تدوين- سوار عبد ربه
منذ إنطلاقه عام 1954، حظي معرض دمشق الدولي باهتمام إقليمي وعالمي، كحدث استثنائي في الشرق الأوسط، وساهم في بلورة ملامح الحداثة ضمن هوية الدولة السورية، ليصبح فضاء اقتصاديا، سياحيا، ثقافيا وسياسيا في آن واحد. بعد سنوات من الانقطاع، تعود النسخة الثانية والستون حاملة شعار "سوريا تستقبل العالم"، في اختزال مكثف لطبيعة المرحلة التي تمر بها البلاد، بعد أكثر من عقد على الحرب والعقوبات، شهدت فيها سوريا عزلة غير مسبوقة، عطلت مسارها التنموي والثقافي.
يرصد هذا التقرير مسيرة المعرض منذ ذروة وهجه في خمسينيات القرن الماضي، وصولا إلى دورة العام 2025، في محاولة لفهم دلالات العودة وحدودها ومسارها في إطار معرض دمشق الدولي، الذي يمثل إنعكاسا للتغيرات الاجتماعية والسياسية التي رافقت تاريخ البلاد.
الدورة 62: قراءة في مسار العودة....دورة اقتصادية وعودة بلا ذاكرة
شكلت الدورة الثانية والستون من معرض دمشق الدولي، التي أقيمت بين 28 و31 آب 2025، بمشاركة 22 دولة وأكثر من 800 شركة في قطاعات متنوعة مثل التعليم والصحة والخدمات، محطة مهمة في محاولات استعادة هذا الحدث الاقتصادي والثقافي العريق. جاءت هذه النسخة في ظل مرحلة انتقالية تمر بها سوريا، ليس فقط على مستوى الإدارة، بل أيديولوجيا أيضا، مما يجعل فهم علاقة السلطة بالهوية الشعبية تحديا أساسيا. وتمثل الدورة نقطة إنطلاق اجتماعية لاستكشاف مدى ارتباط السلطة أو إنفصالها عن المكون المجتمعي.
بالعودة إلى تصريحات المسؤولين والمنظمين، إلى جانب التغطيات الإعلامية الرسمية وغير الرسمية، بدا هناك شبه إجماع على نجاح الدورة، بوصفها مؤشرا على "انفتاح سوريا وخروجها من العزلة". واعتُبر المعرض منصة لإرسال رسائل سياسية واقتصادية قوية، تعكس حضور الدولة واستعادتها لمكانة رمزية، رغم الأزمات الأمنية والانقسامات الاجتماعية والتدخلات الإقليمية التي لا تزال تهيمن على المشهد.
غير أن مضمون الفعاليات وتركيبة المعرض كشفا تناقضا واضحا بين الخطاب الرسمي المتفائل وواقع الدورة. فقد بدت النسخة الأخيرة أقرب إلى نسخة مختزلة ومفرغة من كثير من مضامينها التاريخية، خاصة على الصعيد الثقافي والفني، حيث ظهرت مؤشرات على تهميش هذا البعد الذي كان أحد الأعمدة الأصيلة للمعرض في مراحله السابقة.
أبرز مظاهر هذا التراجع تمثلت في غياب المشاركات الفنية الدولية، وإنحسار الفرق المسرحية والموسيقية والفنون البصرية، إذ استمرت بعض الفعاليات، لكنها بالمقارنة مع الدورات السابقة بدت محدودة من حيث العدد والتنوع. وحل محلها طابع ديني ومحافظ طغى على الخطاب الثقافي للمعرض، أبرزها إدراج فعالية "صلاة العشاء الجماعية" ضمن البرنامج الرسمي طوال أيام المعرض وافتتاحه بتلاوة قرآنية. هذه الفعاليات ليست بالضرورة دخيلة على المجتمع السوري المتنوع، لكنها استبدلت المكونات الفنية التقليدية للمعرض، مما أبرز طابعا رمزيا أكثر تقليدية ومؤطرا للهوية.
