تدوين-آراء ومدونات
ننشر في تدوين على جزئين تفكرا بعنوان: "لننقذ تعليمنا ... لننقذ غزة ... لننقذ فلسطين"من إعداد الطالبتين براء الكعبي وسالي شطارة من برنامج التطوير التربوي في جامعة بيرزيت، تسعيان فيه إلى تقديم تصور نقدي وتأملي للتربية التحررية في السياق الفلسطيني، انطلاقا من واقع الطلبة تحت الحصار والاحتلال.
يتناول هذا التفكر تجربة التعليم في غزة بوصفها مدخلا لفهم أعمق لتحديات الحق في التعلم، حيث يقارب التعليم باعتباره فعلا إنسانيا ومقاوما في آن واحد. يستند النص إلى استعارات فكرية ودلالات العيون والرؤية لاكتشاف الحقيقة، ويتوسع في تحليل فضاءات غير تقليدية كالمتحف والموسيقا والأكاديميا، باعتبارها مواقع لإعادة تعريف التعليم والتقييم، مستلهما رؤية د. جهاد الشويخ للتعلم كفعل تحرري.
في ختام هذا التفكر، تبلور الكاتبتان تصورا تربويا تحرريا يستند إلى العصيان المعرفي والعودة إلى الجذور الأولى حيث يسكن الأمل وتصاغ إمكانات التغيير.
فيما يلي الجزء الأول من التفكر:
كتبنا كلماتنا هذه لأجلهم ... والحكاية لا تختصر بل تطول وتطول وتطول...
إلى أهلنا في غزة، إلى طلبتنا الأحباء، نيقن كم صعبة تجربتكم في تقديم اختبارات تحت النار والنزوح. لأجلكم نرفع صوتنا ونكتب تجربتكم، مطالبين بخلق بدائل للتعليم التقليدي، بدائل تجعل كل طفل منكم ينمو بحرية وكرامة، بعيدًا عن القلق والخوف، متاحًا له أن يتعلم، يبدع، ويصوغ مستقبله بيديه. نكتب لنشهد على صمودكم، لنذكّر العالم بأن التعليم ليس رفاهية، بل حق مقدس، وأن أطفال غزة يستحقون أن يدرسوا في أمان، أن يحلموا ويحققوا أحلامهم رغم كل القيود. هذا النص لكم، صوتنا معكم، وكلماتنا تحاول أن تحمل ما لا يستطيع الحصار حمله: الحرية، الكرامة، والأمل.
نحو تعليم تحرري فلسطيني لأجل أطفال غزة، طولكرم، جنين، نابلس ... لأجل أطفال فلسطين داخلها وفي شتاتِها...
لننقذ تعليمنا ... لننقذ غزة ... لننقذ فلسطين
نحاول تقديم تصور شامل للتربية من أجل التحرر في السياق الفلسطيني، منطلقتان من معاناة الطلبة تحت الحصار والاحتلال، ومؤسستان لرؤية تجعل من التعلم فعلًا إنسانيًا ومقاومًا في آن واحد. نبدأ بتأطير وجداني لتجربة الطلبة في غزة بوصفها مدخلًا يكشف عن التحديات التي تواجه الحق في التعليم، ثم نقدّم إطارًا تأمليًا عبر الاستعارات الفكرية التي تفتح مجالًا لإعادة التفكير في دور العيون والرؤية في كشف الحقيقة. ثم نتوسع في النص عبر تحليل فضاءات أخرى مثل المتحف والموسيقا والأكاديميا، بوصفها مواقع تربوية يمكن أن تؤسس لبدائل تعليمية ومقاومة بمقاربة كل ذلك بإعادة تعريف الشويخ للتعلم وربط التعليم والتقييم بهذا التصور الجديد للتعريف من منظور يجعلها ممارسات تحررية لا أدوات قمعية. وفي الختام، نبلور رؤية للتربية التحررية في فلسطين تقوم على العصيان المعرفي، والخروج والعودة إلى الجذور الأولى حيث يكمن الأمل...
