تدوين-إبراهيم المصري
بعد سنوات من الإدمان الرقمي، يبدو أن العالم يتجه نحو مرحلة "النفور الكبير" من منصات التواصل الاجتماعي. ما بدأ كوسيلة ثورية للتعبير والتواصل، تحوّل تدريجياً إلى فوضى عارمة من الغضب، الإعلانات، والمحتوى المكرر، دافعاً المستخدمين للتساؤل: هل انتهى عصر السيطرة المطلقة للشاشات؟
نهاية "التجربة المرهقة": انخفاض عالمي في معدلات الاستخدام
لطالما كانت منصات التواصل مرادفاً لزيادة زمن الشاشة، لكن البيانات الحديثة تشير إلى تحول جذري. ففي عام 2025، سجلت الدراسات أول انخفاض واضح في معدلات الاستخدام اليومي عالمياً. شركة GWI، التي تتبع عادات ربع مليون مستخدم، أكدت أن الدقائق التي يقضيها الناس على التطبيقات الكبرى تراجعت بنسبة تقارب 10% خلال عامين فقط.
هذا التراجع ليس مجرد إحصائية عابرة، بل هو مؤشر على تغير في السلوك الجمعي. وقد كان التأثير الأقوى بين المراهقين والشباب، الذين فقدوا الحماسة التي دفعتهم للتسجيل أول مرة، وبدأوا بالبحث عن وسائل تفاعل أكثر واقعية أو أقل ضوضاء. تبعتهم الفئات الأكبر سناً، مكتفية بتصفح عابر لا يترك أثراً عميقاً، بعد أن أدركوا أن "التجربة" لم تعد تضيف معنى لحياتهم اليومية، بل تحولت إلى عادة مرهقة بلا جدوى.
هجرة الأصدقاء وخطاب الكراهية: تحول المنصات لـ "فضاءات معادية"
الشكوى لم تعد تقتصر على الوقت المهدور؛ فالأسباب أعمق. يشتكي المستخدمون من أن الحوارات الحقيقية قد توقفت، وحل محلها سيل لا ينتهي من المقاطع القصيرة السريعة والتعليقات الغاضبة والمثيرة للانقسام.
بدأت المنصات في فقدان طابعها الاجتماعي الأصيل، مع ملاحظة المستخدمين أن "الأصدقاء صاروا يختفون الواحد تلو الآخر"، تاركين خلفهم صفحات امتلأت بالإعلانات الموجهة بدقة مفرطة. ما كان يوماً مساحة للتواصل الإنساني تحوّل إلى فضاء رقمي تسيطر عليه خوارزميات الاحتراق النفسي وخطاب الكراهية المستمر. هذا الشعور بأن المنصة أصبحت "مضجرة" و**"عدائية"** هو الدافع الأكبر لعملية النفور.
"المحتوى الآلي" وتآكل الإنسانية: الذكاء الاصطناعي يملأ الفراغ
لإنعاش الاهتمام المتضائل، لجأت الشركات الكبرى إلى سلاح جديد: الذكاء الاصطناعي (AI). استثمرت شركات عملاقة مثل "ميتا" و"أوبن إيه آي" في أدوات توليد الفيديوهات القصيرة التي تُنشأ آلياً من نصوص أو أوامر بسيطة. كان الهدف الواضح هو جعل المستخدمين يعتمدون على الذكاء الاصطناعي في صناعة المحتوى بدل تصويره وتوثيقه بأنفسهم.
النتيجة كانت تغير جوهر الفكرة التي بنيت عليها منصات التواصل. امتلأت الصفحات بمشاهد مصطنعة ومؤثرات رقمية مبالغ بها، ففقد المحتوى طابعه الإنساني الأصيل. لم تعد المنصات تحتاج إلى مبدعين حقيقيين أو جمهور ناقد؛ بل تحولت إلى "خطوط إنتاج ضخمة" للصور المتحركة المصممة لاحتلال الانتباه.
هذا التدفق المستمر للمواد المصممة لـ "التحفيز السريع" من دون أي مضمون حقيقي، خلق نوعاً جديداً من الإدمان: إدمان التحفيز الآلي. ومع ضياع المحتوى بين ما هو مصنوع بشرياً وما هو مصنوع آلياً (AI-Generated)، فقدت المنصات آخر ملامحها الاجتماعية وتحولت إلى مجرد "صناديق باندورا" للصور المتدفقة.
العودة إلى التوازن: هل تجاوزنا "ذروة المنصات"؟
بعد سنوات من التفاعل المفرط، وصل المستخدمون إلى "الاحتراق النفسي" واكتشفوا أن الوقت المقضي أمام الشاشات يسرق لحظاتهم الحقيقية ويدفعهم إلى العزلة والملل. هذا الوعي المتنامي هو ما يقف خلف الميل المتزايد إلى حذف التطبيقات أو تقليص استخدامها بشكل كبير.
في أوروبا وآسيا، أظهرت الإحصاءات أن متوسط الوقت اليومي انخفض إلى ما يقارب ساعتين. ورغم أن مناطق مثل أميركا الشمالية ما زالت تُظهر تعلقاً أكبر، مدفوعة بـ "خطاب الغضب" والمحتوى المثير الذي يغذي الانقسام، إلا أن السؤال بدأ يتردد بجدية في كل مكان: هل تجاوزنا ذروة منصات التواصل الاجتماعي؟
يبدو أن الإجابة تقترب من أن تكون نعم. الناس يبتعدون بحثاً عن توازن جديد بين الحياة الافتراضية والواقع. إنهم يعودون إلى المحادثة المباشرة، إلى اللقاءات الحقيقية، وإلى الصمت كقيمة مفقودة. المنصات، شيئاً فشيئاً، تضعف وتفقد بريقها القديم. وبدلاً من أن تكون محور الحياة اليومية، هي في طريقها لتصبح مجرد "خلفية رقمية" أو وسيلة عابرة، يمر بها الناس سريعاً قبل أن يعودوا إلى العالم الحقيقي.