تدوين- أحمد أبو ليلى
في مشهد نادرٍ يجمع بين الفن والذاكرة، أُزيح الستار في قلب بغداد عن أول تمثال لشاعرة عربية، نازك الملائكة. لم يكن هذا التمثال مجرد قطعة فنية من البرونز، بل كان إشارةً قويةً إلى أن العاصمة العراقية بدأت أخيرًا تستعيد ذاكرتها الثقافية الممزقة، وتُقدم اعتذارًا رمزيًا لأحد أبرز روادها الذين طالهم الإهمال لعقود. هذا الحدث، الذي جاء بعد عامين من إعلان المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (ألكسو) اختيارها رمزًا للثقافة العربية لعام 2023 بمناسبة مرور مئة عام على ميلادها، يطرح سؤالًا جوهريًا: هل يكفي تمثال واحد لإنصاف شاعرة بحجم نازك الملائكة؟ وما الذي تحقق بالفعل من وعود المؤسسات الثقافية لضمان مكانة تليق بها في الذاكرة الجمعية؟
وعودٌ على الورق.. ومبادراتٌ في الشارع
لطالما كانت الذكريات السنوية للشخصيات الثقافية الكبرى مجرد طقوس تُؤدى في قاعات المؤتمرات المغلقة. كتب، دراسات، وندوات أكاديمية غالبًا ما تظل حبيسة الرفوف، بعيدة عن متناول الجمهور العام. لكن في حالة نازك الملائكة، يبدو أن هناك محاولات للخروج عن هذا التقليد. بغداد، التي احتضنت شاعرتها، أخذت زمام المبادرة. إلى جانب التمثال الذي صممه النحات فاضل مسير في زقاق السراي التاريخي، شهدت المدينة افتتاح متحف ومكتب خاص بالملائكة في المركز الثقافي البغدادي بشارع المتنبي، الذي يُعدّ قلب الحراك الثقافي في العاصمة. كما تم إصدار طوابع بريدية تذكارية، وتنظيم فعاليات أدبية وترجمات جديدة لأعمالها، في محاولة لنقل ذكراها من مجرد حدث أكاديمي إلى حراك ثقافي حي.
هذه المبادرات، وإن كانت خطوات أولى مهمة، إلا أنها لا تزال بحاجة إلى دعم مؤسساتي مستدام. فذكرى شاعرة بحجم نازك الملائكة لا يجب أن تقتصر على مناسبة عابرة، بل يجب أن تتحول إلى مشروع ثقافي وطني طويل الأمد. التحدي الحقيقي يكمن في كيفية تحويل هذا الزخم الأولي إلى إرث دائم يضمن بقاء أعمالها حية ومتداولة بين الأجيال القادمة.
صوتٌ نسويٌّ عابرٌ للقارات
لم تقتصر جهود إحياء ذكرى نازك الملائكة على المبادرات العامة، بل امتدت إلى الساحات الأكاديمية حيث بدأت دراسات جديدة تُعيد قراءة تجربتها من زوايا مبتكرة، أبرزها المنظور النسوي. في بحثٍ حديثٍ صدر عن جامعة بابل للباحثة استبرق يحيى محمد، تحت عنوان "كسر الصمت عبر الشعر: تحليل نسوي لشعر آن سكستون ونازك الملائكة ضد العنف الموجه للنساء"، تُلقي الدراسة الضوء على نقاط التقاء مدهشة بين الشاعرتين.
تجادل الباحثة بأن كلًّا من نازك الملائكة والشاعرة الأمريكية آن سكستون عاشتا في سياقات اجتماعية متشابهة، رغم اختلاف الأماكن والأزمنة. فقد وجدت سكستون نفسها محاصرة بتقاليد المجتمع الأمريكي المحافظ بعد الحرب العالمية الثانية، بينما واجهت نازك الملائكة مفاهيم "الشرف" الذكورية والاضطرابات السياسية في عراق ما بعد الاستعمار. من خلال مقارنة قصيدة سكستون "Her Kind" (1960) بقصيدة الملائكة "غسلًا للعار" (1949)، يكشف البحث عن التقاء عميق بين صوتي الشاعرتين في نقد الأنظمة الأبوية باعتبارها ظاهرة عالمية تتخذ وجوهًا متعددة. هذا النهج يضع تجربة نازك الملائكة في سياق عالمي، ويُظهر أن معاناتها وقضاياها لم تكن حكرًا على مجتمعها، بل كانت جزءًا من صراع نسوي أوسع.