إلغاء الغناء والموسيقى والمسرح يعني إلغاء نبض الحياة، وهو إعلان رمزي عن موت الحياة الثقافية
وفي هذا السياق، أكد المخرج السوري زهير قنوع لموقع "روسيا اليوم" غياب الفعاليات الموسيقية، قائلا: "عندما أعلنت عن إطلاق الدورة واستعددت لتقديم حفل فني موسيقي، تقدمت بطلب عبر وزارة الثقافة ليكون الحفل ضمن أيام المعرض، لكن الرد جاء بعدم وجود فعاليات فنية وموسيقية."
من جانبه، أوضح مدير المؤسسة السورية للمعارض، محمد حمزة، لقناة "لنا" أن الفعاليات ركزت على الجوانب التراثية والوطنية، ما أدى إلى استبعاد الفعاليات الموسيقية والمسرحية، التي كانت عبر السنوات ركيزة مهمة للمعرض وأسهمت في تشكيل مسار فني للعديد من الفنانين.
أما المخرج المسرحي مأمون الخطيب، فاعتبر أن إلغاء الغناء والموسيقى والمسرح يعني إلغاء نبض الحياة، وهو إعلان رمزي عن موت الحياة الثقافية.
حضور محدود وتقييد المشهد الاجتماعي
رغم ما أُعلن عنه من انفتاح وتعددية في "سوريا الجديدة"، عكس مشهد المدعوين والحاضرين في معرض دمشق الدولي 2025 صورة مقيدة وانتقائية. فقد تصدر الفعالية عدد من مشاهير وسائل التواصل الاجتماعي المعروفين بتماهيهم مع توجهات الحكومة الانتقالية الجديدة.
في المقابل، سُجل حضور محدود لبعض الشخصيات التي دعمت بقاء الرئيس السابق بشار الأسد بعد اندلاع الأزمة عام 2011، غير أن ظهورها قوبل بانتقادات واسعة على منصات التواصل الاجتماعي. بدا ذلك وكأنه تعبير عن رفض شعبي لفكرة التعدد حتى في المناخ السياسي الجديد، بما يوحي بوجود توافق ضمني بين السلطة والجمهور على استمرار منطق الاستبعاد.
ولعل ما يثير التساؤل أكثر هو تغييب بعض الوجوه التي عُرفت بدعمها الصريح للحكومة الانتقالية، لصالح أسماء تحظى بانتشار واسع على الإنترنت، حتى وإن لم تمثل مشروعا ثقافيا أو وطنيا. ما يشير إلى أن الاعتبارات الرقمية مثل عدد المتابعين وحجم التفاعل باتت، في بعض الحالات، تتقدم على الرصيد السياسي أو الثقافي كمعيار للاختيار والظهور.
يانصيب المعرض: الطقس الشعبي والرمزية الغائبة
شكل يانصيب معرض دمشق الدولي أحد أبرز الطقوس التي رافقت هذا الحدث منذ منتصف الخمسينيات، بوصفه ممارسة جماعية متجذرة في الذاكرة الشعبية للسوريين. فبموجب القانون رقم 40 لعام 1955، جرى تنظيم سحوبات دورية خاصة بالمعرض، حملت أسماء متعددة مثل "العادي" و"الممتاز" و"رأس السنة" و"دورة المعرض"، بأجواء احتفالية وجوائز مالية كبرى. وعلى مدى عقود، لم يكن اليانصيب مجرد لعبة حظ، بل رمزا بصريا وثقافيا ارتبط بالمعرض عبر تصاميم بطاقاته الفنية التي باتت جزءا من الذاكرة البصرية للسوريين.
المفارقة أن هذا التقليد الشعبي، الذي طالما جسد البعد الترفيهي للمعرض، وجد نفسه في مواجهة مع الخطاب الديني. فقد أورد الشيخ محمد سعيد البوطي، في أحد كتبه الفقهية، ردا على سؤال حول العمل في يانصيب المعرض، وصف فيه المال المتأتي منه بأنه "ملوث وخبيث". ورغم أن هذه الفتوى تعود إلى عقود مضت، إلا أن حضورها اليوم يكتسب دلالة مختلفة، خصوصا مع إلغاء اليانصيب في دورة 2025.
