تدوين- ترجمة سعيد بوخليط
خلال ألفي سنة، انطلاقًا من مصادرة أرضهم القومية، سيتجلَّى تاريخ اليهود عبر عمليات التَّرحيل، الاضطهاد، الملاجئ، المضايقات، التَّجاهل، الاحتقار، الأحقاد. كيف لا يمكننا معاينة، بأنَّ خمسين سنة من التاريخ الفلسطيني، قياسًا مع نشأة الدولة الإسرائيلية، قد اختزلت عصارة ألفي سنة المشار إليها من التاريخ اليهودي: سلب حقوق الفلسطينيين، التهجير، الفصل، الملاجئ المتعدِّدة والمتكرِّرة، المضايقات، النَّهب، الإذلال، الإنكار، الاحتقار، الكراهية.
عثرت إسرائيل ثانية على بلد صار أجنبيًا لها قبل ألفي سنة، لكن حين استيلائها عليه، فالفلسطيني من تحوَّل إلى شخص أجنبيٍّ، رغم تواجده في عين المكان منذ قرون خلت.
استقبلت إسرائيل مئات آلاف اللاجئين الهاربين من أوروبا، وكذا جزءًا من الشَّتات اليهودي. بالموازاة، حرَّضت على نفي مئات آلاف الفلسطينيين، المحبوسين منذ ذلك الحين داخل مخيَّمات اللاجئين، أو مغتربين عبر دول العالم.
من بوسعه الاعتقاد بأنّ سلالة ورثة التَّجربة المرعبة، لفترة ما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، بعد قرون من التحقير وكذا التجاهل، وقضية النقيب ألفريد دريفوس، وغيتو وارسو، ثم معسكر أوشفيتس، جعلت الفلسطينيين الخاضعين للاحتلال عرضة للاحتقار والإهانة؟ كيف يمكننا استيعاب انتقال اليهودي المضطَهَدِ إلى الإسرائيلي المضطَهِدِ؟
الشَّرعية الإسرائيلية
لا يرى المفهوم الإسرائيلي في التطور التاريخي الذي أفضى نحو الوضعية الراهنة، تعبيرًا عن إرادة تتوخى الهيمنة، لكنه تجلٍّ لضرورة حيوية قصد تجنُّب تهديد دائم بخصوص تدمير إسرائيل.
جَسَّت الصهيونية جوابًا ضروريًا على معاداة السامية الأوروبية، وكذا الطموح نحو دولة قومية تمثِّل تطلُّعًا مشروعًا نحو وطن ملجأ.
اتَّخذ مخطَّط غرس الصهيونية منحى سلميًا غاية 1948، بحيث جرت من خلال شراء الأراضي، وليس سلبها، داخل جزء صغير ضمن منطقة عربية واسعة مهمَّشَة قليلة السكّان.
رفض العالم العربي الدولة العبرية، التي قَبِلت مخطَّطَ تقسيم فلسطين، وواجهت التَّهديد بالموت منذ نشأتها، ولم تنجُ سوى بفضل الانتصار على أعدائها المتحالفين.
نتيجة حرب دفاعية خاضتها إسرائيل لمواجهة تهديد الإبادة، حدث تمَدَّدٌ عن الإقليم المحدَّد أصلًا من طرف الأمم المتحدة، بالسَّيطرة على أراضي السَّاكنة العربية، وإقامة مستوطنات يهودية فوق هذه الأراضي، برَّرته مقتضيات استراتيجية حيوية، لاسيما جرَّاء التأكيد العلني ضمن ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية على هدف تدمير دولة إسرائيل. نفس الضرورة الحيوية علَّلت الشحنات العقابية نحو لبنان أو مناطق أخرى، وكذا رفض الامتثال لقرارات الأمم المتحدة.
لم يتوقف الإرهاب الأعمى عن ضرب المدنيين اليهود، ثم استمرَّ تهديد الموت قائمًا. إسرائيل بلد ديمقراطي متحضِّر بجوار منظومات استبدادية، وشعوب تعيش الاستعباد أو متعصِّبة.
يمثل هذا التقييم إحدى وجوه حقيقة ثنائية المنحى.
الشَّرعية الفلسطينية
يرى المفهوم الفلسطيني في المسار التاريخي الذي أفضى نحو الوضعية الحالية، حصيلة استيطان غريب اكتسح بالقوَّة الأرض العربية.
لم يكن العالم العربي – الإسلامي مسؤولًا سواء عن معاداة السامية الأوروبية، ولا الإبادة الهتلرية.
