تدوين-فراس حج محمد
صدر كتاب "رحلتي مع الفن والحياة" للفنان جميل عمرية في حيفا، مطلع عام 2025، ويروي فيه قصته مع الفن التشكلي والنحت على المعدن وعلاقاته الفنية والثقافية ومشاركاته الفاعلة في المجتمع الثقافي والنشاطات السياسية. يقع الكتاب في (284) صفحة، وصمم غلافه الفنان الحيفاوي ظافر شوربجي.
يعد هذا الكتاب وثيقة فنية وتاريخية وسيرة ذاتية ذات أهمية خاصّة، إذ لا تقف عند سرد محطات من حياة الفنان الكاتب، بل ترصد حكاية شعب ووطن تُروى من خلال عيون فنان ملتزم ارتبطت حياته الشخصية وقضيته الفنية بالتحولات الكبرى التي شهدتها فلسطين التاريخية. يقدم الكتاب شهادة حية على هذه التحولات، وكيف أثرت بشكل مباشر على الفرد والمجتمع، وعلى الفن كمرآة تعكس هذه التجارب. إن الكتاب يربط بشكل وثيق بين الفن والحياة، ويُظهر كيف أن الفن لدى جميل عمرية لم يكن منفصلاً عن واقعه، بل كان جزءاً أساسياً من مقاومته وصموده.
ولد الفنان التشكيلي جميل عمرية عام 1956 في قرية إبطن في فلسطين المحتلة (1948)، ويتميز بأخلاقه الكريمة ونزعته الإنسانية، ويصفه الدكتور منير توما في مقدمة الكتاب بأنه "إنسان معطاء، خيّر، وفنان أصيل". تمتد مسيرته المهنية والاجتماعية لعقود من الزمن، ويتسم بالتفاؤل وحب الحياة، وهو ما يتجلى في فنه وأعماله. يجمع عمرية بين الموهبة الفطرية والالتزام الوطني العميق، وهو ما يجعل أعماله تحمل رسالة ثقافية وسياسية ذات أبعاد إنسانية عميقة.
بدأت رحلة جميل عمرية مع الفن في سن مبكرة، حيث كان في الرابعة عشرة من عمره عام 1970 عندما كان يُخربش ويُخربش على الحيطان وعلى ألواح الصفيح والزنك وحتى على ملابسه. هذه البدايات الفطرية تشير إلى أن الفن لم يكن لديه هواية عابرة، إنما حاجة تعبيرية أساسية لا تقيدها الأدوات المتاحة أو المساحات المخصصة. كانت هذه البيئة ذات الإمكانيات المتواضعة محرضاً فنياً أيقظ موهبته.
تزخر طفولة عمرية بالعديد من المغامرات التي لم تكن حكايات بلا معنى، بل كانت دروساً حياتية قيمة. فقصص مثل "البنطلون" و"شوكة النيص" و"النسناس"، تُظهر طبيعة صلبة ومقاوِمة، وكيفية التعامل مع الصعاب والمفاجآت في الحياة اليومية، وهي صفات شكلت لاحقاً جزءاً من شخصيته الفنية والوطنية. كان الوالدان الداعم الأول لموهبته، وهو أمر حاسم في مسيرته. كما يظهر في الكتاب أن موهبته حظيت بالتقدير في مجتمعه المحلي مبكراً، مما منحه دفعة معنوية كبيرة.
كانت زيارة عمرية للقدس عام 1970 مع والده بعد النكسة لحظة مفصلية في حياته. انبهر بجمال قبة الصخرة وزخارفها الهندسية، ولم تكن القبة في نظره معلماً دينياً وحسب، إنما رمز للصمود والتحدي في وجه الاحتلال. هذه الزيارة حوّلت اهتمامه الفني من مجرد هواية إلى التزام عميق بالقضية.