العيون بين المرايا والغبار: تمهيد
" ليست كل العيون قادرة على رؤية "الحقيقة" و"حاملها" حتى في أقصى لحظات عريهما النبيل، فـ"بعض العيون مرايا، وبعض العيون غبارُ"[1] ... بهذه الكلمات العميقة لِ د. عبد الرحيم الشيخ نفتتح تأملنا، موجّهين خطابنا إلى المعلمين والمعلمات، الأكاديميين والأكاديميات، وكل من ينتمي إلى حقل التربية في فلسطين. نحن هنا لا لنسرد فقط، بل نسعى لفتح العيون على ما يُراد لها أن يبقى محجوبًا: رؤية الذات كفاعل حر، ورؤية المعرفة كساحة مقاومة. فالدعوة إلى "تحرر تربوي" ليست ترفًا فكريًا، بل فعل وعي وبقاء، يحرر التعليم من كونه مجرد إعادة إنتاج للهيمنة، ليصبح ممارسة للحرية، وفضاءً يعيد للعين الفلسطينية قدرتها على النفاذ إلى الحقيقة، رغم الغبار الذي يفرضه الاحتلال، خارجيًا كان أم داخليًا...
من حيث لم تنتهِ الحكاية: رتاج والتوجيهي تحت النار (قصة من قصص غزة المؤلمة جدًا)
عاطف سكر، مواطن غزّاوي، قرر أن يوثّق مشوار ابنته رتاج[2] مع "التوجيهي" في ظل حرب الإبادة المستمرة. في 21 آب/أغسطس 2025، ومع إصرار الوزارة على عقد امتحانات التوجيهي بشكل إلكتروني لطلبة القطاع، نشر عاطف دعوته لطلبة القطاع للتسجيل لهذا الاختبار "المقدس" وهو يوثق وجعًا جماعيًا: " مساكين توجيهي غزة ومنهم بنتي رتاج، اتمرمطوا وانهلكوا سنتين ولحتى الآن ما قدموا امتحانات، لا الوقت مناسب ولا الوضع مناسب ولا في مكان مناسب ولا في جو مناسب ولا في تغذية مناسبة ولا في نفس ولا راحة ولا هدوء ...!!! زي اللي بيغني في الطاحون".
ومع انطلاق الامتحانات الالكترونية رغم القصف والنزوح والتجويع، غرّد في السادس من أيلول/سبتمبر 2025: " تطبيق امتحانات توجيهي أصابه خلل عام ... من أولها هيك"، ليعود ويوضح لاحقًا في اليوم ذاته: " تأجيل امتحان اللغة العربية لطلاب توجيهي بسبب هجوم سبراني على منصة الإمتحانات ... حسبنا الله ونعم الوكيل"...
لكن لأن العيون مغبّرة عن رؤية الواقع والحقيقة، ولأن "التوجيهي" مقدّس لا يُمسّ، واصلت رتاج وزملاؤها تقديم الامتحانات وسط الركام. في 8 أيلول/سبتمبر 2025 كتب عاطف غاضبًا: " امتحان التكنولوجيا اليوم جايبين إلهم 4 أسئلة من المحذوف، مساكين طلاب توجيهي 2006 وغلابة، بيجروا ورا شبكات النت الشغالة والضعيفة وبيقروا من سنتين ... !!! وحرب مستمرة بلا توقففف وفقدان الأحباب، وواضع للامتحانات ما معه خبر بالمحذوف... حروب من كل الإتجاهات".
أما في العاشر من أيلول/سبتمبر، ومع تهديد بإخلاء العمارة التي تسكنها العائلة، وجدت رتاج نفسها مضطرة للخروج أثناء تقديم الامتحان: " بنتي رتاج توجيهي 2006، لما هددوا العمارة اللي كنا نازحين فيها ساعة تقديم الامتحان، خرجت في الشارع على بعد ٤٠٠ متر، على الركام وقعدت على حجر، وشبكت على نت الشارع وقدمت الامتحان، وقصفوا العمارة وهي بتقدم الإمتحان، مع إنها متفوقة جدا ولمدة سنتين حفظت المنهج كله، لكن ظروف الحرب والنزوح جعلها تصارع من أجل تكملة تقديم الامتحانات بلا مقومات هدوء وراحة وطمأنينة... وين بتلاقوا شعب بتحمل هيك هموم، بس قولولي وين ؟!!! وبعدها فقدنا كل الأواعي والفراش والأواني، يعني بس أخدت معها بعض الرزم وجوالها والآلة الحاسبة، حسبنا الله ونعم الوكيل".
