تدوين- براء الكعب وسالي شطارة
نواصل في هذا الجزء الثاني تفكرا بعنوان: "لننقذ تعليمنا... لننقذ غزة... لننقذ فلسطين"، من إعداد الطالبتين براء الكعبي وسالي شطارة، من برنامج التطوير التربوي في جامعة بيرزيت.
يمتد هذا النص كمواصلة للجزء الأول الذي نُشر سابقا، ويكمل فيه الكاتبتان استكشاف التربية التحررية في السياق الفلسطيني، من خلال تجربة التعليم تحت الحصار في غزة، مستندتين إلى مقاربات نقدية وتأملية تعيد التفكير في معنى التعلم، المقاومة، والأمل.
فيما يلي الجزء الثاني من التفكر:
النموذج الثاني: الموسيقا والأكاديميا- نحو تربية من أجل التحرر في فلسطين
في زمنٍ يثقل فيه الاحتلال اليومي الوعي الفلسطيني ويعيد تشكيل تفاصيل الحياة تحت منظومة قهر ممنهجة، تظلّ الحاجة إلى مساحات بديلة للتفكير والحرية قائمة وملحّة. ولعلّ الموسيقا، بما هي فنّ عابر للقوالب، تشكّل أحد أهم هذه المساحات. فهي ليست زينة جمالية أو ترفًا ثقافيًا، بل فعل مقاومة يُربك اليقين، ويوقظ الأسئلة، ويعيد تشكيل الوعي الجمعي. وحين تتقاطع الموسيقا مع الأكاديميا، يصبح هذا التداخل نموذجًا ملهمًا للتربية من أجل التحرر، يفتح أبوابًا جديدة للفكر النقدي داخل فلسطين وخارجها.
الموسيقا، كما يعلّمنا زياد الرحباني، قادرة على أن تتحوّل إلى صف مفتوح، درسٍ غير مقنن، لا يتطلّب كتابًا مدرسيًا ولا جرسًا يُعلن بداية الحصة. في لحنه ومسرحه نكتشف معنى التربية النقدية التي وصفها باولو فريري[1]: تربية لا تقوم على الحفظ والتلقين، بل على مساءلة البديهيات وكشف تناقضات الواقع. زياد حوّل الفشل نفسه إلى أداة تربوية، كما في مسرحية شي فاشل، حيث لم يقدّم خاتمة أو حلولًا جاهزة، بل ترك الناس أمام مسؤولية التفكير والتغيير. هذه التربية بالأسئلة لا تقلّ أهمية عن أي منهاج أكاديمي، بل ربما تفوقه أثرًا لأنها تعيد للناس حقّهم في الحلم وفي الفعل.
ولا يقتصر أثر الموسيقا على تجربة زياد الرحباني، بل يمتد إلى السياق الفلسطيني المعاصر حيث تعمل الموسيقا كأداة قوية للتعليم والتحرير، وشكل من أشكال المقاومة غير العنيفة ضد الاضطهاد الاستعماري. يوضح كارفاجال مارتينيز[2] أن الموسيقا الحضرية الفلسطينية تعكس الصراعات الاجتماعية المتنوعة، لا سيما بين الفنانين من خلفيات مختلفة، بما في ذلك مناطق الشتات وكافة الأراضي المحتلة. وبالمثل، إن موسيقى الهيب هوب[3] حين تدخل الأوساط الأكاديمية، تعزز الوعي والنشاط بين الطلبة، وتربط نضالاتهم بموضوعات أوسع للقمع. هذا البعد التعليمي للنغمة والإيقاع يؤكد أن الموسيقا ليست محايدة، بل أداة سياسية وتربوية في آنٍ واحد.
تكشف التجربة الفلسطينية أن الفن حين يُؤطّر رسميًا يفقد روحه النقدية.
على الجانب الآخر، تكشف التجربة الفلسطينية أن الفن حين يُؤطّر رسميًا يفقد روحه النقدية. فالأغنية الثورية التي كانت تُربّي جيلًا كاملًا على معنى المقاومة، مثل أغنيات فرقة العاشقين أو مارسيل خليفة، تحوّلت بعد أوسلو إلى بروباغندا تُزيّن خطاب السلطة. هنا يصبح السؤال التربوي حاسمًا: هل نريد فنًا مدرسيًا مُدرجًا في الكتب، أم فنًا مشاغبًا يتسرّب من خارج المؤسسة ليزرع بذور التحرر في الوعي الجمعي؟ التجربة تُشير إلى أنّ الفن الذي يبقى خارج قوالب السلطة هو الأقدر على الحفاظ على حيويته ودوره النقدي.