لم يكتفِ عمرية بالرسم، حيث أظهر عدم رضاه عن لوحته الكرتونية لقبة الصخرة، مما دفعه للبحث عن تعبير أكثر قوة وديمومة من خلال النحت. هذا السعي المستمر نحو التعبير الأقوى يُظهر مثابرته وإصراره على تقديم فن ذي رسالة. استخدامه لمعدن الألومنيوم لسكب المجسمات يرمز إلى محاولته تخليد الذاكرة وتثبيتها. الألومنيوم، بصفته معدناً خفيفاً، ولكنه متين، يعكس محاولات الفلسطينيين للحفاظ على هويتهم الثابتة رغم قسوة التحديات. ولهذه التجربة الرمزية تجلياتها، فعمله على مجسم قبة الصخرة بالرسم ثم بالسكب يمثل تجسيداً لرغبته في تحويل الذاكرة إلى عمل مادي لا يزول بسهولة.
إن إرساله نسخة من المجسم إلى عمه في دمشق يحمل رمزية ذات دلالة عميقة، إذ يعكس الترابط القوي بين فلسطينيي الداخل والشتات، ويؤكد على وحدة الهوية الفلسطينية رغم التشرذم الجغرافي. المجسم لم يكن قطعة فنية فقط، بل كان رسالة انتماء تربط بين الأهل في الوطن والمهجر.
تُظهر لوحات جميل عمرية المستوحاة من الحياة البدوية، مثل "خبز الصاج" و"القهوة" و"المخيض في الشكوة"، عمق جذوره وأصالته. يمثل هذا التراث جزءاً لا يتجزأ من الهوية الفلسطينية التي يحرص عمرية على إحيائها وتوثيقها. قصة رحيل عائلته من "البرّاكية" إلى البيت الجديد عام 1969 تُظهر بداية وعيه بمفهوم "الرحيل" و"العودة" على المستوى الشخصي، مما سيتطور لاحقاً إلى قضية وطنية شاملة. هذه التجارب الشخصية شكلت الأساس الذي بُني عليه التزامه الوطني، إذ إن المعاناة الفردية كانت انعكاساً للمعاناة الجماعية للشعب الفلسطيني.
يُعد دور جميل عمرية في سكْب النصب التذكاري لشهداء يوم الأرض عام 1978 تجسيداً مباشراً لالتزامه الوطني. لم تكن هذه المهمة فنية وحسب، بل عمل وطني يوثق حدثاً تاريخياً مفصلياً في تاريخ الشعب الفلسطيني في الداخل. التعاون مع فنانين آخرين مثل عبد عابدي وچرشون كنيسبل في هذا المشروع يوضح كيف أن الفن يمكن أن يكون أداة للتعاون بين مختلف الأطياف الفنية والسياسية في ظل ظروف معقدة.
يحمل النصب التذكاري الذي يضم مجسم "المحراث" دلالات رمزية عميقة، حيث يربط بين الشهادة والأرض، مؤكداً أن النضال من أجل البقاء على الأرض وزراعتها هو جوهر القضية. يُظهر عدم كتابة اسم جميل عمرية على النصب في البداية ثم تكريمه لاحقاً أن التزامه كان نابعاً من إيمان حقيقي بالقضية وليس من أجل الشهرة أو الاعتراف. التكريم المتأخر يؤكد أن التاريخ لا ينسى المساهمين الحقيقيين حتى لو لم تُذكر أسماؤهم في البداية.
إن مشاركة عمرية في "مسيرة العودة" إلى القرى المهجرة عام 2023، بعد عقود من بداية مسيرته الفنية، تؤكد استمرارية التزامه بالقضية الفلسطينية. الفن هنا لم يعد محصوراً في الاستوديو، بل انتقل إلى الميدان كأداة فعلية لدعم قضية اللاجئين. لقد كان عمرية حريصاً على التفاعل المباشر مع رموز المقاومة، ولقاء عائلات الأسرى والشهداء، مثل عائلة الشهيد وليد دقة. وهذا يُظهر أن فنه ينبع من تفاعله المباشر مع معاناة الشعب، ويُعيد إنتاج هذه المعاناة كرسالة فنية، فالفنان يُترجم الواقع إلى عمل فني يُحرك الوجدان.