وأخيرًا، في 16 أيلول/سبتمبر 2025 أنهت رتاج وزملاؤها رحلة "التوجيهي" المرهقة: " أنهت ابنتي ( رتاج ) طالبة التوجيهي 2006 تقديم كافة الامتحانات ...بمعاناة كبيرة جداً جداً استغرقت أكثر من عامين، عانت رتاج وزميلاتها وزملاؤها كثيراً وذاقوا الأمرّين من تدمير البيوت والنزوح المتكرر والقصف المتواصل وفقدان الأقارب والجيران والأحباب والإرهاق البدني والنفسي والرعب والخوف الدائم وقلة الإمكانات... تنفست رتاج الصعداء وأنهت عقبة مهمة في طريق تحقيق حلمها في ( دراسة الطب ) ... لكنها لم تتخلص ولم تنجُ بعد من الحرب اللعينة والموت الذي يتربص بالجميع هنا في مدينة الأحزان والركام ... فلترفع القبعات احتراماً وتقديراً لرتاج وزملائها وزميلاتها وليصفق الجميع لهم ... لأنهم كافحوا كفاح الأبطال في ميادين النار والدماء ...والشكر والتقدير لكل من دعا لهم من قلبه ودعمهم ولو بكلمة... أنار الله دربكم يا بابا ووفقكم لما يحب ويرضى... والدها / عاطف رياض سكر ( أبو رياض)".
رتاج، زميلاتها وزملائها ليسوا مجرد أرقام في نشرات الاخبار؛ إنهم وجوه مشبعة بالأحلام، وقلوبًا تنبض بحق أصيل في حياة كريمة. ومن واجبنا أن نصغي لحكاياتهم، أن نحمل قصصهم، أن ننفض الغبار عن العيون، وأن نقرع جدار الخزان في وجه كل مسؤول متغافل. نكتب عنهم، نصرّ على رواية تاريخهم، لعل الإنسانية يومًا ما تنتصر على صمت العالم وخذله... ولعل الدفعة التالية تنجو من هذه التجربة الأليمة... نكتب تلبية لدعوة ابن عكا الشهيد غسان كنفاني، الذي أوصانا "إذا كنا مدافعين فاشلين عن القضية، فالأجدر بنا أن نُغير المدافعين لا أن نُغير القضية"... فإن تغافلت بعض العيون، نتحمل نحن مسؤولية الدفاع عن طلبتنا، وإيصال صوتهم، مطالبين بتحرر تربوي وتعليمي حقيقي في فلسطين؛ لأجل طلبة غزة أولًا أسوة بطلبة فلسطين التاريخية داخلها وشتاتِها.
من هذا الواقع الفردي_ الذي يعبر عن مجتمع_ بأسره ننطلق نحو قراءة تحليلية لفهم "التوجيهي" كسجن رمزي، وفقًا لأفكار فوكو، متخذين من هذا السياق الشخصي مثالًا على الهيمنة البنيوية.
التوجيهي كسجن رمزي: قراءة فوكو
في غزة، حيث يتهاوى العمران تحت القصف وتُختبر إنسانية البشر في أقسى لحظاتها، يبقى امتحان "التوجيهي" حاضرًا كجدار آخر من جدران السجن الرمزي. فبينما يُفترض أن يكون التعليم أفقًا للتحرر، يتحوّل "التوجيهي" إلى قيد يُطوّق الحلم ويحوّل الطموح الفردي إلى طاعة جمعية.