جرى الاستعمار الصهيوني بواسطة تجميع مال يهودي على امتداد العالم، وكذا احتلال فعلي لأقاليم عدَّة.
أجبرت حرب 1948 الساكنة الفلسطينية على الهروب من القوات الإسرائيلية، وكذلك إجبارهم على التَّرحيل تحت سلطة التهديد، وعدم السماح بالعودة.
تآلف منذ الاحتلال الإسرائيلي الشامل لفلسطين سنة 1967، استعمار الهيمنة واستعمار الاستيطان. خضع الشعب الفلسطيني دائمًا إلى قيود، مضايقات، أعمال انتقامية، وكذا إنشاء الغيتوهات كردِّ فعل فوري حين وقوع هجمات. مبدأ السِنِّ بالسِنِّ، والعين بالعين، وتعميم منطق المسؤولية الجماعية، ثم تفعيله بلا هوادة.
رفضت إسرائيل الإقرار بالهوية الوطنية الفلسطينية. غاية اتفاق أوسلو، اعترفت فقط بوجود عرب، بمعنى ساكنة محلية، وليس وطنًا محتلًّا.
تأسَّست شرعية المقاومة الفلسطينية سنة 1956، ثمَّ انتظمت تحت سلطة منظمة التَّحرير الفلسطينية سنة 1964. استمرار الاستعمار الإسرائيلي فوق أرض، ومصير ملايين اللاَّجئين داخل مخيَّمات في البلدان العربية المجاورة، وعجزها العسكري، وحظرها السياسي، معطيات قادت منظمة التحرير الفلسطينية إلى الممارسة الإرهابية كحلٍّ أخير يائس، قصد توظيف النِّضال من أجل تحقيق الاعتراف، وجواب على إرهاب دولة إسرائيل.
وضعت إسرائيل نفسها فوق مختلف القوانين الدولية. أدانت الأمم المتحدة احتلالها قطاع الضفَّة الغربية، وكذا مغامرة انتهاكاتها التي امتدَّت غاية العاصمة اللبنانية.
إسرائيل مسؤولة عن مذابح كثيرة ارتكبتها في حقِّ المدنيين، مثلما جرى في صبرا وشاتيلا التي اقتُرِفت تحت رعاية إسرائيلية. عدد الموتى المدنيين داخل مخيمات اللاجئين وجنوب لبنان غير قابل للإحصاء. أيضًا، خلال حرب انتفاضة الحجارة، التجأت قوة الدفاع الإسرائيلية إلى جواب الرَّصاص، وقتل الأطفال والمراهقين.
التراجيدية المزدوجة
تظهر شرعية كل واحدة من وجهات النظر، الإسرائيلية والفلسطينية، حين تناولها بكيفية أحادية. لكنَّنا، عندما نستند إلى توظيف رؤية مزدوجة، ندرك جدلية جهنمية وحلقة شرِّيرة، أفضت صوب خلق مستعبِد ومستعبَد. لا يمكن اكتفاء مشهد هذه النَّظرة عند إطار فقط الأبرياء الإسرائيليين الممزَّقين جراء انفجار قنبلة، بل أيضًا ضرورة رصد كثير من الإذلال، والمعاناة، والاحتقار، التي يكابدها الفلسطينيون تحت وطأة الاحتلال، ويظلُّون باستمرار ضحايا ذنب جماعي، يتمُّ بموجبه إقدام الإسرائيليين على نسف منزل عائلي، وكذا عزل إقليم معين.
يلزمنا كذلك استحضار مسألة تشكُّل الدولة الفلسطينية، طيلة عقود من التطوُّر التَّاريخي، في خضمِّ المقاومة، مثلما تبلورت الوحدة الإسرائيلية بدورها عبر سبل الصراع. انهمك الشَّعبان دائمًا بوجود عدوٍّ قاتل. لكن المرعب، تصارع قوميتين على نفس الأرض، ويعيقان تأسيس دولة ثنائية القومية. الأكثر فظاعة، نزوع قدسية أورشليم الثنائية نحو فضاء للاحتكار، بدل استمراره فضاء يحظى بذات القداسة، أو عاصمة ثنائية للدولتين. إعلان أورشليم "عاصمة أبديَّة"، بينما أظهر الماضي بأنَّها أبدية متقطِّعة، مُؤجَّلة لأكثر من ألفي سنة، تفتقد لأيِّ ضمانة مستقبلية.