يُعد مجسم "مفتاح العودة" رمزاً بحد ذاته للأمل في العودة والتحرر. إن استخدامه لمعدن البرونز والنحاس والألومنيوم في سكبه يعكس أهمية تخليد هذا الرمز وجعله مادة صلبة ودائمة، لا تزول مع الزمن. أما عمله "جناحا الوطن" فيرمز إلى التحرر والانطلاق نحو الاستقلال، وتؤكد هوية الأرض الفلسطينية ومكوناتها الإسلامية والمسيحية، تُحلل هذه الأعمال، وغيرها من أعمال عمرية، من خلال ربطها بالسردية الوطنية، كلوحاته التي تتناول قضايا الأسرى والتهجير. وعليه، يمكن أن يوصف فن جميل عمرية بأنه توثيق بصري لتاريخ شعب من خلال التعبير الفني الجمالي.
تُظهر قصة شقيقه علي، الذي قضى 23 عاماً في سجون الاحتلال، أن قضية الأسرى ليست شعاراً، بل هي تجربة شخصية وعائلية عميقة أثرت في حياة جميل عمرية بشكل مباشر. وقد انعكس هذا التأثر في دوره الفاعل في مهرجانات نصرة الأسرى وفعاليات دعمهم. إن تحويله مجسم "مفتاح العودة" إلى هدية للأسرى المحررين يبرز كيف يمكن للفن أن يتحول من مجرد عمل جمالي إلى عمل رمزي ذي دلالة اجتماعية ووطنية مباشرة. فالمفتاح لم يعد أداة، بل أصبح رمزا يحمل قصة شعب كامل. كما أن عمرية هو صاحب فكرة إذابة مفاتيح السجون الصهيونية وتحويلها إلى "تمثال حرية" بعد أن يتم "تصفير" السجون وتحرير جميع الأسرى الفلسطينيين.
تُعد لوحة قبة الصخرة المشرفة التي صنعها عمرية في بداية مسيرته أيقونة فنية ورمزية. فمن خلالها، بدأ باستخدام تقنية النحت والسكب لتخليد الذاكرة وتثبيتها، وهو ما عكس ارتباطه المبكر بالقدس كرمز للصمود. وفي عمل آخر، لوحة "الغزلان والأسد" التي استرعت انتباهه في إحدى زياراته لقصر هشام في أريحا، يتحدث عمرية عن اللوحة قائلا: "ولفت نظري من بين آثار القصر لوحة رائعة من الفسيفساء ما زالت سليمة في أرضية الحمام لا تزيد مساحتها على متر مربع واحد. تُمثل اللوحة شجرة برتقال عليها الثمار وتحتها ثلاثة من الغُزلان يرتعون في ظلها، اثنان من ناحية، والثالث من الناحية الأخرى، حيث انقض عليه أسد وأنشب فيه أنيابه وأظافره". ويربط عمرية فنه بالتاريخ الفلسطيني الغني، وتُظهر قصة اللوحة بعض ما عاناه الفنان جميل عمرية من عدم وعي المجتمع بأهمية الفن أحياناً. فبعد أن أنفق عليها الكثير من الوقت والجهد لتكون جدارية في أحد المنازل كهدية لابن عمه، يأتي ساكن جديد ويزيلها لنتهي تلك اللوحة من الوجود.
كما تُظهر لوحته "أمنا الأرض" رمزية الأمومة والأرض، وتجسد فكرة الانتماء والجذور بشكل عميق. كما لوحاته الأخرى المشتمل عليها الكتاب، إذ تركز على الجوانب الإنسانية والطبيعية في حياته، مما يضفي على فنه بعداً شخصياً وعاطفياً.
يتقن جميل عمرية تقنية سكب المعادن، وهي تقنية فريدة من نوعها تتطلب مهارة ودقة، كما قال، تبدأ العملية بنحت المجسم من الجبص أو الكلكار، ثم صب المعدن المنصهر فيه. كما يبرز عمله مع الفنان چرشون كنيسبل في سكْب الأعمال المعدنية أنه جزء من مدرسة فنية أوسع.
