السبت  06 أيلول 2025

هند رجب تهز البندقية: صدى المأساة على السجادة الحمراء

2025-09-06 08:03:59 AM
هند رجب تهز البندقية: صدى المأساة على السجادة الحمراء

تدوين- راما حموري

في زمن تتشابك فيه خيوط الفن بالواقع السياسي المأزوم، ويجد الإبداع نفسه في خضم صراعات إنسانية كبرى، كان مهرجان البندقية السينمائي الأخير مسرحاً لأحد أهم تجليات هذا التقاطع. في دورته الـ 82، لم تكن الأضواء مسلطة فقط على نجوم السينما العالميين وآخر صيحات الموضة على السجادة الحمراء، بل كانت قلوب وعقول الحاضرين موجهة نحو قصة طفلة فلسطينية، صرختها الأخيرة قبل أن تزهق روحها، هزت العالم وأعادت تعريف حدود الفن والالتزام الأخلاقي.

الحديث هنا عن فيلم "صوت هند رجب" للمخرجة التونسية المبدعة كوثر بن هنية، الذي لم يكتفِ بإبهار النقاد والحصول على استحسان لافت، بل أثار نقاشاً عميقاً حول دور السينما في مواجهة المجازر، وحول أخلاقيات استثمار المأساة الإنسانية. كان الفيلم بمثابة صرخة قوية ومدوية ضد ما يحدث في غزة، صدى صوت الطفلة هند رجب التي لم يتجاوز عمرها ست سنوات، وصل إلى القاعات المرموقة للمهرجان، وارتد على شكل تصفيق حار استمر 23 دقيقة، في رقم قياسي قيل إنه الأطول في تاريخ المهرجانات السينمائية. هذه الدقائق من التصفيق لم تكن مجرد إعجاب فني، بل كانت تعبيراً جماعياً عن العجز والغضب والحزن، واحتجاجاً صامتاً على الصمت العالمي تجاه المأساة.

المخرجة التونسية كوثر بن هنية خلال حضورها العرض الأول لفيلم «صوت هند رجب» في مهرجان البندقية السينمائي اليوم (إ.ب.أ)

عندما يصبح التصفيق معياراً

لم يعد النقد السينمائي التقليدي المكتوب في الصحف هو المعيار الأوحد للحكم على جودة الأفلام. في عصر وسائل التواصل الاجتماعي وتعاظم نفوذ "المؤثرين" الذين باتوا أدوات تسويق فعالة، اكتسبت ردود أفعال الجمهور أهمية غير مسبوقة. أصبح طول التصفيق بعد عرض الفيلم مقياساً غير رسمي يحدد مكانة العمل الفني، وكأن أهمية الفيلم تقدر بعدد الدقائق التي يستمر فيها الحاضرون في التعبير عن إعجابهم. هذا التحول يعكس تراجعاً في سلطة النقد الأكاديمي لصالح التقييم العاطفي والمباشر، وهو ما كان "صوت هند رجب" شاهداً عليه بقوة. ففي ظل الحضور العربي الكثيف، كان تصفيق الـ 23 دقيقة بمثابة رسالة واضحة من جمهور يتشارك نفس الهم والقضية، رسالة عابرة للحدود ترفض أن تكون القضية الفلسطينية مجرد خبر عابر في نشرات الأخبار. أما النقاد، فقد اتفقت غالبيتهم على الأهمية الفنية والإنسانية للفيلم، مؤكدين أنه ليس مجرد عمل فني، بل شهادة حية على إحدى فصول المجزرة المستمرة في غزة، التي خيمت بظلالها على كامل فعاليات المهرجان.

صرخة من وسط الركام

تقع أحداث الفيلم في الأمس القريب، خلال العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة. بطلة الفيلم هي الطفلة هند، التي قتلت مع أفراد عائلتها وهي تستغيث عبر الهاتف. قصة هند ليست مجرد قصة عابرة، بل هي رمز لمأساة شعب بأكمله. في 29 كانون الثاني/يناير الماضي، كانت هند وعائلتها في سيارة تحاول الفرار من القصف الإسرائيلي، لكن السيارة تعرضت للاستهداف. استشهد الجميع باستثناء هند وابنة عمها ليان. ليان تمكنت من الاتصال بالهلال الأحمر الفلسطيني وهي مذعورة، تطلب النجدة، ثم انقطع صوتها فجأة. بعدها، تمكنت هند من التحدث عبر الهاتف، صوتها يرتجف خوفاً، تطلب المساعدة. "تعالوا وخذوني"، قالت هند لعاملي الإغاثة. بقيت هند على الهاتف لأكثر من ثلاث ساعات، صامدة ومذعورة في نفس الوقت، حتى انقطع الاتصال، لتتحول صرختها إلى صمت أبدي. استغرق العثور على جثتها وجثث أفراد عائلتها وفريق الإسعاف الذي ذهب لإنقاذها نحو 12 يوماً. هذه القصة الموجعة، التي هزت العالم، كانت الشرارة التي أشعلت شرارة الإبداع لدى المخرجة كوثر بن هنية.