الامتحانات ليست مجرد أدوات تقييم معرفي، بل آليات ضبط وانضباط، تُعيد إنتاج السيطرة على الأجساد والعقول
هنا تتجلى أفكار فوكو[3]: الامتحانات ليست مجرد أدوات تقييم معرفي، بل آليات ضبط وانضباط، تُعيد إنتاج السيطرة على الأجساد والعقول. فالامتحان يذهب إلى أبعد من قياس المعلومات؛ فهو يستدعي الذات والهوية الإنسانية، ويحدد موقع الفرد في السلم الاجتماعي، بل ويُعيد صياغة أخلاقه وفق معايير السلطة[4]. إنه ليس لحظة عابرة في مسار دراسي، بل أداة هيمنة تُمارس عبرها السلطة مراقبتها، وتجعل من الممتحَن كائنًا واعيًا برقابة الآخرين ورقابته الذاتية في آنٍ واحد.
في ضوء ذلك، يغدو "التوجيهي" في الحالة الفلسطينية رهينة لسلطتين متداخلتين: سلطة التعليم الرسمي التي تُقدّس الامتحان كمعيار أوحد للنجاح والجدارة، وسلطة الاحتلال التي تفرض عبر القصف والنزوح والتجويع سياقًا قاهرًا يُفرغ التجربة التعليمية من أبسط مقوماتها الإنسانية. وهكذا لا يكمن التحدي في اجتياز الامتحان فحسب، بل في إدراكه كجزء من نظام أكبر لإنتاج المعرفة وضبط الطلبة، وتقييد مخيلتهم.
إن "التوجيهي" في غزة أسوةً في الضفة ليس مجرد مرحلة دراسية، بل سجن رمزي يلاحق أبنائنا حتى في لحظات الموت والدمار، فيحوّل التعليم من أفق للتحرر إلى أداة لإعادة إنتاج السيطرة. والتحدي المطروح على عاتقنا هنا: إعادة تخيّل الامتحان كمساحة مقاومة وبناء للذات الحرة، بدل أن يبقى شاهدًا على التدجين والهيمنة. وفي قلب هذا الواقع القاسي، يعلو صوت الحقيقة، كما عبّر عنها أحمد مطر[5]، ليذكّرنا بأن الحرية لا تُنتزع إلا بالإصرار والمواجهة:
كُلُّ النّاسِ محكومونَ بالإعدامِ
إنْ سكَتوا، وإنْ جَهَروا
وإنْ صَبَروا، وإن ثأَروا
وإن شَكروا، وإن كَفَروا
ولكنّي بِصدْقي
أنتقي موتاً نقيّاً
والذي بالكِذْبِ يحيا
ميّتٌ أيضَاً
ولكِنْ موتُهُ قَذِرُ!
وأمام وجه الموت والقمع في غزة، طولكرم، جنين وسائر فلسطين الحبيبة، نتخذ موقفًا ننقد من خلاله النظام الرسمي للامتحانات مستعينين في مسيرة من دروس التعليم الشعبي الفلسطيني، لنرى كيف يمكن للمجتمع أن يبني بدائل تحررية خارج قوالب السلطة.
بين الحاضر والماضي: دروس من التعليم الشعبي
لا ينحصر النقاش في "التوجيهي" وحده، فالتجربة التربوية الفلسطينية محمّلة بأزمات ممتدة ما تزال ترخي بظلالها حتى اليوم. ورغم ما يملكه الشعب من طاقات خلاقة وإرادة مقاومة، إلا أن ملامح الضعف البنيوي ما زالت تقيّد الحاضر.
