما في غزة، التي تواجه مجزرة مستمرة منذ أكثر من 650 يومًا.
تأمل تجربتي يكشف عن حالة من التشتت في المعنى، ويدفعنا إلى طرح سؤال جوهري: لماذا نرسم في زمن الحرب؟ وهل الفن في هذه المرحلة غاية أم وسيلة، أم كلاهما معًا؟
من وجهة نظري، الرسم وسط هذا الخراب هو شهادة نجاة ومقاومة، وهو فعل يؤرخ للحظة من خلال لغة الفن، تلك اللغة العالمية التي تتيح للأمم كافة أن تتشارك معنا في تفسير الألم، والتضامن، والتوثيق.
لقد حاولت أن أضع تجربتي في سياق توثيق الحياة اليومية، واقتناص الأحداث العابرة لتحويلها إلى صور بصرية تنطوي على بعد إنساني وتضامني، أو لتكون مواد أرشيفية تشهد على التاريخ من منظور بصري متجدد.
إن التجربة التشكيلية الفلسطينية، على امتداد تاريخها، كانت مخلصة لواقعها، وتطورت مع التحولات السياسية دون أن تنغلق على أيديولوجيا ضيقة، بل انفتحت على التجربة الجمالية المعاصرة. وأنا جزء من هذا التيار، فقد سلكت طريق المزاوجة بين السردية البصرية اليومية وبين الحرية الجمالية، ما سمح للتجربة أن تتأرجح بين الرسالة السياسية والرسالة الجمالية، وأن تبقى حيّة ومتجددة، قادرة على التفاعل مع المهتمين والمتضامنين على حد سواء.
تدوين: هل تجد في ممارسة الرسم اليومي، باعتبارها وسيلة لتوثيق اللحظة والتفاعل مع ما يحدث من حولك، نوعاً من الإشباع الفني والتعبير الصادق؟ أم أن هذا الالتزام اليومي بالتوثيق يُشعرك أحيانا بثقل المسؤولية، كونك تؤدي دور الشاهد على واقع الحرب؟
نصّار: يقول محمود درويش: "أشياؤنا التي ضاعت ليس لها بديل"، من هنا، أرى أن الفعل الفني الذي انبثق في ظل الحرب هو بالدرجة الأولى التزام إنساني، وتأتى من باب ترتيب الأشياء وإعادة ابتكار أشكال الحياة اليومية في محاولة لفرض حالة من التضامن حول ما يجري، وثانيًا، هو بالنسبة لي كان مطلبًا داخليًا، كأنه طريق للنجاة. أن ترسم في وسط هذا الخراب والدمار هو من التحديات الكبيرة التي أثّرت عميقًا على تجربتي، سواء في اختيار الموضوعات أو في طريقة التعبير المشحونة برغبة عميقة في التمسك بالحياة وسط زخم الأحداث اليومية.
لقد تغيّرت تجربتي التشكيلية كثيرًا عمّا كانت عليه قبل الحرب. كأن الحرب أخذتني إلى مناطق أكثر تبصّرًا وصدقًا، وجعلتني أمعن النظر في مدى واقعية التعبير وجدواه وسط الموت. لذلك، لم أعد أرى الأعمال التي أنجزتها كمجرد لوحات، بل كمادة محمّلة بعدم اليقين. هل هي أعمال فنية مكتملة يمكن أن تؤسس لتوجّه أسلوبي ما؟ أم أنها مجرد ردّات فعل لحظية ارتبطت بقسوة الحدث، وبمدى قربه أو بعده عني شخصيًا؟
من هنا، أجد أن ممارسة الرسم اليومي كانت فعلًا مزدوجًا: من جهة هي وسيلة لتوثيق اللحظة والتفاعل مع المحيط، ومن جهة أخرى كانت تجربة ثقيلة بثقل المسؤولية، كوني أشعر أنني أقوم بدور الشاهد على واقع الحرب. ومع ذلك، لا أنكر أن في هذه الممارسة نوعًا من الإشباع الفني والتعبير الصادق، لا سيما حين يتحول الرسم إلى فعل مقاومة، ومجال للبحث عن معنى وسط كل هذا اللا-معنى.
تدوين: في بعض لوحاتك، تظهر نصوص أو كلمات في خلفية المشهد. هل يعود استخدام هذه الأوراق المكتوبة سابقا إلى ندرة المواد المتاحة للرسم؟ وكيف تصف تجربتك مع هذه الممارسة؟ هل تعتبرها إعادة تدوير للمواد المتاحة، أم أنها تؤثر على القيمة المعنوية للعمل الفني بالنسبة لك؟
نصّار: كما ذكرت سابقًا، الحرب جعلت من الحياة اليومية أمرًا يكاد يكون مستحيلاً، خاصة على المستوى الإنساني والمعيشي، وسط شحّ الموارد وندرة الإمكانيات. ومع مرور الوقت، بدأت الحرب تأخذ أشكالًا متعددة من الموت، وأسميتُ ما حدث في الشهور الأولى بـ "هندسة الموت"، حيث لم تقتصر الإبادة على الجانب البشري فقط، بل ظهرت أيضًا بشكل ممنهج في تدمير البنية الثقافية ومحاولات طمس الهوية البصرية للمدينة.