هنا، يبدو إلغاء اليانصيب أقرب إلى انعكاس لتبدل الخطاب العام. فالفتاوى وإن ظلت ثابتة في مضمونها، تُستحضر في كل مرحلة بطريقة مختلفة، بما يخدم أولويات السلطة في إعادة تشكيل الدلالة الثقافية للمعرض والوجدان المرتبط به.
من الأرشيف: ذاكرة معرض دمشق الدولي
عيد الشام ورمز الحداثة السورية
شكل معرض دمشق الدولي واحدا من أبرز ملامح الحداثة السورية في القرن العشرين. فمنذ انطلاقه الرسمي عام 1954، لم يكن مجرد تظاهرة تجارية، بل حدثا اقتصاديا وثقافيا ذا بعد رمزي، تحول سريعا إلى مرآة للتحولات السياسية والاجتماعية التي عاشتها سوريا والمنطقة العربية.
تعود جذور فكرة المعرض إلى ثلاثينيات القرن الماضي، حين أطلق الرئيس محمد علي العابد عام 1936 أول معرض محلي للصناعات الدمشقية بهدف دعم الإنتاج الوطني والترويج للحرف اليدوية السورية. لكن المشروع توقف مع اندلاع الحرب العالمية الثانية واستمرار الاستعمار الفرنسي. وعادت الفكرة لتجد طريقها من جديد في عهد الرئيس أديب الشيشكلي، الذي رأى في المعرض وسيلة لتعزيز الاستقلال الاقتصادي وترسيخ حضور سوريا كدولة حديثة لم يمض على استقلالها سوى سنوات قليلة.
1954: عام التأسيس
في صيف 1954، افتتحت أول دورة رسمية للمعرض في منطقة "مرج الحشيش" بحضور الرئيس هاشم الأتاسي، بمشاركة 26 دولة من مختلف القارات. استمر المعرض شهرا كاملا، واستقطب أكثر من مليون زائر، وهو رقم غير مسبوق عربيا في ذلك الوقت. وقد رافق الحدث استعدادات لوجستية وتنظيمية كبيرة عكست حجم الرهان على المعرض كمنصة دولية ناشئة.
وفي كلمته الافتتاحية، قال المدير العام خالد بوظو: "إن المعارض العالمية مظهر من أفضل مظاهر التعاون الدولي، وهي تمنح الإنسانية فرصة لتلتقي أفكارها وتتجاوز الحدود التي صنعتها الحوادث.. وإن معرض دمشق، كأول معرض دولي شامل في البلاد العربية، يجسد جهود أمة فتية في إعادة بعث حضارتها الغابرة ومواكبة ركب الحداثة."
أما نائب المدير العام، سليم الزركلي، فقد اختار أن يخاطب المعرض شعرا، فافتتح قصيدته قائلا: "اليوم عيدك يا شام فهللي... وتفتحي عن عالم جنان."
الحقبة الذهبية: خمسينيات وستينيات القرن العشرين
وثق الباحث السوري عماد الأرشمي، في موسوعته دمشق الشام الرقمية، ما أسماه بالحقبة الذهبية لمعرض دمشق الدولي، حين اعتبر أكبر تظاهرة اقتصادية وثقافية وتجارية في العالم العربي. فقد كان مساحة نادرة للّقاء العربي والدولي، ومسرحا للتفاعل بين الصناعيين والتجار والجمهور، كما تظهر منشورات رسمية لجمعية الصناعيين ووزارة الاقتصاد اللبناني.
في دورة 1954، عاشت دمشق لحظة استثنائية مع عرض تقنية السينيراما الأمريكية، لتكون أول مدينة خارج الولايات المتحدة تستضيف هذا الابتكار البصري، حتى قبل نيويورك نفسها. أكثر من مئة ألف مشاهد، بينهم فنانون عالميون، تابعوا العروض التي جعلت من المعرض نافذة على المستقبل. وكتب المكتب الثقافي الأمريكي في دمشق في الدعوات الرسمية: "لقد فكرنا طويلا فيما يجب أن نعرضه في معرض دمشق الدولي، لأن كثيرين من السوريين يعرفون جيدا منتجاتنا الصناعية".