الأكاديميا بدورها يمكن أن تكون شريكًا في هذه العملية التحررية، شرط أن تتحرر هي نفسها من أسر البيروقراطية والنخبويّة. ففي قراءته لتجربة زياد، قدّم أشرف دباح[4] منظورًا سيكولوجيًا وتربويًا جعل من الموسيقا أداة للتفكير المجتمعي. وعلى المستوى الفلسطيني، يكشف فريسون-كامبل[5] عن الدور المحوري لمعهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى في تشكيل الهوية والمجتمع، موضحًا التفاعل المعقّد بين التعبير الثقافي والواقع الجيوسياسي. هذه التجارب توضح كيف يمكن للأكاديميا أن تفتح أبواب النقد حين تتقاطع مع الفن، لتتحول من مؤسسة معزولة إلى فضاء للحوار المجتمعي.
بل إن هذا التقاطع يطرح سؤالًا سياسيًا وأخلاقيًا حول موقع الأكاديميا نفسها. إنها دعوة إلى المؤسسات التعليمية إلى مواجهة تواطؤها في أنظمة القمع، وحث المعلمين والمعلمات على دعم التحرير الفلسطيني بنشاط[6]. هذا النداء يذكّرنا بأن التربية ليست بريئة، وأن الأكاديميا، إذا ما تجاهلت دورها النقدي، تتحول إلى شريك في الاحتلال بدل أن تكون فضاءً للتحرر.
الموسيقا تعلّمنا أن الحرية ليست مجرّد شعار، بل ممارسة يومية. في كل مقطع من مقاطع زياد، أو في أغنية تنتقل من فيروز إلى لطفي بوشناق، نلمس كيف يتحوّل الصوت إلى سؤال: هل الانتماء قناع أم جوهر؟ هل العودة وعد مؤجّل أم جرس إنذار للحاضر؟ هذه الأسئلة، بما تحمله من توتر، هي جوهر التربية التحررية. فهي لا تعطي إجابات نهائية، بل تدرّبنا على إبقاء التساؤل حيًّا، وعلى مواجهة سلطات القهر بالضحك، وبالسخرية، وبالمعنى.
حين نضع الموسيقا والأكاديميا في حوار حيّ، نكتشف أنّهما قادران معًا على فتح مسارات جديدة. فالموسيقا تعلّم ما لا يُدرّس، والأكاديميا توثّق دون أن تخنق
ليست القضية في النهاية مجرد إضافة مادة "الموسيقا" إلى المناهج، بل في إعادة التفكير بدور التربية نفسها: هل نريدها أداة للانضباط أم أفقًا للحرية؟ حين نضع الموسيقا والأكاديميا في حوار حيّ، نكتشف أنّهما قادران معًا على فتح مسارات جديدة. فالموسيقا تعلّم ما لا يُدرّس، والأكاديميا توثّق دون أن تخنق، والاثنان معًا يشكّلان حقلًا خصبًا لتربية تحررية فلسطينية، لا تقف عند حدود الصفوف بل تتجاوزها إلى الشارع والمسرح والمقهى وأمسيات النقاش الحر.
إنها تربية لا تعد بالعودة فحسب، بل تدعو إلى مواجهة الحاضر، إلى الحلم وسط الخراب، وإلى تحويل النغمة إلى بذرة مقاومة. فكما قال درويش[7]: "حبّة قمح تموت، ستملأ الوادي سنابل." وزياد، وكل فن نقدي حرّ، هو هذه السنبلة التي لا تموت، بل تعود في كل موسم لتذكّرنا بأن التحرر يبدأ من الوعي، وإن أجمل مقاومة قد تكون أغنية ساخرة أو لحنًا يرفض الانصياع.