في هذا السياق، وجدت نفسي مضطرًا للاعتماد على خامات متوفّرة، بما يتلاءم مع تجربتي في التوثيق اليومي. من هنا جاء استخدامي لأوراق مكتوب عليها نصوص أو كلمات، لتصبح جزءًا من اللوحة نفسها. لم يكن الأمر فقط بدافع الضرورة نتيجة لانعدام المواد، بل تحوّل إلى بُعد رمزي يعبّر عن حالة الطمس التي تتعرض لها هوية المكان. اعتبرتُ كل كلمة مطبوعة على هذه الأوراق بمثابة سردية، تمثل عنصرًا من عناصر غزة التاريخية، وكأنني أُحمّل كل حرف عبئًا ذاكراتيًا وثقافيًا.
وفي عملي على هذه الأسطح، كان هناك فعل مزدوج: الطمس والظهور. فحين أضع فوق النصوص طبقات لونية مشحونة بعواطف متباينة، أكون كمن يستدعي حضورًا خفيًا للمكان، حتى وهو يُمحى. هذا التوظيف البصري انسجم مع بناء فلسفة خاصة في تعاملي مع الحرف العربي ومع فكرة محو المعالم.
لولا هذه الظروف القاسية وانقطاع الكثير من المواد، ربما ما كانت هذه التجربة لتتشكّل بهذا الشكل. فقد استعنتُ بما توفر لدي من أوراق وأبحاث ومواد أرشيفية قديمة، وحوّلتها إلى جزء من تكوين بصري جديد، حاول أن يزاوج بين الرسم والنص واللون في تناغم متوتّر، لكنه صادق.
تدوين: يتكرر حضور البحر والصيادين في عدد من أعمالك الفنية. ما طبيعة علاقتك بالبحر؟ وهل ترى أن هذه العلاقة تنبع من الخصوصية الجغرافية لقطاع غزة كمدينة ساحلية، أم أنها اتخذت بعدا مغايرا في ظل واقع الحرب؟
نصّار: في سياق هذه الحرب، كنت أبحث عن أشكال للحياة، أُمعن النظر في زوايا المكان، أفتّش عن ابتسامة هنا أو حالة أمل هناك، قد تكون قادرة على بعث بصيص من الرجاء في نهاية هذا النفق الطويل. وفي خضم هذه التجربة، قلبتُ الكثير من المشاهد والكلمات المرة، محاولًا أن أجد لها معانٍ جديدة أو مرادفات أستخدمها لبناء جملة بصرية تعبّر عن حالة التشبث بالأمل.
كنت كثير التجوال، سواء في الأسواق أو على شاطئ البحر، في محاولة شخصية للتعافي من الألم. وهناك، أمام البحر، وجدت حياة نابضة، طاقة كامنة في تمسك الإنسان الغزي بروتينه اليومي، وكأن البحر بالنسبة له فعل مقاومة. لطالما ارتبط الإنسان في غزة بالبحر ارتباطًا عميقًا، رغم وجود الموت والمدافع التي كانت ترسو في عمقه. لكن في لحظة حضوره أمامه، بدا وكأنه يقول: هذا البحر لي، وهذه السماء لي، أنتم الغرباء والعابرون.
هذه المعاني قرأتها في عيون الصيادين، والنازحين الذين اتخذوا من البحر ملاذًا آمنًا، ولو مؤقتًا. فكما وثّقتُ مشاهد الموت، رسمت كذلك مشاهد الحياة. رسمت المراكب لا كرمز للنجاة فقط، بل كمضاد حيّ لكلمة "موت". هكذا أردت أن أُحمّل البحر بدلالات الحياة والتمسك بها، في مواجهة الفقد والخراب.
وهنا أستحضر مشهدًا لن أنساه: رجل سبعيني أمام خيمته، يبني بيتًا من الرمل على الشاطئ، وكأنه يحاول ترميم ذاكرته بيديه، يجمع ما تفرّق من روحه، بعد أن نزح عن بيته تحت تهديد الموت. كان البحر له هو المكان الأخير الممكن، والسقف المفتوح الوحيد في وجه السماء.
