الأحد  14 أيلول 2025

الفصل الثالث من رواية " اللّعب الجنود " لـ طارق عسراوي

2025-09-14 07:20:20 AM
الفصل الثالث من رواية

تدوين- نصوص

تأتي روايته "اللعب بالجنود"، التي ننشر منها هنا في "تدوين" جزءا من الفصل الثالث، لتكشف عن قضايا الهويةوالذاكرة والتاريخ المُعقّد للشعب الفلسطيني. بأسلوبٍ روائيٍ فريد. ويأخذنا الشاعر والروائي طارق عسراوي في رحلةٍ عبر الزمن والمكان، مُسلّطًا الضوء على تجارب شخصياتها المتداخلة، التي تسعى لإيجاد معنى لوجودها في ظل الاحتلال والشتات.  

حظيت الرواية بتقديرٍ كبير، وتُوجت ترجمتها إلى اللغة الإنجليزية بفوزها بجائزة PEN Presents x International Booker Prize لعام 2024.

وفيما يلي مقطع من الرواية:

يندرُ أن يسكن في حيِّهم جارٌ جديد، والسَّبب الواضح هو قلّة المنازل المتاحة للإيجار، فالبناء لأكثر من طبقتين لم يكن دارجًا في تلك الحارة، والحصَّة الأوفر من رقعة الأرض كانت من نصيب الأشجار.

لكل عائلة في الحيِّ بيتٌ تملكه، تحيطه حديقة واسعة، لذا يبدو المكان وافر الخضرة لمن يطل عليهِ من الجبلِ المقابل، بفضل كثافة الحمضيات واللوزيات التي تحيط بالبيوت، ووجود براحاتٍ مزروعةٍ بأشجارِ الزيتون التي يتجاوز عمرها السِّتين عامًا، أراضٍ غير مسيّجة، متجاورة، يعرف أصحابها حدودها بفعل سلاسل حجرية بسيطة تفصل بينها، أو من أشجار التوت والتين التي تُزرع في الأطراف، أو من البراميل المملوءة بالحجارة، وغالبًا من سياج يشكّله نبات الصبّار. 

امتلأت الحارة بمساحات رعوية كانت مشاعًا لسكانها، ولا يحتاج أهل الحيِّ إذنًا من أحد ليدخلوها ويقطفوا منها ثمار اللوز الأخضر أو الصبر أو نبات الخبيزة البري، وكل شجرة تينٍ أو توت ثمرها منذور منذ الأزل وإلى الأبد للطيور والمارّة وقطعًا لجميع أولاد الحارة. 

عصر يوم الجمعة، توقفت شاحنة محملة بالكراتين والحقائب أمام منزل أبو تميم. كان منزلًا يتألف من طابق وتسوية بُنيت واجهته بالحجر الأبيض، محاطًا بأشجار التين والعنب واللَّوزيات، وقد أحال أبو تميم ساحة البيت الأمامية إلى معرضٍ للأثاث المستعمل، وبتعبيرٍ أدق إلى كومة خردة. كان يبيع ويشتري كل ما هو مستعمل من أجهزة كهربائية، وأثاث، ودرّاجات، وماكينات تصنيع، وغيرها، ولذا لم يلتفت أحد إلى أمر الشاحنة التي أفرغت أثاث ساكنٍ جديدٍ استأجر طابق التسوية، واحتاج الأمر مرور يومين حتى تتبيّن الحارة طبيعة الواقعة، وتطلَّب أن تصطحب أم تميم جارتها الجديدة في زيارة صباحية عند أم زياد.

حينها، صار اسم ابتهال حديث كل بيوت الحارة في ذلك المساء، وحين أقول بيوت الحارة كلها، فإنني أعني ذلك حرفيًّا، كلها، إلا بيتًا واحدًا، هو بيت «المفيد».

لا أحد يعرف قريبة أبو تميم هذه، لا أحد يعرف إن كانت مطلقة، أو أرملة، أو زوجة أسير، أو زوجة رجل مغتربٍ.. وحده أبو تميم يعرف الجواب، أما ابتهال فلم تجب على سؤال أم زياد عن زوجها إلا بقولها: «الله يسهّل عليه»، والله يسهل عليه هذه، حمّالة أوجه، وهي حتمًا ليست جوابًا شافيًا، وإن استبعدت فكرة زواجه بامرأة أخرى، فإن صمت ابتهال يضعها في دوّامة الفضول والارتياب.