إذا عدنا بالذاكرة إلى الانتفاضة الفلسطينية الأولى، نجد أن ظاهرة التعليم الشعبي ولجان الأحياء قد مثّلت لحظة تاريخية استثنائية في مقاومة الاحتلال عبر المعرفة[6]. غير أنّ تلك التجربة الفريدة افتقدت القدرة على التعبير عن ذاتها كما افتقدت المؤسسات الخيال اللازم لتطوير بدائل تتجاوب وظروف المرحلة: "غابت لدينا القدرة على التعبير عن تلك الظاهرة التاريخية الفريدة مثل غياب القدرة لدى مؤسساتنا على التطور وتخيل بدائل لما هو مألوف أو موجود بشكل يتجاوب مع الحاجات الأساسية للناس والمجتمع... كما أن الجامعات مثلًا في تجاوبها مع الحاجات التعليمية في تلك الفترة، لم تستطع تخيل بديل لحشر الطلبة والمعلمين في غرف جديدة لمتابعة عملية التعليم نتيجة الإغلاق"[7].
هنا يؤكد فاشة أن جوهر الأزمة لا يكمن فقط في غياب البدائل المؤسسية، بل في غياب الوعي بالبنى الذهنية العميقة التي تحكم تصرفاتنا وعلاقاتنا وإدراكنا لما يجري حولنا. هذه البنى، بحسبه، هي أعقد مكوّنات التعلم لأنها تتطلب مواجهة الذات في أعماقها: " وذلك لأنه يتطلب منا النظر إلى داخلنا، داخل عقولنا وأعماق نفوسنا، في فرضياتنا وتعميماتنا، وفي الصور التي نحملها عن العالم في أذهاننا"[8]. وبما أن هذه البنى غالبًا ما تعمل في الخفاء دون وعي مباشر، فإننا بحاجة إلى "مرآة" تكشفها لنا، لنتمكّن من تحرير أنفسنا وفتح المجال أمام تخيّل أشكال جديدة للتربية قادرة على ملامسة الحاجات الحقيقية للناس.
المعرفة التي لا تولد نقدًا ليست سوى شكل آخر من أشكال الهيمنة والخضوع
التربية التحررية بهذا المعنى تتوافق مع دعوة ادوارد سعيد[9] إلى "القلق الفكري"؛ أي رفض الادعاء الفكري التقليدي. إنها دعوة إلى خلق تعليم حقيقي يولد لدى الطلبة القدرة على الشك، والتساؤل، متمردًا على كل ما يحاول استلاب العقول. فالمعرفة التي لا تولد نقدًا ليست سوى شكل آخر من أشكال الهيمنة والخضوع. إنها إعادة صياغة لِفكرة حسين البرغوثي[10] في تحويل كل جواب إلى سؤال، وكل سؤال إلى جواب... إنها دعوة إلى أن نصبح متعلمين ومعلمين في آنٍ واحد، مستلهمين صوت الحاضر الغائب محمود درويش[11]: " شُذّ، شُذّ بكل قواك عن القاعدة".
ولأنها فلسطين الولادة، لم تخلُ دربها من نماذج مضيئة للأشخاص الذين رفضوا أن يكونوا صدى لغيرهم، فغدو محركًا حيًا وقدوة يحتذى بها للتربية الفلسطينية المقاومة... نناقش بعض من هذه النماذج في القسم التالي.
نماذج مضيئة: حين يرفض الفلسطيني أن يكون صدىً لغيره
ومع كل ما سبق، لم تخلُ فلسطين من النماذج المشرّفة التي أثبتت أن التربية يمكن أن تكون فعل تمرد لا إعادة صدى لغيرها. فوسط محاولات التدجين والقمع وإعادة إنتاج الخضوع، برزت شخصيات وتجارب تعليمية كسرت القاعدة ورفضت أن تُساق في مسار الطاعة العمياء. هؤلاء كانوا عيونًا لم تكتفِ بأن تكون مرايا أو غبارًا، بل نافذةً على احتمالات أخرى للتعليم؛ تعليم يُصغي إلى نبض الأرض وإلى حاجات الناس، لا إلى معايير السلطة. في هذا القسم، نحاول تقديم بعضٍ من هذه النماذج التي تؤكد أن التربية الفلسطينية لم تُختزل يومًا في "التوجيهي" أو في قوالب الامتحانات، بل كانت وما زالت قادرة على أن تولّد إمكانات بديلة، تُعيد للذات حريتها وللمعرفة وظيفتها التحررية.