تدوين: في أعمالك، يبدو الإنسان حاضرا بقوة، بينما تغيب الكائنات الأخرى. هل يعكس هذا الاختيار رؤية فنية معينة حول مركزية الإنسان في لحظة الحرب؟
نصّار: بطبيعة الحال، أسعى في أعمالي إلى إعلاء قيمة الإنسان الفلسطيني باعتباره رمزًا بصريًا لا يمكن تجاوزه. لقد فرضت علينا الحرب سياقًا غير أخلاقي، اختزل الإنسان في أرقام ضمن المادة الإعلامية؛ أرقام لشهداء أو مفقودين. من هنا، جاءت رمزية حضور الإنسان في أعمالي بوصفها تعبيرًا عن التحدي العميق للألم، وفي الوقت ذاته تجسيدًا لحالة الخذلان التي استقرت في أعماقه.
كفنان، أعي تمامًا هذا التناول السياسي المتعمد، ومحاولات ترويض مشاعر المتفرج تجاهنا، ليُختزل وجودنا في مجرد خبر أو رقم عابر. لذلك اجتهدت في بناء مفاهيم بصرية تقاوم هذا الفعل المُبتذل، وتهدف إلى رسم صورة الإنسان الفلسطيني كامتداد متجذر في المكان، لا تفارق ظله ثنائية الحياة والموت، بل تظل حاضرة في كل مشهد، وفي كل حركة، كروح تحمل أمنياتها، وتُجسد المأساة والصمود في آنٍ معًا.
تدوين: في مرحلة لاحقة، اتجهت أعمالك نحو التركيز على البورتريه كخيار تعبيري. ما الدوافع التي قادتك إلى هذه النقلة الأسلوبية، وهل تعبر هذه البورتريهات عن أشخاص حقيقيين تعرفهم، أم أنها تمثل انعكاسا داخليا لحالة نفسية في شخصيات متخيلة؟
نصّار: بدأتُ بالبحث في تفاصيل الناس، في وجوههم وحركاتهم، محاولًا التعبير عن ذلك من خلال الألوان، سعيًا إلى الوصول لحالة من الإعلاء الفني للتعبير الإنساني. خلال هذه الفترة، أنجزت ما يقارب 300 عمل فني واسكتش على الورق، من ضمنها مجموعة بعنوان "ليست وجوهًا... بل مشاعر".
في هذه السلسلة، حاولت أن أقترب أكثر من حالة الهمّ التي أثقلت كاهل الناس، ومن القلق الذي لا يهدأ في دواخلهم، والذي ينعكس بشكل أو بآخر على سلوكهم وتعاملهم مع محيطهم الاجتماعي. لقد شاخت دواخلنا جميعًا، فلم تعد ملامحنا تمثلنا أو تحمل سماتنا الخاصة، بل باتت تعبيرًا عن بواطننا المنهكة والممزقة بفعل الحرب.
تدوين: حملت مجموعتك الفنية المنجزة خلال الحرب عنوان "أن تنجو لتشهد". كيف تُعرّف مفهوم "النجاة"؟ أهو البقاء على قيد الحياة فقط؟
نصّار: "أن تنجو لتشهد" هو عنوان تجلّى كخلاصة حقيقية لمعرضي الفردي الثاني الذي أقيم على منصة "آرت زون فلسطين"، والذي ضمّ قرابة 300 عمل فني من إنتاجي، سواء ما قبل الحرب أو خلالها. شكّل هذا المعرض مساحة لقراءة أعمالي في ضوء التحولات البصرية والفنية التي طرأت على تجربتي ومسيرتي الفنية.
وقد كتب الصديق الشاعر محمود أبو هشهش قراءة نقدية واعية رافقت المعرض، حدّد من خلالها المسارات التي اتخذتها كفنان وأب في آنٍ واحد، فنيًا وإنسانيًا، وسط واقع من الحرمان والقتل، وفي الوقت نفسه فنان له طموحه وهويته المتشكّلة.
كان اختيار عنوان "أن تنجو لتشهد" اقتراحًا موفقًا من الكاتب، عبّر بدقة عن جوهر التجربة، بحكم قربه الشخصي من عملي ومعرفته العميقة بتطور مسيرتي الفنية، حيث تابع باستمرار ما كنت أقدّمه من أعمال، وكيف كانت تتشكل داخل هذا السياق العنيف والاستثنائي. النجاة هنا لم تكن مجرد بقاء جسدي، بل بقاء الوعي، والقدرة على الرؤية، والشهادة على ما حدث.