حين تنافس السوفييت والأمريكيون على الجمهور السوري
تزامنت الدورة الأولى للمعرض مع ذروة الحرب الباردة، في وقت كان العالم منقسما بين معسكرين يتنازعان على النفوذ. وقد تسلّل هذا التوتر العالمي إلى دمشق، التي وجدت نفسها في قلب صراع ثقافي وتقني بين القوتين العظميين.
سارع الاتحاد السوفييتي إلى إقامة جناح ضخم ومهيب، مزودا ببناء حديث يتوسطه برج، وأنفقوا ما يقارب نصف مليون دولار، واستأجروا 1200 عامل لتشييد الجناح. وعرضوا سيارات فاخرة من طراز تشايكا، إلى جانب الأسلحة، والملابس، والتبغ الروسي. في المقابل، اعتمد الأمريكيون على السينيراما وشاشات التلفاز الحديثة وحلويات مبتكرة، فاستقطبوا جمهورا واسعا.
وهكذا غدت دمشق، عبر معرضها، ساحة مفتوحة لعرض أحدث ما أنتجه العالم من تقنيات وفنون، ورمزا لمدينة تحاول أن تكون جسرا بين الشرق والغرب.
موتزارت في دمشق
في صيف عام 1955، وبين أجواء الاحتفاء الثقافي والفني التي رافقت فعاليات مهرجان معرض دمشق الدولي، وصلت إلى العاصمة السورية فرقة فيينا السيمفونية لإحياء الذكرى المئوية الثانية لميلاد فولفغانغ أماديوس موتزارت.
أقامت الفرقة في فندق "أوريان بالاس"، وبدأت التحضير لتقديم ثلاث أمسيات موسيقية خلدت في ذاكرة دمشق. تضمنت العروض مقطوعات لموتزارت وبيتهوفن وشوبان، إضافة إلى أعمال مستوحاة من رقصات الباليه والفالس. حملت هذه الأمسيات رسائل إنسانية عابرة للحدود وأثارت إعجاب الحضور.
شكلت تلك الأمسيات لحظة مفصلية في الحياة الثقافية الدمشقية، وعكست انفتاح المدينة على الموسيقى العالمية، ورسخت مكانة دمشق كجسر حضاري بين الشرق والغرب.
حين احتضنت دمشق رموز بيروت والقاهرة الفنيين
مع استمرار هذه الفعاليات، توسع دور خشبة المعرض ليصبح منصة للوحدة الثقافية العربية، حيث التقت أيقونتان من رموز الذائقة الفنية في المشرق العربي: أم كلثوم وفيروز.
في الدورة الثالثة من المعرض عام 1957، أحيت أم كلثوم حفلا غنائيا خلدته الذاكرة، وغنت حتى ساعات الفجر، وخصصت ريع الحفلات لدعم المجهود الحربي السوري. وقد كُرمت رسميا بمنحها وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة من قبل أمين عام رئاسة الجمهورية نيابة عن الرئيس شكري القوتلي.
وعادت أم كلثوم إلى خشبة المعرض في 4 أيلول 1958، بعد قيام الوحدة السورية-المصرية، في احتفالية جمعت الفن بالسياسة.
أما فيروز، فقد بدأت مشاركاتها عام 1956، واستمرت سنويا حتى أواخر السبعينيات، مقدمة أعمالا مسرحية وغنائية متعددة، أبرزها: البعلبكية، جسر القمر، الليل والقنديل، بياع الخواتم، صح النوم، ميس الريم. أسهمت هذه الأعمال في تشكيل ذاكرة فنية سورية غنية. توقفت مشاركاتها بعد عام 1977 بسبب الحرب الأهلية في لبنان، لكنها عادت عام 2008 ضمن احتفالية "دمشق عاصمة للثقافة العربية"، لتجدد حضور الفن السوري الذهبي في الذاكرة الجماعية.