النموذج الأول: المتحف كفضاء للتحرر- من إرث توفيق كنعان إلى تربية فلسطينية مقاومة
يشكّل المتحف الفلسطيني اليوم أكثر من مجرد فضاء لحفظ الذاكرة المادية؛ إنه مساحة مقاومة معرفية وسياسية تسعى إلى تفكيك التصنيفات الاستعمارية وإعادة الاعتبار للسرديات الأصلانية. ويبرز في هذا السياق متحف جامعة بيرزيت، حيث تُعرض مقتنيات الطبيب الفلسطيني توفيق كنعان، باعتباره نموذجًا ملهمًا لفهم علاقة الذاكرة بالتربية من أجل التحرر.
لقد قدّمت د. رنا بركات[12] مقاربة نقدية لفكرة "التصنيف" بوصفها أداة عنف معرفي. إذ لا يقتصر الاستعمار على السيطرة على الأرض والجغرافيا، بل يتسرب إلى البنى المعرفية، فيعيد إنتاج الماضي وفق تصنيفات تقيد الخيال وتحدّ من إمكانيات التحرر. من هنا تطرح بركات مفهوم "تفكيك المتحف" أو (Unsettling the Museum) باعتباره فعلًا تحرريًا يعيد النظر في حيادية المؤسسات المتحفية، ويفتح المجال أمام المتحف ليكون أداة للوعي النقدي. هذا الطرح يتقاطع مع أبحاث تؤكد أن المتحف يمثل موقعًا لتحرير الفلسطينيين عبر الذاكرة، كما تجسّد في "متحف الذكريات" بمخيم شاتيلا[13]، حيث تحولت المقتنيات الفلسطينية إلى رموز مقاومة ضد التهجير والمحو وتجسيد لتعقيدات النفي.
تجربة توفيق كنعان تمثل بُعدًا آخر لهذا التصور؛ فهو طبيب حداثي درس الطب الغربي، لكنه انغمس أيضًا في الطب الشعبي الفلسطيني، وجمع آلاف التعاويذ والتمائم والوصفات. ما يميز عمله أنه لم يتعامل مع هذه المقتنيات بوصفها "خرافة"، بل كمعرفة متجذرة في الحياة اليومية للفلسطينيين. لقد رفض كنعان الخضوع للثنائيات الاستعمارية بين "العلمي" و"الشعبي"، أو بين "العقلاني" و"الخيالي"، ليؤسس بذلك لمقاربة معرفية مقاومة، تنظر إلى الثقافة الشعبية بوصفها علمًا وخبرة. إن هذا الخروج عن القوالب ينسجم مع الخطاب الأوسع للمقاومة الفلسطينية، الذي يقوم على استصلاح المعرفة الأصلية ومواجهة الاستعمار المعرفي.[14]
إن قراءة أعمال كنعان في سياق متحف بيرزيت تكشف أن التربية من أجل التحرر لا تنفصل عن الذاكرة الجمعية. النكبة، على سبيل المثال، ليست حدثًا مضى وانتهى، بل تجربة وجودية مستمرة تعيد تشكيل الحاضر والمناهج وطرائق التفكير. وحين يظهر الانفصال عن هذا التاريخ في قاعات الدراسة، يصبح دور المتحف أن يعيد وصل الأجيال بجذورها، لا من خلال الحنين وحده، بل عبر ممارسة نقدية تعيد مساءلة الخطاب الرسمي. لذلك، فإن تطوير سياسة المتاحف الوطنية الفلسطينية يمثّل مسعى تصاعديًا لمواجهة الروايات السائدة والعنف الهيكلي، كما وتكريس تمثيل أكثر عدلًا للتاريخ الفلسطيني.[15]
المقتنيات ليست مجرد معروضات صامتة، بل أدوات تفكير قادرة على مساءلة التصنيفات وتفكيك السلطة الكامنة في الأرشيف الرسمي
إعادة تعريف وظيفة المتحف تسمح برؤيته كفضاء للتعلم والمقاومة في آنٍ واحد. فالمقتنيات ليست مجرد معروضات صامتة، بل أدوات تفكير قادرة على مساءلة التصنيفات وتفكيك السلطة الكامنة في الأرشيف الرسمي. إن التمائم والتطريز والحكايات الشعبية ليست تفاصيل فولكلورية، بل نصوص مقاومة تروي حكاية الاستمرارية وتعيد تثبيت الوجود الفلسطيني في وجه المحو. وهنا تتجلى التربية من أجل التحرر في أبهى صورها: ليست تلقينًا لمعارف جامدة، بل إحياءً للذاكرة، وإعادة صياغة للهوية، وتفكيكًا لسلطة المعرفة الاستعمارية.