من الإحساس بالعجز إلى صناعة فيلم

تُعرف بن هنية بقدرتها على التقاط المواضيع الآنية والحساسة وتحويلها إلى أعمال فنية عميقة. فيلم "صوت هند رجب" ليس استثناءً، بل هو تجسيد حي لنهجها. تروي بن هنية كيف تغيرت حياتها لحظة سماعها للتسجيل الصوتي لهند. كانت في خضم التحضير لفيلمها التالي الذي عملت عليه لأكثر من 10 سنوات، عندما سمعت التسجيل في مطار لوس أنجليس. تقول: "فوراً اجتاحني مزيج من العجز والحزن الطاغي. كان رد فعل جسدياً، شعرت وكأن الأرض اهتزت تحت قدمي. لم أستطع الاستمرار كما كنت أخطط. تواصلت مع الهلال الأحمر وطلبت الاستماع إلى التسجيل الكامل. وبعد أن سمعته، أدركت، من دون أدنى شك، أنه عليَّ أن أترك كل شيء آخر. كان لا بد أن أصنع هذا الفيلم".

بهذا الشعور بالضرورة الملحة، تم تصوير الفيلم في تونس خلال أسبوعين فقط، بمشاركة ممثلين فلسطينيين جسدوا شخصيات القصة. الفيلم هو عمل هجين يمزج بين الدراما والوثائقي، ويعتمد بشكل كبير على التسجيل الصوتي الحقيقي لمكالمة هند، التي تظهر فيها البيروقراطية العالقة والقيود المفروضة على فرق الإغاثة، التي كانت بحاجة إلى تصاريح خاصة وتنسيق مع سلطات الاحتلال للتحرك، خوفاً من الاستهداف المباشر لسيارات الإسعاف.

حدود استثمار الواقع والجدل الأخلاقي

مع قوة التسجيل الصوتي وبساطة القصة، يفتح الفيلم نقاشاً جوهرياً حول حدود استثمار الواقع في الفن، ومتى يصبح التوظيف الفني أقرب إلى المتاجرة الرمزية أو حتى الابتزاز العاطفي. بن هنية تدرك هذا الجدل، وتعلن بصراحة أن عملها مزيج من التوثيق والتخييل. لكن هذا الدمج، بالنسبة لبعض النقاد، حمل الفيلم أكثر مما يحتمل.

بطل فيلم هند رجب

فبدلاً من التركيز الكامل على مأساة هند، بنت بن هنية حبكة درامية في مركز اتصالات الهلال الأحمر، حول صراع داخلي بين شخصيتين: الأولى تدفع للتحرك الفوري لإنقاذ الطفلة، والثانية تلتزم بالتعليمات خوفاً من المخاطر. هذا الصراع، رغم قراءته كاستعارة للخلافات الداخلية الفلسطينية، إلا أنه يظل مختزلاً وسطحياً، ويعيد إنتاج ثنائية نمطية بين العاطفة والبيروقراطية. المشكلة الأساسية تكمن في أن هذا البناء الدرامي يأتي على حساب القصة الأصلية لهند، التي سرعان ما تتوارى خلف الصراعات الثانوية داخل المركز. ولأن صوتها وحده لا يكفي لبناء شخصيتها الكاملة، يلجأ الفيلم إلى تمرير صور لها لملء الفراغ، مما يضعف التأثير الدرامي الحقيقي.

كما لا يمكن تجاهل الشبه الوظيفي بين "صوت هند رجب" والفيلم السويدي "المذنب" (2018)، الذي تدور أحداثه أيضاً داخل مركز طوارئ ويعتمد على الصوت كوسيط للسرد. لكن الفارق يكمن في أن الفيلم السويدي اختار التعمق في السياق النفسي والداخلي لشخصياته، بينما اكتفت بن هنية بالمشهدية الانفعالية، مما أثر على عمق العمل.

الفن في مواجهة الاحتلال: بين الرمزية والاستهلاك

يعول "صوت هند رجب" على استعداد الجمهور الغربي للتعاطف مع مصير طفلة، وعلى تأنيب الضمير الجماعي كوسيلة لاقتحام المهرجانات السينمائية وتأمين موطئ قدم على السجادة الحمراء. هذا الرهان، في المحصلة، يرهق المتلقي عاطفياً أكثر مما يحركه. إنه يمارس عليه ضغطاً عاطفياً مكثفاً ويفترض تعاطفاً فورياً، دون أن يقدم بنية درامية متماسكة. وهنا تكمن المعضلة المركزية: كيف يمكن تقديم مأساة فلسطينية راهنة دون أن تتحول إلى "منتج ثقافي" للاستهلاك في الغرب؟ هل يمكن للفن أن يكون صوتاً للمقهورين دون أن يفقد قدرته على الصدمة والتحريك؟

إن الفن في مواجهة القضايا الكبرى ليس مجرد مرآة تعكس الواقع، بل هو أداة يمكن أن تغير الوعي. والمأساة الفلسطينية، بجميع أبعادها الإنسانية والسياسية، تستحق مقاربة فنية أكثر دقة وعمقاً. فيلم "صوت هند رجب" قد يكون خطوة مهمة وضرورية، لكسر حاجز الصمت، ولنقل صوت الطفلة هند إلى منصة عالمية، لكنه أيضاً يفتح باباً للنقاش حول المسؤولية الأخلاقية للفنان عند التعامل مع الحقيقة المؤلمة.

النهاية: صوتٌ باقٍ

مهما كانت الملاحظات النقدية حول الفيلم، ومهما كانت حدود توظيفه للواقع، فإن صدى صوت هند رجب قد وصل إلى مكان لم يكن ليصل إليه لولا هذا العمل الفني. كان التصفيق الذي استمر 23 دقيقة في البندقية أكثر من مجرد إعجاب، كان شهادة على قوة الفن في تحريك الضمائر، وتأكيداً على أن صرخة طفلة صغيرة، وإن كانت قصيرة في مدتها، يمكن أن تهز عروشاً وتغير نظرة العالم، وتبقى إلى الأبد صوتاً يطارد كل من يختار الصمت.