ولم تقتصر المشاركات على هاتين الأيقونتين، فقد رافقهما نجوم كبار مثل عبد الحليم حافظ، وديع الصافي، نجاح سلام، نجاة الصغيرة، وردة الجزائرية، إلى جانب فرق موسيقية عربية ودولية، مما جعل المعرض مساحة ثقافية جامعة تجاوزت طابعه الاقتصادي، ورسخت دوره كمنصة للحوار والتلاقي الفني.
المعرض بين ذاكرة المدينة ووجدانها الشعبي
وفق ما وثقه الباحث السوري عماد الأرشمي، ارتبط معرض دمشق الدولي منذ انطلاقه بعدد من المعالم والرموز التي شكلت جزءا من ذاكرة المدينة، ولعل أبرزها "كازينو دمشق الدولي" الواقع في منطقة "جنينة الدفتردار" مقابل أرض المعرض، الذي كان مطعما راقيا وحديقة غنّاء، يؤمه الدمشقيون لقضاء أمسيات الصيف.
وفي الدورة الثانية عام 1955، اكتسب محيط المعرض طابعا احتفاليا لافتا، وفق ما ذكر الأرشمي، إذ نصبت أعمدة أعلام ضخمة عند المدخل، وأغلقت الشوارع المؤدية إليه، وزُين الحي بالأضواء والرايات، مع حرص على تأمين التيار الكهربائي دون انقطاع طوال أيام المعرض.
كما يشير الأرشمي إلى أن عام 1959 شهد تمديد مدة المعرض إلى ثلاثين يوما، من 21 آب وحتى 20 أيلول، ليصبح موسما سنويا تنتظره المدينة كمهرجان شامل يجمع بين التجارة والثقافة والفن. ويشهد تدفق السياح والبعثات الدولية والوفود الرسمية، إلى جانب العروض الفنية والأنشطة الترفيهية، مما رسخ موقع المعرض في الذاكرة الشعبية كمناسبة وطنية بامتياز.
كما شهد عام 1960 تدشين أحد أبرز معالم دمشق الحديثة، وهو "نصب السيف الدمشقي" في ساحة الأمويين، الذي خصص منذ إنشائه لحمل أعلام الدول المشاركة في المعرض سنويا. وقد بدأ العمل على النصب في عام 1958، وافتُتح رسميا بالتزامن مع الدورة السابعة من المعرض.
مثل معرض دمشق الدولي مرآة حية لذاكرة المدينة ووجدان شعوبها، حيث تشابك الفن والثقافة مع القضايا الوطنية، كان من أبرزها حضور القضية الفلسطينية التي شكلت علامة بارزة في تاريخ المعرض.
فلسطين في معرض دمشق الدولي
شكلت فلسطين حضورا مميزا ومتعدد الأبعاد في تاريخ المعرض، إذ ارتبطت بمسار الهوية الوطنية والنضال الفلسطيني، وتحولت أجنحتها إلى منصات رمزية وثقافية تعكس الوجدان الشعبي العربي تجاه القضية الفلسطينية.
في صيف عام 1954، أُقيم أول جناح فلسطيني بإشراف الأديب والمناضل الشهيد غسان كنفاني، الذي نجح رغم شح الموارد في تقديم معرض بسيط لكنه مؤثر، اقتصر على صور ورسومات وبعض المعروضات التقليدية الفلسطينية، ولاقي استحسان الزوار.
في دورة عام 1955، طُرحت فكرة تمثيل فلسطين بصريا من خلال أعلام صغيرة للدول العربية، مع تخصيص علمين لفلسطين: الأول العلم العربي التقليدي، والثاني علم أبيض كتبت عليه كلمة "فلسطين" بالأحمر، للتعبير عن الجراح الفلسطينية وتمييزه عن علم الأردن.