رائدةٌ في النقد.. ومُجدّدةٌ في الشعر
لم تكن نازك الملائكة مجرد شاعرة؛ بل كانت أيضًا ناقدة فذة، وُصِفت بأنها أحد أبرز المنظّرين للحداثة الشعرية. في كتابها "نازك الملائكة: في شظايا الحداثة ورمادها"، تتطرق الباحثة نادية هناوي إلى هذا الجانب المهم من شخصيتها، وتُعزز من دورها الريادي في المشهد النقدي العربي. تعارض هناوي بشدة من قالوا إن الملائكة تخلت عن الشعر الحر في مراحل متأخرة من حياتها، وتؤكد العكس تمامًا، بأنها ظلت وفية لمشروعها حتى الرمق الأخير.
يُقدم الكتاب استعراضًا شاملًا لمقالاتها وكتبها النقدية، ويحلل ما كُتب عنها في المجلات العربية الكبرى، ليضعها في سياق نقدي يعترف بثوريتها وريادتها. الملائكة لم تكتفِ بكسر القوالب الشعرية التقليدية، بل قدمت إطارًا نظريًا كاملًا للشعر الحر، دافعت عنه بشغف في مقالاتها، مما جعلها رائدة مزدوجة: في الإبداع وفي التنظير. إن دورها النقدي، الذي غالبًا ما يُطغى عليه إنجازها الشعري، يستحق أن يُسلّط عليه الضوء بشكل أكبر، فهو جزء لا يتجزأ من مساهمتها في الحداثة العربية.
ماذا بعد التمثال؟
بالعودة إلى السؤال الأولي، فإن إقامة تمثال لشاعرة في بغداد هو عمل تأسيسي يعيد طرح سؤال العدالة الرمزية في الفضاء العام، حيث اعتادت المدن العربية أن تُكرّم الأعلام الذكور وحدهم. لكن هذا لا يكفي. فالإنصاف الحقيقي لنازك الملائكة يتطلب خطوات أوسع وأكثر جرأة.
على المؤسسات الثقافية أن تتحرك لتنفيذ مشاريع مؤسساتية لترجمة أعمالها إلى لغات عالمية، لضمان وصول صوتها إلى جمهور أوسع. كما أن إنشاء أرشيف رقمي يضم مخطوطاتها، ورسائلها الشخصية، وجميع الوثائق المتعلقة بحياتها ومسيرتها، سيشكل مصدرًا لا يُقدّر بثمن للباحثين والأجيال القادمة. وإلى جانب ذلك، يمكن إطلاق جائزة أو مهرجان سنوي باسمها، يُحتفى فيه بالإبداع الشعري النسائي، مما يحوّل ذكراها إلى فعل متجدد ومستمر، ويدفع عجلة الإبداع في الشعر العربي.
لقد عاشت نازك الملائكة حياتها محاطة بالتقدير الأكاديمي، لكنها لم تنل دائمًا الإنصاف الشعبي الذي تستحقه. واليوم، بينما تُزين تماثيلها الشوارع، فإن الإرث الحقيقي الذي يجب أن نُكرّسه هو إرثها الفكري والفني. إنها دعوة للجميع، من باحثين، وقراء، ومؤسسات، إلى أن نُعيد اكتشاف صوت نازك الملائكة، ليس فقط كمنظرّة للشعر الحر، بل كصوتٍ نسويٍ سابق لعصره، صرخت في وجه الظلم، ودافعت عن الكلمة، ونحتت لنفسها مكانًا خالدًا في تاريخ الثقافة العربية.