المرعب، غاية موعد أوسلو على الأقل، انعدام هامش معين لدى إسرائيل، بين هيمنتها أو تدميرها، وانتفاء أيِّ إمكانية للاعتراف بفلسطين، سوى نتيجة التخلُّص من إسرائيل مستقبلًا.
جدليات جهنَّمية
يكمن خلف الجدلية الجَهنَّمية، التَّكامل المتضارب بين معاداة السامية والصهيونية. لقد ولدت الفكرة الصهيونية نتيجة معاداة الصهيونية الأوروبية، وكذا حصيلة تاريخية لمعاداة النازيين للسامية، وأفسح الوجود أمام وجود الدولة الإسرائيلية.
اشتغل المتعارضون ضمن نفس المعنى، وفق جدلية بين مناهضة السامية والصهيونية: سلبيًا، حسب الحالة المناهضة للسامية، عزل اليهود داخل الأوطان، وسلبهم كل الحقوق، ثم إيجابيًا في ظلِّ الحالة الصهيونية، بإعطائهم وطنًا خاصًا.
تجدَّدت هذه الجدلية في الشرق الأوسط بين إسرائيل والعالم العربي. استُثمِرَت معاداة إسرائيل العربية لصالح القوَّة الإسرائيلية، مما أثار جدلية احتلال/مقاومة، قمع/إرهاب.
إذن، الإرهاب في الوقت نفسه نتيجة وعلَّة بين طيَّات هذه الجدلية، حيث يُجَسِّد ثانيةً الضحايا الإسرائيليين تراجيدية التاريخ اليهودي، جراء الاعتداءات العمياء، ثم يتضاعف الشقاء الفلسطيني نتيجة حملة القمع ضد الساكنة.
بالموازاة، وظَّفت الدول العربية المأساة الفلسطينية قصد التواري عن مشاكلها الداخلية، والإبقاء على احتجاز اللاجئين الفلسطينيين داخل مخيَّمات. أكثر من ذلك: نفَّذت دولة الأردن مذبحة في حقِّ الفلسطينيين شهر أيلول الأسود سنة 1970، كما اقترف عرب مسيحيون تحت أنظار قوَّات الدفاع الإسرائيلية مذابح صبرا وشاتيلا في لبنان سنة 1982.
في خضمِّ الجدلية الجهنَّمية، أمكن للدولة المحاصِرة أن تصبح دولة غازية للبنان، تلاشت الصهيونية الاشتراكية لصالح قومية أضحت متكاملة بعد احتضانها للتطرُّف الديني، أيضًا تآكلت القومية العلمانية لمنظَّمة التَّحرير الفلسطينية أمام قومية حماس المتطرِّفة.
لقد أعقبت الصهيونية في صيغتها الأصلية، التي توخَّت قبل كل شيء الأمن العسكري، قومية تبنَّت علانية مع الليكود مشروع الضمِّ: يتعلَّق الأمر بتحويل قطاع غزة الفلسطيني إلى يهودا والسامرة الإسرائيلية. منذئذ، أضحى المبرِّر الأمني رهن إشارة تطرُّف الاستيلاء والضمِّ.
تطوَّرت قوة إسرائيل، النَّاشئة ضمن إطار نبذ معاداة السامية، عبر الرَّفض المعادي للصهيونية. تبلور توسُّع قوَّتها ضمن إطار كراهية العرب، وإذا لم يتم تكسير الحلقة الجهنَّمية، توشك الكراهية في نهاية المطاف على ممارسة التَّدمير.
تجري وقائع مختلف ذلك، داخل منطقة مهتزَّة هي الشرق الأوسط، حيث تصادم الشرق/الغرب، الشمال/الجنوب، الأثرياء/الفقراء، العلمانية/الدِّين، ثم الديانات فيما بينها، من خلال استمرار الصراع بين القوَّتين الكبيرتين: الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي غاية 1989.
المعجزة التَّاريخية
مع ذلك، وقعت المعجزة التَّاريخية. تعود لبنات مقدِّمتها إلى القطيعة الأولى مع موقف العزل الذي اتَّخذته البلدان العربية سابقًا نحو إسرائيل، بفضل مبادرة أنور السادات، بحيث حظيت إسرائيل باعتراف أقوى جيرانها العرب، أي مصر، مقابل استرجاع الأخيرة صحراء سيناء.