أما في الدورة الثالثة عام 1956، فقد خصص جناح مستقل باسم "فلسطين" وضع في قلب المعرض بين أجنحة الدول العربية، وشهد إقبالا واسعا تجاوز 150 ألف زائر.
تميزت الدورة التاسعة للمعرض عام 1962 بنصرة القضية الفلسطينية من خلال عرض جدارية "فلسطين: من النكبة إلى التحرير" للفنان السوري محمود حماد، التي جسدت تسلسل الحياة الفلسطينية من الازدهار ما قبل النكبة، مرورا بالمأساة، وصولا إلى النضال والمقاومة، لتصبح موقفا فنيا ورسميا عن التضامن السوري مع فلسطين.
في عام 1966، شارك الفنان إسماعيل شموط، بمعرض شخصي، ضم مجموعة أعماله التي أصبحت لاحقا رموزا بصرية بارزة في الثقافة الفلسطينية، واستمر هذا التوجه في دورة عام 1975، بمشاركة شموط وزوجته تمام الأكحل في إعداد الجناح الفلسطيني، الذي قدم صورة فنية وتراثية للقضية.
مع تطور المعرض، تطورت مشاركة فلسطين أيضا؛ ففي عام 2001 شهدت الدورة 48 أول مشاركة رسمية لوفد اقتصادي من غزة، ضم وزيري المالية والصناعة، على متن أول رحلة جوية مباشرة من غزة إلى دمشق. وشارك وفد اقتصادي من الضفة والقطاع عام 2019 في الدورة 61، رغم التحديات اللوجستية.
التحول إلى هوية دولية ومؤسسية
بحلول عام 1958، انضم معرض دمشق الدولي إلى اتحاد المعارض الدولية، مما أضاف له بعدا رسميا وعالميا، وعزز مكانته بين المعارض الكبرى في المنطقة. وتزايد عدد الدول المشاركة تدريجيا، إذ بلغ 30 دولة عام 1956، وارتفع إلى 43 دولة خلال الستينيات، ثم إلى 51 دولة عام 1977، وبلغ ذروته عام 1986 بمشاركة 63 دولة، بينما شهد عام 2004 مشاركة 55 دولة.
كما شهد عدد الزوار نموا ملحوظا، فبعد أن انطلق المعرض بمليون زائر في دورته الأولى، ارتفع العدد ليصل إلى مليوني زائر عام 1973، ثم ثلاثة ملايين عام 1974، واستمر في النمو خلال الدورات التالية.
مدينة المعارض الجديدة: استجابة للتطورات العالمية
بين عامي 2000 و2003، تبنت الدولة السورية مشروعا لتطوير صناعة المعارض من خلال المأسسة والتنظيم الحديث، ودمجها ضمن رؤية اقتصادية مواكبة للاتجاهات العالمية في التسويق والعرض. بموجب مرسوم رئاسي صدر عام 2000، تحولت "مديرية معرض دمشق الدولي" إلى "المؤسسة العامة للمعارض والأسواق الدولية"، لتتولى تنظيم جميع المعارض السورية، سواء العامة أو التخصصية، بالإضافة إلى تنسيق المشاركات الرسمية في الخارج. جاء هذا التحول استجابة للتغيرات العالمية في صناعة المعارض، التي أصبحت تركز بشكل متزايد على التخصصية، مع زيادة متطلبات البنية التحتية والخدمات اللوجستية.
من المقر القديم إلى المدينة الجديدة
حتى عام 2002، كان المعرض يُقام في موقعه التاريخي وسط العاصمة، الممتد من جسر فيكتوريا ومتحف دمشق الوطني حتى ساحة الأمويين، ويتميز بجناحيه الوطني والدولي ومعالمه المعمارية مثل "قوس قزح" عند المدخل، بالإضافة إلى الأعمدة العالية التي تحمل أعلام الدول المشاركة.
لكن مع الزيادة الكبيرة في عدد الزوار والشركات المشاركة، أصبح المقر القديم غير قادر على استيعاب هذا النمو، فتم اختيار موقع جديد على طريق مطار دمشق الدولي، يتميز بالحداثة والمساحات الواسعة، ويلبي المعايير الدولية للمعارض.
