تدوين- سهاد الأصبح
لاقت دماء الفلسطينيين المسالة في قطاع غزة صدى عميقًا في المزاج العام الغربي، على عكس حالة غالبية الشارع العربي.
فبعد عشرات السنين من الاصطفاف الشعبي الغربي عمومًا، والأميركي خصوصًا، إلى جانب إسرائيل في صراعها مع العرب، كشف استطلاع رأي أُجري مؤخرًا عن تموضع ستين في المئة من جيل الشباب في الولايات المتحدة، ليس مع القضية الفلسطينية فقط، وإنّما مع «حماس» بوصفها المقاومة الفلسطينية ضد إسرائيل.
وأظهر الاستطلاع، الذي أجرته The Harris Poll وHarrisX المختصتان في الأبحاث ودراسة الرأي العام، أنّ ستين في المئة من جيل Z، أي الشباب بين 18 و24 عامًا، في الولايات المتحدة أعلنوا دعمهم للمقاومة الفلسطينية على حساب إسرائيل.
تحول دراماتيكي في الرأي العام
جاءت هذه النتيجة بعد عام واحد فقط من استطلاع مشابه أجرته مجلة Newsweek الأميركية، إذ سجّل حينها تأييد «حماس» في هذه الفئة العمرية نسبة ثلاث وأربعين في المئة فقط في الاتجاه نفسه. في أقل من اثني عشر شهرًا، اكتمل انقلاب المشهد، كاشفًا عن تحوّل عميق في المزاج العام بين الأجيال.
لكن بينما أظهر جيل Z شجاعة في مواجهة السياسات العامة للإدارات الأميركية الداعمة لإسرائيل، ما تزال الأجيال الأكبر تتمسّك بخطاب الانحياز التقليدي إليها. إذ تُظهر الأرقام نفسها أنّ 65 في المئة من الفئة العمرية بين 25 و34 عامًا، وسبعين في المئة من الفئة بين 35 و44 عامًا، يقفون إلى جانب إسرائيل. واللافت أنّ النسبة ترتفع إلى نحو تسعين في المئة بين من تجاوزوا الخامسة والستين.
الفجوة لم تعد مجرّد تباين في المواقف، بل باتت تعبيرًا عن انقسام ثقافي وسياسي بين جيل تشبّع بشعارات «معاداة السامية» وسرديات «الحرب على الإرهاب»، وجيل آخر ينفتح على العالم عبر شاشات الهواتف، يتابع المجازر مباشرة ويقارنها بالخطاب الرسمي من دون وسائل إعلام تُفلتر الأحداث لتتناسب مع التوجّه السياسي لأصحاب القرار.
قوة منصات التواصل الاجتماعي
ليس من باب المصادفة أنّ الأجيال الأكثر حضورًا على وسائل التواصل الاجتماعي هي نفسها التي اختارت توجّهًا سياسيًا مناقضًا لموقف حكوماتها. فالصور والمقاطع التي تخرج يوميًا من غزة لعبت دورًا حاسمًا في تغيير المزاج العام، إذ أرخت دماء أكثر من 63 ألف فلسطيني بظلالها على ضمير الملايين، خلال الحرب التي وصفتها المحكمة الدولية بأنها «إبادة جماعية».
هذه الأرقام لم تعد تمرّ عبر قنوات الأخبار وحدها، بل تتناقلها حسابات مؤثّرين وصحافيين مستقلين على «تيك توك» و«إنستغرام» و«إكس». النتيجة أنّ جيل Z يرى الاحتلال الإسرائيلي مباشرة من دون فلاتر، فيُعيد صياغة أولوياته الأخلاقية والسياسية. لا تنحصر تبعات هذا الوعي الجديد في تحركات شعبية، على أهميتها، وإنّما تُنذر بتداعيات انتخابية تسهم في تغيير الخطاب السياسي للحزبين في الولايات المتحدة الأميركية.
تداعيات سياسية وانتخابية
وقد ظهر ذلك جليًا في السباق الرئاسي أواخر العام المنصرم، إذ اضطرّ الرئيس دونالد ترامب، المعروف بانحيازه الكامل إلى جانب إسرائيل، إلى الترويج زورًا بأنّه سيعمل على إيقاف الحرب على غزة ولبنان فور وصوله إلى البيت الأبيض، حتى إنّه وقّع وثائق يتعهّد فيها بذلك.
إلى جانب ذلك، شنّ ترامب حملة غير مسبوقة ضد التحرّكات الشبابية المناهضة لحرب الإبادة، ما يُظهر خطورتها وأهميتها بالنسبة إلى الرئيس الجمهوري. بعد موجات الاحتجاجات الضخمة في الجامعات الأميركية، ردّت إدارته عبر سياسات قمعية غير مألوفة، بدءًا بتوقيع أمر تنفيذي يهدّد بترحيل الطلاب الأجانب المناصرين لفلسطين وإلغاء تأشيراتهم. وفي الوقت نفسه، فرضت غرامة وصلت إلى 200 مليون دولار على جامعة كولومبيا، وهدّدت جامعة كاليفورنيا بمليار دولار من العقوبات بحجة «التساهل مع معاداة السامية». هذه الإجراءات تكشف خشية المؤسسة من قوّة جيل قادر على تغيير المزاج العام.
في سياق متصل، أظهرت دراسة صادرة عن Carnegie Endowment مطلع 2025 أنّ جيل Z يميل إلى الانخراط في السياسة الدولية لكن من موقع نقدي، رافضًا فكرة «الاستثنائية الأميركية». هذا الجيل لا ينظر إلى إسرائيل باعتبارها «حليفًا مقدّسًا»، بل كدولة يجب أن تخضع للتقييم وفقًا لمعايير العدالة وحقوق الإنسان. في المقابل، يرفض الانعزال الكامل ويدعو إلى أدوار دولية أكثر توازنًا، خصوصًا في قضايا مثل المناخ وحقوق الشعوب.
تحول يتجاوز الحدود الأميركية
التحوّل لا يقتصر على الولايات المتحدة. في أوروبا، تتكرّر الصورة نفسها: الجامعات في بريطانيا وفرنسا وألمانيا تتحوّل إلى ساحات تضامن مع غزة، والجيل الجديد يضغط على الأحزاب لإعادة النظر في سياساتها الخارجية. والسؤال المطروح الآن: هل يستمر هذا الوعي في ترجمة نفسه سياسيًا في السنوات المقبلة، خصوصًا مع دخول أول أعضاء جيل Z إلى البرلمان والكونغرس؟
في مواجهة هذه الوقائع، استعاد كثيرون كلمات المفكّر الأميركي - الفلسطيني إدوارد سعيد، الذي رأى في دور الشباب «المفتاح لتغيير السردية المهيمنة». بدوره أكّد الفيلسوف الأميركي نعوم تشومسكي أنّ الأجيال الصاعدة «قد تنقذ الديموقراطية الأميركية من التواطؤ مع الاحتلال».
جيل Z لم يعد هامشًا غاضبًا. هو اليوم الفاعل الأبرز في إعادة صياغة الرأي العام الغربي حول فلسطين. ومع تراكم الأرقام والوقائع، يزداد احتمال أن يترك هذا الجيل بصمته على السياسة الرسمية، ولو حاولت السلطة قمعه أو شراء صمته.