أيضًا، انبثقت المعجزة نفسها نتيجة تغيُّرات شهدتها المنطقة: تراجع زخم الصِّراع بين القطبين، والذي وجد في الشرق الأوسط بؤرة ورهانًا معتبرين. أنهى تفكُّك الاتحاد السوفياتي مسألة جعل الشرق الأوسط مكمن جبهة بين الإمبراطورتين السوفياتية والأمريكية، وأحدثت حرب الخليج قطيعة جديدة داخل العالم العربي، ثم تحوَّلت منظمة التحرير الفلسطينية رسميًا نحو فكرة التَّفاوض مع إسرائيل حول السلام، أما داخل إسرائيل، فقد كانت حكومة إسحاق رابين وشيمون بيريس تمضي بحذر، عبر مفاوضات أوسلو، نحو تسوية وفق صيغة "السَّلام مقابل الأراضي". جملة مستجدَّات قوَّضت الحلقة الشرِّيرة، وقادت لاحقًا إلى الاعتراف المتبادل بين دولة فلسطينية ودولة عبرية، وجعل أورشليم عاصمة ثنائية، غربها تحت السِّيادة الإسرائيلية، وشرقها فلسطيني. يبدو بأنَّها حلقة مثمرة، أعقبت سابقتها الشرِّيرة.
حتما كان المسار بطيئًا، طويلًا، قصد دحض هوس حِصَاري، تحافظ عليه قلعة ماسادا، ثمّ يستسيغ الفلسطينيون الجوار الإسرائيلي. ينطوي الرهان الإسرائيلي بخصوص تحقيق السلام على مجازفات، مع استمرار عمل قوى رفض فاعلة ضمن محيطها العربي. لكن، هذا الرَّفض سيتراجع ويتقلَّص مع الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني، وتطوُّر مسار السلام بمثابة حظِّه الوحيد.
كما هو متوقَّع، واجه مشروع السلام مقاومة لاذعة من لدن معسكري الرَّفض، وأبان متطرِّفو الجانبين المتنافرين عن ميزة كونهم أفضل الحلفاء بغية نسف السلام. اغتيال إسحاق رابين، رخاوة شيمون بيريس داخليًا وصلابته الخارجية، وقنابله فوق جنوب لبنان، وكذا إعادة تطويق الضفة الغربية، مختلف ذلك مهَّد السبيل أمام ليكود بنيامين نتنياهو.
بداية أخرى للحلقة المُدَمِّرَة*
ظنَّ الأبرياء استحالة تراجع مسار السلام. ظهر بنيامين نتنياهو، وتمَّ تقديمه كشخص عنيد، أبله، طائش، عديم الخبرة، أخرق، غير مسؤول، "ساحر بصدد التَّمرين"، غير واعٍ، سيتعلَّم "الواقعية" عمَّا قريب. واقعيا، التزم بتطبيق وتفعيل السياسة الإسرائيلية القومية المتكاملة. ارتبط أكثر فأكثر بمشروع الليكود الجيو-سياسي، لليكود الموصول أكثر فأكثر بالتوقّع المتطرِّف الذي يضمن الوفاء للإرادة الإلهية. ألم يصرِّح المندوب الفرنسي لليكود، حين استقبال نتنياهو في باريس، بأنَّ الحدود الوحيدة التي تعترف بها إسرائيل أرسى الله معالمها، وليس الأمم المتَّحدة؟
هكذا، يجتهد نتنياهو بخصوص تحقيق – مثلما يتصاعد أكثر فأكثر من جهة أخرى – تعضيد صوت من هذا القبيل داخل إسرائيل، المشروع المشترك لليمين المتطرِّف وكذا زمرة عقائديين متعصِّبين. إنَّه مشروع إسرائيل الكبرى، التي تستهدف احتلال الضفَّة الغربية، وإضفاء الطابع الإسرائيلي على يهودا والسامرة.
من هنا، الاستهداف شبه الدَّائم للضفَّة الغربية، وتحويلها إلى غيتو جديد، سعي يتوقَّف فقط خلال بعض فترات الاستراحة، وكذا احتلال الجنوب اللبناني، والغارات العشوائية، إخلاء الأراضي واجتياحها من طرف الجيش الإسرائيلي، استئناف مستوطنات في الأراضي الفلسطينية، إرساء خطوط شبكات طرق جديدة مُخَصَّصة للإسرائيليين وحدهم، خنق أورشليم الفلسطيني بواسطة نسف المباني والمنازل، قتل متظاهرين غير مسلَّحين، اقتناص أطفال الحجارة عبر المروحيات، فتح قبو مما يظهر احتقارا كلِّيّا لمقدَّس المسلمين، استفحال الإذلال، وكذا توسيع دائرة الغيتوهات. يوحي مختلف ذلك على تصرُّف يمكننا نعته بالإجرامي، عندما يتعلَّق الأمر بصنيع رادوفان كاراديتش. من المثير أنَّ الأنتلجنسيا الأوروبية، التي تعبَّأت من أجل البوسنة الضحية، تقف خرساء جملة وتفصيلا أمام تدابير وأفعال نتنياهو، بحيث وجده المحلِّلون غير دقيق وحَرِجا، لكن ينبغي شجب فظاعته، عندما يقترف ضدَّ شعب غربي.