افتتاح مدينة المعارض الجديدة
في 3 أيلول 2003، وبمناسبة اليوبيل الذهبي للمعرض، افتتح الرئيس بشار الأسد مدينة المعارض الجديدة، التي صممت وفق أحدث المواصفات العالمية، لتصبح واحدة من أكبر مدن المعارض في الشرق الأوسط. تمتد المدينة على مساحة إجمالية تبلغ 1,200,000 متر مربع، أي ما يعادل 13 ضعف مساحة المعرض القديم، وتضم مساحات عرض مغلقة ومكشوفة، حدائق، مواقف سيارات، صالات مؤتمرات، أربعة أجنحة دولية، مراكز صحية، إذاعية وتلفزيونية، مراكز أمنية وإدارية، ومرافق لوجستية متكاملة.
توفر المدينة خمس بوابات خارجية للسيارات وعشر بوابات داخلية للزوار، ما يضمن تنظيم حركة المرور بشكل فعال. كما زُينت بأربعين عملا نحتيا من تصميم فنانين سوريين، مع إمكانية استضافة عدة معارض متزامنة، مما يعكس تحول معرض دمشق الدولي إلى منصة عالمية متكاملة تجمع بين التجارة، الثقافة، والفن.
الانقطاع والعودة: 2011-2025
مع اندلاع الأزمة السورية عام 2011، توقفت فعاليات معرض دمشق الدولي لأول مرة منذ عقود، ما أدى إلى غياب واحدة من أبرز واجهات النشاط الاقتصادي والثقافي في البلاد. شهدت الدورة الثامنة والخمسون عام 2011 شعارا يعكس روح الوطنية، وهو "تحية حب إلى سورية"، بمشاركة 3,492 عارضا من 23 دولة، وعلى مساحة تجاوزت 50 ألف متر مربع. تضمنت الفعاليات معرض السيارات أتو بازار ومزادا علنيا لبيع السيارات، وأجنحة للبيع المباشر، إلى جانب مهرجان فني ومعرض الباسل للإبداع والاختراع الخامس عشر.
عام 2012، افتتح في قلعة دمشق "جناح التوثيق لمعرض دمشق الدولي الذي تقيمه المؤسسة العامة للمعارض والأسواق الدولية"، الذي عرض جميع الوثائق والصور واللوحات الفنية والنشاطات الثقافية والتجارية والدروع التكريمية والطوابع البريدية وبطاقات اليانصيب منذ الإصدار الأول، إضافة إلى الأعمال الغنائية والشعرية والمسرحية. ووفق ما ذكر المدير العام للمؤسسة، محمد سامر الخليل، فإن الجناح يسلط الضوء على دور المعرض في دعم الاقتصاد السوري وترويج المنتجات وتنشيط الحركة الاقتصادية، ويكرم الرموز والشخصيات التي ساهمت في إنجاح دورات المعرض السابقة.
عاد المعرض في عام 2017 بمشاركة 43 دولة، منها 28 مشاركة رسمية، وتم توقيع نحو 650 عقدا تجاريا، وبلغ عدد الزوار أكثر من 2.25 مليون شخص. رغم العقوبات الغربية، حضر ممثلون عن شركات من دول مثل فرنسا وألمانيا وبريطانيا، وحصل المعرض على دعم حكومي تجاوز مليار ليرة سورية. وأكد بيان صادر عن وكالة الأنباء السورية الرسمية (سانا) أن المعرض يعود إلى حاضرنا معلنا صمودا اقتصاديا أشبه بصمود السوريين، متجاوزا تحديات الإجراءات الاقتصادية القسرية أحادية الجانب، وجاذبا الشركات العربية والأجنبية للمشاركة رغم الحرب والإرهاب الذي تتعرض له البلاد.