تدوين: في ظل واقع يتسم بالعجز والخذلان، كيف حافظت على إيمانك بقيمة "الشهادة" كفعل فني وإنساني؟ وهل تراها تعبيراً ذاتياً داخلياً، أم أنها تمثل نداءً جماعياً موجهاً إلى الخارج؟
نصّار: إن للفن الفلسطيني هدفًا إنسانيًا واجتماعيًا، وقد شكّل عبر العقود حالة رافعة للتضامن تتجاوز السياق الفلسطيني، إذ أسهم في إيقاظ المشاعر وتعزيز الوعي الجماهيري بين مختلف طبقات المجتمع. لم يكن الفعل الفني حبيس المكان، بل امتد وتجاوز الحدود ليحمل الرواية الفلسطينية إلى العالم.
بالإضافة إلى ذلك، لم يقتصر الإنتاج الفني والثقافي على النخب، بل كانت الجماهير الشعبية في فلسطين شريكًا أساسيًا في هذه العملية الإبداعية التراكمية، ورافدًا رئيسًا في دعم وترويج المنتجات الثقافية.
أرى أن الدور الأساسي للفن في زمن العدوان هو توثيق المعاناة. فالمسارات التاريخية لإنتاج الفن تقودنا إلى مفهوم الأرشفة، حيث تُحفظ الأعمال كنسخ تؤرخ وتوثق لحقب مختلفة من التجربة الفلسطينية. لم يكن الفنان يومًا معزولًا في فضاء محايد، بل لطالما اقتحم قلب المعركة عندما تشتد، وهذا هو جوهر الفن الصادق: الجرأة في المواجهة، وكشف الانسلاخ الإنساني والأخلاقي الذي يمارسه المحتل.
ويمثل التحول الأهم في مسيرة الفن الفلسطيني تلك القدرة على تجاوز الانغلاق على الذات، والسعي إلى ربط التجربة الفردية بمنجزات وأساليب العصر، بما يحول "الشهادة" الفنية من مجرد تعبير ذاتي إلى نداء جماعي يتخطى الحدود، ويحمل صوت الفلسطيني إلى كل مكان.
تدوين: ما اللوحة التي تتطلّع إلى إنجازها بعد انتهاء الحرب، لتجسد من خلالها معنى الشهادة والنجاة معا؟ وهل ترى في نهاية الحرب بداية لمرحلة فنية جديدة تنقلك إلى مسارات مختلفة؟ أم أنك ستواصل التوثيق البصري لما قد تكشفه المرحلة اللاحقة من مآسي وتجليات لم تُفصح عنها الحرب بعد، بفعل الإبادة المستمرة وآثارها الممتدة؟
نصّار: في الحقيقة، وسط هذه الإبادة، شعرت أن كل أنواع التعبير سقطت أمام هول المأساة. الأدوات كلّها، من كتابة وأدب وفنون بصرية، بدت عاجزة عن ملامسة الواقع. ثمة فجوة هائلة بين ما يحدث فعلاً وما نستطيع تمثيله. ومع ذلك، كما قلت سابقًا، نحاول اقتناص فرصة للنجاة بالفعل الثقافي والفني، أن ننجو لنشهد ونُشْهِد.
التوجهات التي ظهرت في سياق هذه الحرب قد تُشكّل أساسًا لدراسات وأبحاث تضيء على العامل النفسي لكل فنان وكاتب حاول التعبير أثناء المجاعة والحرمان. لم يكن الفن والأدب في هذا السياق رفاهية، بل كانا فعل تحدٍ ومواجهة.
على مدار التاريخ، لطالما نُظر إلى الفنون بوصفها حركة إنسانية تعبّر عن آمال الشعوب وتطلّعاتها. قبل الحرب، كتبت نصًا حاولت فيه الربط بين السياق السياسي العالمي والحالة الإنسانية في غزة، بعنوان: "غرنيكا بيكاسو وغرنيكا غزّة". قلت فيه:
"عندما رسم بيكاسو 'الغرنيكا'، رسمها في وقت كان القتل يولّد صدمات قاسية على المحيط الإنساني، فشكّلت هذه اللوحة محاور ومنعطفات جديدة انطلقت من خلالها الأفكار التحررية لتعبّر عن الإنسانية عامة، وأصبحت تمثل رمزاً للظلم ومناداة للتحرر من قيود الهيمنة الفكرية والسياسية. نقول إن غزة ما زالت تعيش كل يوم 'غرنيكا' جديدة، وتعبيراً جديداً يوازي فلسفة عمل بيكاسو. فهل سيشكّل هذا الإسراف في القتل صدمة للعالم وصحوة ضمير إنسانية تناصر قضايانا العادلة ذات المطلب الشرعي في التحرر والاستقلال؟".
وللعودة إلى سؤالك: إن فكرتُ في لوحة بعد الحرب، فلن تكون فقط لتجسيد الشهادة ولا النجاة منفصلين، بل ستكون وثيقة بصرية تحاول رفع حالة التضامن الإنساني العالمي، وتقديم سردية الحرب من موقع من نجا وشهد.