بالتأكيد، ينصبُّ رهان نتنياهو على إثارة ردود فعل عنيفة تمنحه مبرِّرا كي يحتلّ أراضي بهدف سحقها. وفق صيغة واحدة، تحتاج سياسة الليكود إلى استفزاز الفلسطينيين، وتعزيز نموّ جانب التطرُّف والأصولية لديهم، بهدف التمكُّن من إعادة احتلال كل قطاع الضفة الغربية عسكريا، وضم يهودا والسامرة في نهاية المطاف.
لن تعمل قوى الشرِّ المتصارعة سوى على مضاعفة تعاونها الموضوعي. بهذا الخصوص، يتوقَّع جدّا أن تحدث العمليات الاستفزازية لنتنياهو تأثيرا على مستوى إطلاق شرارة ثورات شعبية وكذا اعتداءات، ثم إضعاف ياسر عرفات ومنظمَّة التحرير الفلسطينية غاية ضرب مصداقيتها تماما لصالح حماس، التي سترفض أكثر من أيّ وقت مضى الاعتراف بإسرائيل، مما يشعل فتيل عمليات التَّمشيط النهائية للضفَّة الغربية.
ستنجز حماس، على المدى القصير، سياسة الليكود أكثر من العكس، وسيتكفَّل الليكود بتفعيل سياسة حماس خلال المدى المتوسط. ثم، إبَّان فترة قصيرة، ستغتنم إسرائيل بفعالية علاقة القوى اللامتكافئة لصالحها، نتيجة الانقسام العربي، ثم تفوُّقها العسكري، والدَّعم الأمريكي، وكذا سلاحها النووي.
سياسة تفرز تحديدا ضمن المدى المتوسط نتائج على غير هدى، هدفها: إضفاء التشدُّد على صراع قابل للتَّفاوض بين دولتين إلى صراع لا يغتفر بين ديانتين، ممّا يقدِّم مساعدة هائلة غير متوقَّعة إلى متطرِّفي المسلمين، ويعضِّد أطروحة الرَّفض داخل العالم العربي، وتقويض مصداقية عرفات ومنظمَّة التحرير الفلسطينية، وكذا الأنظمة العربية التي اختارت سبيل المفاوضات. تؤدِّي سياسة تجاهل الحقوق الفلسطينية إلى تحريض أكبر لقوى الرَّفض، التي يزداد من جديد اندفاعها وكذا تحالفها الفعَّال. وضع يضعف إسرائيل معنويا، وينزع صوب عزلها عن العالم.
أخيرا، على المدى البعيد، ستتغيَّر في يوم من الأيام علاقات القوى: الحماية الأمريكية ليست أبدية، امتلاك العديد من الدول العربية أو الإسلامية السلاح النووي. لا يمكننا استبعاد، في خضمِّ الإنهاك، الأفق المرعب للإبادة المشتركة. يتعلَّق الأمر، حسب عبارة واحدة، باستراتجية تدمير ذاتي.
انتظار الإله كي يحارب الإله: منذئذ يختبر متطرِّفو الجانبين أوج اندفاعهم، يغدو الإله فاعلا أكثر فأكثر بكيفية مهمَّة وعنيدة. يُتوقَّع ارتفاع مستويات البربرية: معاداة العروبة بنفس رعب معاداة السامية، معاداة الغرب على نحو أعمى وفتَّاك. تنمو في ذات الوقت معاداة اليهودية والعروبة، ويغذِّي أحدهما الثاني. أبعد من ذلك، تتفاقم جنبا إلى جنب كراهية الغرب، والخوف الحاقد من الإسلام. يدرك العرب والمسلمون مدى معاملتهم بكيفية غير مقبولة، حسب المبدأ الضِّمني لكن البديهي ل"قوَّتين ثم مقياسين"، ويركِّز الغرب فقط في نظرته للإسلام على المظاهر الإرهابية لجوانبه المتعصِّبة.