النموذج الثالث: بيرزيت- حين تتحول الجامعة إلى فعل مقاومة معرفية
لم تكن مبادرة نبيهة ناصر ورتيبة شقير في تأسيس مدرسة بيرزيت للبنات في العام 1924[8]، مجرّد مشروع تعليمي محدود في بلدة صغيرة، بل كانت بذرة وعي تحرري نما شيئًا فشيئًا؛ من مدرسة إلى كلية، ثم إلى جامعة بيرزيت عام 1975، جامعة ارتبط بها مجتمعها حتى الفناء، وتمرد مجتمعها حتى النفس الأخير ليبقوا أوفياء لفكرتها: أن تكون بيرزيت بذرة الحرية في وطن مسلوب.
من بين النماذج التي نسجت من قلب العتمة خيطًا من نور، يبرز د. عبد الرحيم الشيخ: شاعر وكاتب وأستاذ اختار طريقًا مغايرًا، يؤمن أن الطريق لا يُختصر في لحظة، وأن المقاومة لا تحتاج دائمًا إلى السلاح، بل إلى المعرفة والصوت والقدرة على التأمل. رفض أن تتحول جامعة بيرزيت إلى صدى لا يشبهها، فجعل من الحواجز طريقًا، ومن الغياب حضورًا، ومن الصمت لغةً. لم تكن عبارته:" الطريق تصنعها الخطى[9]" مجرد استعارة، بل موقف معرفي وأخلاقي؛ فَمشروعه في مفهمة فلسطين الحديثة ليس تنظيرًا معزولًا، بل فعل سيادة معرفية يؤكد أن تسمية الذات شرطٌ للتحرر من هيمنة الآخر. مشروعٌ أراد له أن يخرج من "بطن الوحش"[10]، متجاوزًا صلابة المؤسسة ومنظومتها.
إن مشروع مفهمة فلسطين الحديثة الذي أسسه الشيخ ويحرر من خلاله كتابات مجموعة من طلبة برنامج الدكتوراه في العلوم الاجتماعية بالتعاون مع مؤسسة الدراسات الفلسطينية لا يقدّم تنظيرًا مجرّدًا، بل يمارس فعل سيادة معرفية: أن تُسمّي نفسك بدل أن تُسمّى من قِبل الآخر. فلسطين هنا ليست استثناءً تاريخيًا، بل عدسة تكشف بنى الهيمنة والعنف الكونية. إنها " كالـماء الذي لا يتعثر بالصخور"[11]: الألين والأكثر شفافية، لكنه يفتت الصخر بصبره. كما تفعل الخطى حين تراكم الأثر حتى يتحول إلى مسار.
إلى جانبه، تواصل قسم الحاج[12]_ طالبته واستاذه في جامعة بيرزيت_ تفكيك المؤسسة الأكاديمية من الداخل. فهي تذكّرنا أن الجامعة ليست فضاءً بريئًا، بل ميدان صراع يعيد إنتاج البُنى الاستعمارية عبر معرفةٍ مشحونة مسبقًا؛ إنها "سجن ناعم" بأبواب مفتوحة يختار الطلبة دخولها طوعًا ثم يخرجون _أحيانًا_ وقد صقلتهم مقاييس التكيّف والتطبيع.
تصرخ الحاج بضمير يقظ: كيف نقرع جدار البيت ونحن ما زلنا نسكنه؟ كيف نعيد للجامعة دورها كفضاء حر للنقاش والاختلاف بدل أن تكون مصنعًا للتطبيع والامتثال؟ هذه الصرخة ليست رفضًا بائسًا، بل بحثًا عن تحويل المنهج الجامعي إلى نصّ يُقرأ من موقع الأسير واللاجئ والمنفي، نصّ يفتح على الحياة والمقاومة بدل أن يُغلق على الشهادات والامتحانات والتقييمات. إنها أن تكون وفيًا لفلسطين كما كان حنظلة وفيًا للشهيد ابن قرية الشجرة الفلسطينية ناجي العلي[13]: " حنظلة وفّـى لفلسطين، وهو لن يسمح لي أن أكون غير ذلك، إنه نقطة عرق من جبيني تلسعني إذا جال بخاطري أن أجبن أو أتراجع". وبيرزيت كَ حنظلة في قلوب من ينتمون إليها، تلسعهم كلما تراجعوا أو ساروا و"القطيع".