تعتبر المرأة في لوحات جميل عمرية رمزاً للوطن والصمود والأمومة والذاكرة كما هي في الشعر مثلا عند رموز الشعر الفلسطيني. كما تظهر شجرة الزيتون رمزاً للجذور والهوية والصمود الفلسطيني. يربط عمرية بين هذه الرموز الثلاثة ليخلق "ثالوثاً مقدساً" في فنه، يعكس استمرارية الحياة رغم النكبات. إن هذا الربط يُظهر رؤية عميقة للفن كأداة للحفاظ على الهوية والتاريخ، فكل رمز من هذه الرموز يروي قصة بحد ذاتها، وهي معاً تروي قصة شعب كامل.
اشتمل الكتاب إضافة إلى سيرة الفنان المكتوبة، شهادات كتبها مجموعة من أصدقاء الفنان، وهم: منير توما كاتب المقدمة الذي يضع مسيرة جميل عمرية في إطارها الصحيح، رابطاً بين فنه وأخلاقه، ويصفه بأنه إنسان "يؤمن بقيمة الإنسان في هذه الحياة".
أما شهادة المحامي حسن عبادي فتصف عمرية بأنه "الفنان الملتزم"، وتُبرز دوره في مسرح الميدان ونصب يوم الأرض. هذه الشهادة تربط بين شخصية عمرية العامة ودوره في النضال الفني. يوضح عبادي أن فن عمرية هو تجسيد لقصة شعب بأكمله، وهو ما يعكس الفهم العميق لرسالة فنه.
من جهة أخرى، تُقدم شهادة الكاتب فراس حج محمد رؤية إنسانية للفنان من خلال قصة "قوالب المعمول". هذه القوالب التي صنعها عمرية هدية للعائلة، ترمز إلى الربط بين الفن والحياة اليومية، وبين الرمزية العالية (العيد والاحتفال) والملموس (سكْب المعادن). إنها شهادة تُظهر أن الفن لدى عمرية متغلغل في تفاصيل الحياة.
أما دراسة الدكتورة جهينة عمر الخطيب فتقدم تحليلاً أكاديمياً لأعمال جميل عمرية. تربط بين بداياته الفنية، وتأثره بالنكبة وقضية الأسرى، وتُشرح أسلوبه في استخدام سكب الألومنيوم، وتُؤكد رموز المرأة والأرض والزيتون. وتُفسر دلالة الألوان في لوحاته، فوجود الشمس الحمراء بجانب المسجد الأقصى يرمز للأمل القادم، "فرغـم الألم ورغـم معانـاة الفلسـطيني، فــإن الشــمس ســتبقى شــاهدة وســوف تُشــرق مــن جديــد".
من خلال هذه الشهادات، يمكن استخلاص صورة متكاملة عن جميل عمرية كشخصية فلسطينية ثقافية وفنية لها بصمتها الإبداعية في حقل الفنون الفلسطينية المعاصرة، فهو ملتزم ومتفائل وإنساني ومثابر. يجمع بين العطاء الفني والالتزام الوطني، وفنه كما أنه تعبير جمالي فإنه أيضاً أداة للمقاومة والصمود وتخليد الذاكرة.
من كل ما سبق يتبيّن أن جميل عمرية شاهد على عصره بالفن واللون والمعدن، ففنه وثيقة حية تعكس الهوية والصمود الفلسطيني، ومسيرته الفنية تجسيد لمسيرة الشعب الفلسطيني، من التراث والأصالة إلى الالتزام الوطني والمعاصرة. إن تقنية سكب المعادن التي يتقنها تعكس سعيه لتخليد الذاكرة وتثبيت الهوية في وجه محاولات الطمس. كما أن شهادات الأصدقاء والباحثين تُقدم إطاراً نقدياً يؤكد قيمة فنه وأثره العميق.
إن هذه السيرة الفنية للفنان جميل عمرية، وما اشتملت عليه من معارف وأفكار تخص الفن الفلسطيني والواقع السياسي والتاريخي للقضية الفلسطينية تستدعي دراسة مقارنة بين أعماله وأعمال فنانين آخرين من الداخل الفلسطيني المحتل عام 1948، وتحليل أعمق لتجربته الفنية الممتدة إلى أكثر من خمسين عاماً. ودراسة دور "الفن الملتزم" في التعبئة الاجتماعية والثقافية داخل فلسطين التاريخية، وذلك لتوثيق هذا الإرث الفني الغني والحفاظ عليه للأجيال القادمة.