يفضي ثانية، الموقف الحالي الإسرائيلي، وكذا الدعم المتواصل من لدن قسم كبير من اليهود في كل مناطق العالم، صوب مناهضة اليهودية. يزداد إيمان الفلسطينيين والعرب، حسب منطق تنبُّؤات ذاتية التحق، بالمؤامرة اليهودية الدولية. يعتقد اليهود، من جهتهم أكثر فأكثر، في معاداة اليهودية لدى كُلِّ الرَّافضين للأفعال الإسرائيلية. تأويلات تتأكَّد لدى هذا الطَّرف وذاك.
هل ستتوقَّف دائرة الكراهية والثَّأر؟
*الثُّقب الأسود
استفادت إسرائيل منذ ولادتها من التَّضامن اليهودي، وكذا التَّعاطف الغربي. هكذا، تشكَّل الحبل السرِّي الذي ربط الشَّتات مع إسرائيل، وإحساسه بالفخر، مادام إسرائيل أظهرت إلى العالم بأنَّ اليهود لم يكونوا، بحكم طبيعتهم، جبناء ومنشغلين بالتجارة، بل يدركون أيضا سبل القتال وكذا زراعة الأرض.
ترسَّخ هذا الحبل السرِّي جراء تهديد إسرائيل بالتَّدمير بين سنوات 1948 و1973، لكن انطلاقا من اللحظة التي صارت خلالها إسرائيل مستعمِرة ومضطَهِدة، فقد احتاج دعم إسرائيل أكثر فأكثر إلى إعادة إحياء الإحساس بهذا التَّهديد، وتقوية ذاكرة الإبادة النَّازية، وإقناع هؤلاء الذين ينعتون ب''العبريين'' بمعنى الإحالة على انتماء ديني وتراثي مثل البروتستانتيين، أي كانوا يهودا انتموا لشعب ووطن مركزه إسرائيل، وأخيرا توطيد فكرة لدى اليهود مفادها بقاء إسرائيل موطنهم الحقيقي.
تتبنَّى المؤسَّسات المسمَّاة اجتماعية وظيفة إنجاز تحوُّل تاريخي: تواري الكونية التي شكَّلت نزوعا طبيعيا للشَّتات أمام تمركز ذاتي يهودي-إسرائيلي.
هكذا، خلال سنوات السبعينات ازداد زخم تِذْكار الضحيَّة اليهودي المكابد إبَّان الحروب العالمية الثانية. يتطابق ذلك بالتأكيد مع الحاجة الشرعية للنِّضال ضد النسيان الذي تبلور مع الزمن، لكنه اكتسى ثلاث سمات خاصة.
تكمن الأولى في العمل على إبراز فرادة الضحيَّة اليهودي، الذي سمِّي أوَّلا إبادة، مصطلح يسري على شعوب أخرى، ثم هولوكوست، مصطلح قابل للتداول في كل اللغات، سيأخذ منذئذ مصطلحا عبريا ''شواه'' (Shoah) قصد الإشارة إلى خصوصية مطلقة.
لقد أفضى هاجس "شواه" نحو تمركز يهودي مهووس (أثار تحسُّر "اللورد يهودي مينوهين" عازف كمان أمريكي من أصل يهودي)، تناسى غالبا المصير المماثل الذي كابده الغجر، وكذلك ضحايا آخرين غير يهود لا حصر لهم، جرَّاء عمليات التَّرحيل والابتزاز النَّازي فترة الحرب العالمية الثانية، ومحاولة التَّخفيف دائما من فظاعة المجازر الستالينية داخل معتقل غولاغ، وكذا توخِّي طمس السِّمات المشتركة بين المنظومات الشمولية النَّازية والشيوعية والاكتفاء فقط بالإشارة إلى اختلافهما الإيديولوجي، ثمّ الانتهاء عند جعله من جريمة معاداة السامية وحشية منفردة ومطلقة داخل تاريخ الإنسانية، بينما تعرَّض السُّود الأفارقة انطلاقا من القرن السادس عشر إلى عبودية جسيمة وفظيعة استمرَّت نتائجها، كما أُبيدت واستُعبدت شعوب الأمريكيتين، ليس فقط نتيجة الأمراض المتأتِّية من أوروبا، لكن أيضا فظاعات من استعبدوهم.
