تدوين- راما حموري
في تطور يثير قلقًا عميقًا بشأن حدود الحرية الأكاديمية، أثار قرار مجموعة هارفارد للنشر التعليمي بإلغاء عدد خاص من مجلتها مخصص لفلسطين والتعليم، موجة من الغضب والاستنكار في الأوساط الأكاديمية العالمية. حيث أدان أكثر من 700 باحث ومعلم ومتخصص في مجال التعليم من أكثر من 30 دولة و160 جامعة هذا الإجراء، واصفين إياه بأنه محاولة سافرة لإسكات النقاش الأكاديمي حول الإبادة الجماعية والتجويع ونزع الإنسانية عن الشعب الفلسطيني.
هذه الرسالة المفتوحة، التي وقعت عليها شخصيات بارزة مثل هنري جيرو، وإيف تاك، ومايكل دبليو. أبل، وكارما نابلسي، لا تكتفي بانتقاد القرار، بل تُقدم تحليلًا عميقًا لتداعياته على البحث العلمي، وتُعرّي ما يُعرف بـ "استثناء فلسطين" من حرية التعبير، وهو تمييز يعيق نشر المعرفة المتعلقة بفلسطين في لحظة تاريخية فارقة.
"إبادة التعليم": جريمة مزدوجة على الأرض وفي الأكاديميا
في خضم التدمير المنهجي الذي تتعرض له المؤسسات التعليمية في غزة، يبرز مصطلح "إبادة التعليم" (Educide) الذي صاغه باحثون فلسطينيون. هذا المصطلح يصف التدمير المتعمد ليس فقط للمدارس والجامعات، بل أيضًا للأسس الفكرية والثقافية للشعب الفلسطيني. منذ أكتوبر 2023، تحوّلت هذه الظاهرة في غزة إلى تدمير شبه كامل، حيث باتت أركان التعليم مهددة بالزوال.
لكن ما يكشف عنه قرار هارفارد هو أن "إبادة التعليم" لا تقتصر على القصف والتدمير المادي، بل تمتد لتشمل الإسكات الممنهج للمعرفة المتعلقة بالعنف ضد الفلسطينيين داخل المؤسسات الأكاديمية حول العالم. هذا الإجراء، كما يرى الموقعون على الرسالة، يعمق من جريمة الإبادة، حيث يحاول محو القصة والرواية الفلسطينية من السجل الأكاديمي، تمامًا كما يتم تدمير مدارسهم وجامعاتهم على الأرض.
سلسلة من الأحداث: من المراجعة القانونية إلى الإلغاء القسري
القصة التي كشفت عنها صحيفة الغارديان بدأت بمراحلها الأخيرة. فقد تم إبلاغ المؤلفين المساهمين في العدد الخاص، وعددهم 21، بأن الناشر قرر إخضاع جميع المقالات لمراجعة قانونية من قبل مكتب المستشار العام لجامعة هارفارد، وهي خطوة غير مسبوقة وغير عادية في عالم النشر الأكاديمي. هذه الخطوة، التي وصفها المؤلفون بأنها "خرق تعاقدي ينتهك حريتهم الأكاديمية"، كانت بمثابة أول مؤشر على أن الضغوط السياسية بدأت تؤثر على عملية التحرير.
قدم المؤلفون احتجاجًا مشتركًا، وطالبوا باحترام الشروط الأصلية لعقودهم، لكن الرد كان مفاجئًا وصادمًا. فقبل إصدار العدد، ألغت مجموعة هارفارد للنشر التعليمي العدد الخاص بأكمله من جانب واحد، وألغت عقود المؤلفين. هذا الإلغاء، الذي وصفته الغارديان بأنه "تطور جديد وملحوظ في قائمة متزايدة من أمثلة منع الخطاب المؤيد للفلسطينيين"، يُسقط عن هارفارد قناع الحياد الأكاديمي.
أصواتٌ أُسكتت: من عميد جامعة في غزة إلى أكاديميين مرموقين
العدد الخاص الذي تم إلغاؤه لم يكن مجرد مجموعة من المقالات الأكاديمية. لقد كان منبرًا لمجموعة مرموقة من الباحثين، بما في ذلك عميد من إحدى جامعات غزة الرائدة، وهو أحد الناجين من الإبادة الجماعية والمنظم الرئيسي لحملة الحق الفلسطيني في التعليم، بالإضافة إلى ممثلين عن لجنة الطوارئ في جامعات غزة. هذه الأصوات، التي تحمل شهادة حية على ما يحدث في الميدان، تم إسكاتها من قبل إحدى أعرق المؤسسات الأكاديمية في العالم.
واعتبرت الرسالة أن قرار مجموعة هارفارد للنشر التعليمي التخلي عن رسالتها المؤسسية، والتنصل من مسؤولياتها كرائدة عالميًا، هو جزء من فعل الإبادة ذاته. كما أن تبرير المجموعة لإلغاء العدد بأنه "مسألة جودة أكاديمية" هو ادعاء لا يصدق، خاصة وأنهم سعوا إلى نقل المسؤولية إلى المحررين من طلاب الدراسات العليا، وشككوا في نزاهة عملية المراجعة، ووصفوا المقالات بأنها "آراء" غير صالحة للنشر.
دعوة إلى المحاسبة والعمل الأكاديمي: شروط لإنهاء المقاطعة
في مواجهة هذا الإجراء، لم يكتفِ الموقعون على الرسالة بالتعبير عن تضامنهم مع المؤلفين المتضررين والمحررين الطلاب، بل وجهوا دعوة واضحة إلى المحاسبة. مطالبهم محددة وموجهة إلى مجموعة هارفارد للنشر التعليمي، وشملت هذه المطالب:
إقرار علني بالانتهاك: يجب على المجموعة أن تصدر بيانًا عامًا يعترف بأن إلغاء العدد يشكل انتهاكًا للحرية الأكاديمية وتمييزًا ضد الفلسطينيين.
ضمانات للاستقلالية التحريرية: يجب عليها تطبيق ونشر سياسات واضحة تحمي استقلالية هيئة التحرير، وتمنع خضوع المراجعة لضغوط قانونية أو سياسية.
إصدار عدد خاص جديد: كخطوة نحو إصلاح الضرر، يجب على المجموعة الالتزام بإصدار ونشر عدد خاص جديد مخصص لفلسطين و"إبادة المدارس".
إنصاف المؤلفين المتضررين: يجب على المجموعة أن تقدم اعتذارًا رسميًا وتُعترف بعمل المؤلفين الذين أُلغيت عقودهم.
وإلى حين استيفاء هذه الشروط، وجه الموقعون دعوة إلى الباحثين والمجتمعات الأكاديمية لاتخاذ موقف حازم يتمثل في "الرفض الأكاديمي" أو المقاطعة. وهذا يعني الامتناع عن دعم المجموعة بأي شكل من الأشكال، وإعادة تقييم العلاقات معها من قبل الجمعيات الأكاديمية ودور النشر الأخرى.
هذه الرسالة ليست مجرد احتجاج؛ إنها صرخة لرفض الصمت. إنها تذكير بأن ما يواجهه الأكاديميون في غزة من تدمير لمدارسهم وجامعاتهم، يقابله محاولات لإسكات صوتهم في الغرب. إن المعركة من أجل حرية التعبير الأكاديمية حول فلسطين هي جزء لا يتجزأ من النضال الأوسع للحفاظ على الحياة التعليمية والثقافة الفلسطينية حية في وجه الإبادة.