الغريب في الأمر، أن أم تميم لم تتواطأ هذه المرة مع أم زياد لتخبرها بجذر الحكاية، رغم أن قلقًا واضحًا قد ترك أثره على وجهها حين قالت ابتهال: «الله يسهل عليه». لم تلعب أم تميم الدَّور المتَّفق عليهِ ضمنًا بين الجارتين لاستجوابِ القادمة الجديدة، وظلت أم زياد تحومُ كالنسرِ حول ابتهال في محاولة معرفة أصلها وفصلها، ومن أين جاءت ولماذا، وأين كان جدُّها عند النكبة ومن أين لجأ، ومن هم أخوالها وأنسباؤها، حتى ظهر الضيق على وجه ابتهال، ولكي تبدد أم زياد توتّر الأجواء تناولت قطعة «حِلبة» من الصينية ووضعتها في صحن مدّته صوب ابتهال: «الله يخزي الشيطان، أخذنا الحكي..»، قالت وهي تصبُّ لها كوب شاي بالنعناع.

اتفضلي يا أم.. أم إيش الله يخليلك..
أم بيسان.

ابتسمت ابتهال وعلّقت:

طيبة هالحلبة، شغلك هاي يا أم زياد؟

عرفت أم زياد أن ابتهال لا تقل مراوغة عنها، وقبل أن تجيبها، أردفت أم تميم: «وبتعمل أزكى هريسة جنينية»، وكان لهذا المديح وقع لذيذ على قلب أم زياد، فانتشت وارتخت وانفرجت أساريرها، وتناست أسئلتها الفضولية الملحّة، وقرّرت، إمعانًا في إظهار مواهبها، أن تدلِّل ضيفتيها في زيارتهما القادمة: «المرة الجاي بعمللكم هريسة خص نص».

لم تستطِع أم تميم إجابة سؤال واحد نيابة عن ابتهال، كما تفعل عادةً أمام كل سؤال يطرح أمامها، والسَّبب في ذلك ببساطة أن أم تميم برغم حشريتها لا تعرف من هي ابتهال؟

أجّرها أبو تميم التسوية حتى يضع قريبته أمام عينيه، مشدِّدًا على كلمة «قريبتي» أمام زوجته، وأمام عينيه تعني الاعتناء بها، وتعني أيضًا أن يتفرَّج عليها، فهي امرأة في منتصف الثلاثينيات، تترك شعرها مسدلًا على كتفيها وأحيانًا تربطه مثل فرس وتترك فيه جديلة صغيرة، بيضاء بعينين خضراوين زاهيتين، لها شامة شقراء على يمين عنقها، ضحكتها سهلة، كما وصفتها أم زياد، تتشمَّس بعد الظهيرة في فناء البيت، تقرأ المجلات، وتسمع أم كلثوم، تعمل في عيادة وكالة الغوث بوظيفة إدارية، ولها مصدر دخلٍ ثابت، وهذا كفيل بأن يُسقط قلب أم تميم خوفًا على أبو تميم ذاته، أو ما تبقى منه.

في الحقيقة لم تأتِ ابتهال بأي فعل يشحذ شكوك أمّ تميم، فهي تعود إلى بيتها عند الظهيرة، تدرّس طفلتها وتنهمك في أعمال البيت، لا تخالط نساء الحي إلا بعد إلحاحٍ من أم تميم، تبدّل أنبوبة الغاز بيدها، تتخيّر أوقاتًا لا يكون فيها الشارع مزدحمًا لتذهب إلى الدكّان، أو تجلس في فناء الدار تشرب الشاي بالميرمية، فهي بحالها، «كافية خيرها شرها» بحسب وصف أم تميم، لكنّ نظرة واحدة من شبَّاك مطبخ أم تميم على منشر غسيلها صباحًا، كانت كفيلة بأن تحرقصها، خاصّة وأن الأمر يتعلق بقمصان النوم الشفافة الزاهية، وروب الحمام الزهري، وكل ما يشي بالرشاقة والنعومة واليفاع. وحين قال أبو تميم: «معاش ابتهال قد نص شغلي طول الشهر»، قالها والقطع النقديّة المعدنية ترنُّ في صوته، فعرفت أنَّ زوجها لا يؤتمن جانبه، وأنَّ عليها أن تقلق، فهو مثل طائر الوقواق، لا يرقد في عش.