الخاصية الثانية لهاجس "شواه"، انصبَّت على إخفاء الآلام التي تزعج راهنا إسرائيل، بالعودة إلى الماضي قصد استدعاء تِذْكار الضحيَّة اليهودي. حملات القمع، مجازر، قصف المدنيين في جنوب لبنان، التَّعذيب، تحويل الضفَّة الغربية إلى غيتوهات بمجرَّد حدوث اعتداءات، مسؤولية جماعية تجعل مجمل الشعب الفلسطيني يعاني نتيجة ارتكاب جريمة إرهابية، مختلف ذلك يهدف إلى طمس، وتبرير، والتَّساهل مع فكرة أنَّ إسرائيل تحمل داخلها وجه الضحيَّة منذ خمسين سنة، وليس فقط هذا الظالم طيلة خمس وعشرين سنة.
أما عن الخاصية الثالثة ل''شواه''، فتحيل على تطوير عُصَاب على مستوى انتماء غير مشروط إلى إسرائيل لدى مختلف يهود الشَّتات. يُذْكي الثُّقب الأسود ل''الشواه'' الارتياب اليهودي بخصوص إمكانية الاندماج ضمن زمرة الطّيِّبين، وتمنح الشَّتات العلماني شهادة بخصوص عدم قابلية اختزال هويته اليهودية. بالتالي، يكون الشَّتات في الآن ذاته قلقا، ثم يكتشف ذاته يهوديا أصيلا حين استدعاء الماضي النَّازي (مثل محاكمة مجرم الحرب)، ثم خلال كلِّ إنكار للماضي (''التحريفية''), وكذا أيّ مماثلة للرَّاهن مع الماضي الكارثي (تهديد إسرائيل).
يشتغل في الغالب مسعى القمع حاليا، من خلال غالبا مبرِّر التعرُّض ماضيا لنفس تجربة القمع، مثلما يقول هيغو: ''مضطَهَد البارحة، هو مضطَهِدُ الغد''. هكذا، برَّرت صربيا ذات النزعة القومية المتطرفة ممارساتها الوحشية نحو البوسنيين باستحضارها ضحايا الصّرب ماضيا من طرف العثمانيين، ثمّ النازيين، وكذا حركة الأوستاشا الكرواتية، أيضا يسمح الوعي بكونكَ ضحيَّة خلال الماضي كي تغدو جلاَّد الحاضر: وضع بوسعه تهيئة كوارث مستقبلا.
كذلك، فالشَّبكة الواسعة التي ترعاها المؤسَّسات المصنَّفة بكونها مجتمعية، يفترض تمثيلها لمختلف يهود العالم (مثلما الحال في فرنسا) وكذا/أو توظيفها جماعات اللُّوبيات الضَّاغطة (مثلما الحال في فرنسا)، توظِّف وتؤجِّجُ ذاكرة معسكر اعتقال أوشفيتس من أجل إعادة ربط كل يهودي خارجي بالدولة الإسرائيلية، حتى يقتنع كليّا بانعدام أمنه تماما خارج إسرائيل التي تمثِّل وطنهم الحقيقي.
لقد تميَّزت سنوات السبعينات في الآن ذاته بانهيار أفكار كونية آمن بها عدَّة مثقَّفين من أصل يهودي، لا سيما في أوروبا، ثم تبلور رافد يهودي من خلال المصادر المتعدِّدة للهوية الإتنية أو الدينية، انطوى كذلك على تطرُّف مسيحي وقومي، وسعى إلى تنميته. منذئذ، توغَّلت إسرائيل أكثر فأكثر بعمق نحو هوية كثير من يهود الشَّتات. تضاعفت هذه الحركة وتزايدت لدى البعض في خضمِّ دعم مطلق لمواقف الحكومة الإسرائيلية، ويتأصَّل عند الأجيال المعاصرة عبر تيمة: ''نفس الشعب في فرنسا وإسرائيل'' (1).
مختلف ذلك، وجَّه فعلا يهودا كي يستحضروا إسرائيل المضطَهَدَة والمظلومة منذ نصف قرن، وليس المضطَهِدَة والجائرة حاليا، من ثمَّة اكتفاء تقييمهم عند إسرائيل التي تعيش تحت تهديد الإبادة دون اكتراثهم بخاصيتها الاستبدادية.
إسرائيل منخرطة منذ نشأتها في حرب تتيح لها إمكانية البقاء، وتثير فزع يهود الشَّتات بأن تصبح معادلا قوميا للحيِّ اليهودي الهائل داخل وارسو المخصَّصِ للإبادة. صحيح أنَّ التهديد يستمر من أجل المستقبل، وإن دلَّت كلمة ''شواه'' على إبادة مرماها اليهود فقط وتحديدا، فستظلُّ بالمطلق إمكانية مستقبلية مرعبة بالنسبة لإسرائيل. لكن، سياسة القوة، تؤدِّي عكس المأمول إلى تعزيز التَّهديد خلال المدى البعيد عوض تقليصه.