وعليه، فإن المتحف الفلسطيني – في ضوء إرث كنعان ومقاربة بركات – يتحول من مؤسسة محايدة إلى ساحة جدل ونقد، ومن مخزن للأشياء إلى فضاء حيّ لإعادة بناء المعنى. فهو يفتح الأسئلة بدل أن يغلقها، ويعلّم أن المعرفة ليست غاية في ذاتها، بل وسيلة للشفاء الجمعي ولمقاومة الاستعمار. بهذا المعنى، يصبح المتحف فعلًا تربويًا تحرريًا يعزز الوعي النقدي، ويعيد للذاكرة الفلسطينية حضورها في الحاضر والمستقبل، لا كأرشيف ساكن بل كأفق مفتوح للتحرر.
يتبع في الجزء الثاني...
[1] عبد الرحيم الشيخ. "زكريا محمد: المنذر العريان". الملتقى الفلسطيني (12-8-2023): https://2u.pw/mHuiyP
[2] جميع الاقتباسات مأخوذة من صفحة عاطف سكر عبر منصة فيسبوك.
[3] فوكو. "المراقبة والمعاقبة_ولادة السجن". (ترجمة. علي مقلد). دار صفحة سبعة للنشر والتوزيع. (لطبعة الأولى، 2022).
[4] أنس غنايم. "تدجين الإنسان... كيف نظر ميشيل فوكو إلى الامتحانات". موقع الجزيرة الإخباري (16-5-2022): https://2u.pw/DVtwK.
[5] أحمد مطر. حوار على باب المنفى: https://2u.pw/mMrD7s
[6] Khalil Mahshi & Kim Bush .The Palestinian Uprising and Education for the Future. Harvard Educational Review, 59(4), 470–484.. (1989): https://2u.pw/WAtYLO
[7] منير فاشة. "التحدي الجوهري: إنهاء احتلال العقول، الوسيلة الرئيسية: خلق أجواء تعلمية". مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي. (1995). صفحة 3
[8] فاشه (1995)، مصدر سبق ذكره. صفحة 13
[9] ادوارد سعيد. "التعليم في مواجهة الهوس الحضاري". نشرت مترجمة في جريدة الأيام، 3 (983). (1999)، صفحة 15
[10] حسين البرغوثي. "الرشاقة الذهنية". مجلة ابداع. (1998).
[11] محمود درويش. "إلى شاعر شاب". من ديوان: "لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي". (2005).
[12] د. رنا بركات، محاضرة في متحف جامعة بيرزيت خلال مساق التربية من أجل التحرر– السبت 30-8-2025
[13] Eleri Connick. “In and out of Place: Resistance in the Musealisation of Palestinian Exile”. AHM Conference 2023: 'Diasporic Heritage and Identity', Jun 2023, Volume 2, p.173 – 180: https://doi.org/10.5117/978904856222/ahm.2023.019
[14] Dei, G. S., & Jaimungal, C. (2018). Indigeneity and decolonial resistance: An introduction. Indigeneity and decolonial resistance: Alternatives to colonial thinking and practice, 1-14.
[15] Beverley Butter. “Keys of the Past: Keys to the Future - A Critical Analysis of the Construction of the Palestinian National Museum Policy as an Alternative Deconstruction of Routinised International Heritage Discourse”. Present Pasts, 2(1). (2010): https://doi.org/10.5334/PP.28