في الدورة الستين عام 2018، شاركت 48 دولة، منها 28 مشاركة رسمية، إلى جانب 1,700 شركة دولية، منها 20 شركة روسية و300 شركة سورية، وتم توقيع حوالي 740 عقدا بقيمة 15 مليون دولار في قطاعات متنوعة مثل الأغذية والزراعة والهندسة والنسيج. أما الدورة الحادية والستون عام 2019، فقد استقبلت 38 دولة عربية وأجنبية، تصدرت العراق الحضور بـ 100 شركة، تلتها إيران بـ 60 شركة، ثم الصين بـ 58 شركة، بالإضافة إلى مشاركة إماراتية ملحوظة.
ومع تفشي جائحة كورونا، تم تعليق فعاليات المعرض، بما في ذلك الدورة الثانية والستين المقررة عام 2021، واستمر التعليق حتى عام 2025 قبل استئناف النشاط تدريجيا مع تحسن الظروف.
معرض دمشق الدولي في مرآة الاقتصاد والسياسة
منذ استقلال سوريا عام 1946، مثل الاقتصاد السوري ساحة لتجاذبات داخلية وخارجية عميقة، وانعكس ذلك بوضوح في انطلاق معرض دمشق الدولي كنافذة على العلاقات الاقتصادية والثقافية لسوريا مع العالم.
في عهد الرئيس حافظ الأسد، واجهت البلاد عزلة اقتصادية طويلة، بلغت ذروتها عام 1979 مع تصنيفها كـ "دولة راعية للإرهاب" بسبب مواقفها الإقليمية الداعمة للمقاومة ورفضها اتفاقيات التطبيع مع الاحتلال، ما أدى إلى فرض عقوبات أميركية وأوروبية شملت التكنولوجيا، التمويل، والأسلحة. ورغم العزلة، استمر المعرض في استقبال المشاركات الدولية، بل شهد عام 1986 أعلى مشاركة دولية في تاريخه، ما يعكس قدرة الدولة على استخدام المعرض كأداة استراتيجية تجمع بين الاقتصاد والدبلوماسية والثقافة، لتأكيد تحالفاتها الدولية البديلة.
مع مطلع الألفية، استجابت الدولة لتغيرات المشهد الاقتصادي العالمي عبر تحديث البنية المؤسسية للمعرض، بتأسيس "المؤسسة العامة للمعارض والأسواق الدولية"، وإنشاء مدينة معارض حديثة عام 2003، في خطوة لم تكن مجرد تحديث للبنية التحتية، بل محاولة للحفاظ على مكانة سوريا في خارطة الاقتصاد الدولي، وتخفيف تأثير العقوبات مثل "قانون محاسبة سوريا" على المشاركات الأجنبية، وتعزيز موقع سوريا الاقتصادي أمام المشاركين الأجانب رغم القيود الدولية.
خلاصة
إن الإشادة بــ "نجاح" أحدث دورات معرض دمشق الدولي، بوصفها امتدادا لتقليد عريق بدأ في خمسينيات القرن الماضي، لا يمكن فصلها عن السياق التاريخي للمعرض، وأثره التراكمي في ذاكرة البلاد وهويتها. كما لا يمكن تقييم هذا الحدث بمعزل عن التحولات السياسية والاقتصادية التي تحيط به، باعتبارها عوامل حاسمة في الحكم على النجاح أو الفشل.
وإذا كانت دورة 2025 قد وُصفت بأنها الأضخم منذ الأزمة، فإنها جاءت في ظرف استثنائي يشهد فيه الاقتصاد السوري انفراجات متسارعة، مدفوعة بتسهيلات منحت للرئيس الانتقالي أحمد الشرع، تمثلت في رفع جزئي للعقوبات الأميركية، ودعم مالي خليجي مباشر، خصوصا من السعودية للقطاع العام.
هذه الظروف مجتمعة وفرت مناخا مواتيا لتنظيم دورة "ناجحة" بمعاييرها اللوجستية والتنظيمية، لكنها تظل بحاجة إلى قراءة أوسع تراعي الأبعاد الثقافية والاجتماعية والرمزية التي لطالما شكلت جوهر هذا الحدث.