حاليا، يتمّ استدعاء الهاجس اليهودي لصالح السياسة الاستعمارية للدولة الإسرائيلية، والتي من خلال مؤسَّسات يهودية على امتداد فضاءات الشَّتات، تعيد تذكير الغرب الأوروبي بفظاعة معاداته للسامية التي خلقها. بالتالي، عدم الاهتمام بآليات حصار الأراضي الفلسطينية، بينما يلتمسون إدانة جرائم فترة حكم فيشي قبل خمسين سنة وافتقاده التبصُّر، مع استمرار اللامبالاة حيال الجرائم التي اقترفها متطرِّفون حانقون، كما الشأن مع باروخ غولدستاين ومذبحة الخليل، ثم التَّعذيب الذي أبيح للبوليس الإسرائيلي، والعسكريين أو السياسيين المسؤولين عن جريمة قتل مائتي مدني في قرية قانا جنوب لبنان.
بناء على هذه المرتكزات، استثمر الليكود مع نتنياهو، الإحساس بالتَّضامن الذي حُبِكت خيوطه لصالح إسرائيل، كي يتحقَّق التملُّص من اتِّفاقيات أوسلو، انطلاق الاستيطان ثانية، التَّخطيط لشبكة الإقليم الفلسطيني بطرق استراتيجية، وكذا الشروع بخطوات حثيثة في إضفاء الطَّابع الإسرائيلي على كل فلسطين.
يتواصل مختلف ذلك في خضمِّ صمت أخلاقي مثير للاستغراب: تحوُّل موضوع احترام ماضي الضحية اليهودي وإحاطته بنوع من الحظر، إلى صمت غير قابل للانتهاك حيال واقع المأساة الفلسطينية.
الوضعية الحالية*
لم تُستنفذ مختلف الرِّهانات. يكفي، من أجل استعادة مسار السلام، تخلُّص مختلف الفاعلين الدَّوليين من جمودهم.
تمتلك الولايات المتحدة الأمريكية وسائل ضغط كافية، لكن رئيسها يكتفي بتحمُّل ضغط من يرغبون في الحيلولة دون استثمار مفعول هذه الوسائل الضاغطة.
بوسع أوروبا التدخُّل قصد جعل مستويات تعاونها السياسي والاقتصادي هدفًا من أجل استعادة مشروع السلام.
يمكن للشَّتات اليهودي استيعاب ودعم اليسار الإسرائيلي. تظلُّ إسرائيل بلدًا ديمقراطيًا حيث بوسع الأغلبية إحداث التغيير. وجب توضيح أنَّ استئناف مسلسل السلام، لن يحمي إسرائيل رغم ذلك من كل خطر، ضمن السياق الملتهب لمنطقة الشرق الأوسط العربي، ولا أحد بوسعه ضمان استبعاد تامٍّ لجلِّ مصادر الخطر. لكن، تنبغي الإشارة ثانية، إلى أنَّ سياسة الليكود تفاقم المجازفة في نهاية المطاف وتفسح المجال أمام كارثة تاريخية أسوأ من مملكة الفرنجة، ليس فقط على وضع إسرائيل، بل أيضًا كلّ المنطقة، وربما العالم قاطبة. في انتظار غودو (غودو؟ الرئيس الأمريكي؟…)، لا يمكننا سوى تأمُّل هذه المأساة الثنائية وجها لوجه، حسب عينين وليس بعين واحدة.
*هامش:
مرجع المقالة:
Edgar Morin: Bulletin du centre international de recherches et études interdisciplinaires numéro 12. février 1998.
(1(مثلما أوضحتُ ضمن فقرات مقالة عنوانها: "اليهودي، اسم أو صفة" ظهرت على صفحات مجلة لوموند يوم 11 أكتوبر 1989، لقد تشكَّل ثانية ثالوث ما قبل الاحتلال الروماني: الشعب/ الوطن/ الدين، وأعيد تركيبه داخل إسرائيل ولصالح هالة إسرائيل، بالسعي إلى تطويق، في شكل لامِسَة، الهويّة الإسرائيلية المعاصرة، واستعادتها، وامتصاصها، بعد أن أضاعت أكثر فأكثر كنهها الثقافي العلماني والأوروبي. أضحى الثالوث مرجعية نوعية، بالتالي جوهرية، عن الهوية اليهودية، حتى مع استمرار إحساس الانتماء إلى فرنسا والشعب الفرنسي.