في هذا السياق، تستعيد بيرزيت نبوءة شهيدها الأول كمال ناصر، ابن غزة هاشم، التي " تبشر بالحرية والانتصار رغم تأخر ميعاد الفرح، ذلك أن "أغنية النهاية" الوحيدة التي نحفظها عن ظهر قلب هي: "لن نستريح والشعب دامٍ جريح" و"إن النهاية للشعوب، وإن تأخرت الشعوب... فيها ستنتصر الشعوب[14]". ولأجل تحقيق هذه النبوءة لا بد من الحفاظ على روح بيرزيت: " روح بيرزيت، التي لا حياة للجامعة من دونها، وهي الضامنة الوحيدة لاستمرارية الجامعة في أداء دورها، والحفاظ على مكانتها. ولكن هذه الروح، التي تحرس الجامعة وتحرسها الجامعة، تستند إلى سارية. وما سارية الروح إلا ذاتّنا الجماعية، بأركانها الطلابية والنقابية والإدارية[15]".
ولأن فعل التحرر لا يتوقف عند أسوار الجامعة، امتد عمل الشيخ ورفاقه إلى تأسيس مجلة الجنوب: المجلة الفلسطينية للدراسات التحررية، التي تنطلق بروح تطوعية لتكون بوصلة فكرية تحرس وعي الجنوبيين من الانكسار؛ " تنطلق الجنوب ناذرة نفسها لجعل وعي مجتمعات المعاناة والمقاومة في فلسطين- موطن الفداء القديم والخلاص المقيم- والجوار العربي والجنوب العالمي... بوصلة تحرس وعي الجنوبيين من خلخلة الجهات مهما تنوّعت ألوان قاطنيها"[16].
إن النماذج الفلسطينية المضيئة، من تجربة توفيق كنعان في المتحف إلى مبادرات زياد الرحباني الموسيقية، مرورًا بروح بيرزيت التعليمية، تؤكد أن التربية في فلسطين ليست مجرد تكرار للقوالب أو امتثال للسلطات، بل فعل مقاومة مستمر. المتحف والفن والأكاديميا تتحوّل هنا إلى فضاءات للتحرر المعرفي، تعيد قراءة التاريخ، وتفتح أسئلة بدلاً من تقديم إجابات جاهزة، وتمنح الطلبة القدرة على التفكير النقدي وصنع مساراتهم الخاصة. إن هذه التجارب تثبت أن الفلسطيني قادر على رفض أن يكون صدى لغيره، وأن المعرفة، حين تُمارس بحرية، تصبح أداة للذاكرة، والهوية، والمقاومة، ولخلق مستقبل يليق بتاريخ الأرض وشعبها. إن هذه الممارسات إن صح أن نطلق عليها "بذور التحرر التربوي" ما هي إلا انحيازًا للضحايا تلبية لوصية الراحل حسين البرغوثي: " وفلسطين الطيبة الحرة وطني الذي ليس لي سواه؛ وباسم هذا الأفق قلت وسأقول للظلم ظلماً في عينه، وباسمه اخترت الانحياز للضحايا بدون أن أحول "الضحية" إلى نموذج أسمى. وبمقدار ما نحن ضحايا أنحاز لنا، وبمقدار ما نحول كوننا ضحايا وأبطالاً إلى مثال أسمى أنحاز ضدنا، فمسكين الوطن الذي يفتقر لأبطال، ومسكين الوطن الذي يحتاج لأبطال[17]".
التربية في فلسطين ليست مجرد تكرار للقوالب أو امتثال للسلطات، بل فعل مقاومة مستمر
وهنا يتجلى السؤال: كيف تشربنا هذه الروح الداعية إلى تربية تحررية! كيف إنحزنا للضحايا_ لطلبة غزة_! هل كان لنا أن نتشربها دون فكر الدكتور جهاد الشويخ! دون مساق مختلف قدمته جامعة بيرزيت في الدورة الصيفية الثانية للعام الدراسي 2024-2025: "التربية من أجل التحرر في فلسطين.
نفخة وعي جديدة: كيف أعاد لنا الدكتور جهاد الشويخ معنى التعلّم والتحرر
يضعنا الدكتور جهاد الشويخ، في مقالته "التعلم كنهج للتحرر: نحو انتفاضة معرفية[18]"، أمام أطروحة جريئة تفتح آفاقاً جديدة لفهم معنى التعلم في السياق الفلسطيني وحتى العربي. فبدلاً من حصره في حدود "اكتساب المعرفة" كما يظهر في الخطاب التربوي السائد، يقترح الشويخ إعادة تعريفه باعتباره عملية توليف معانٍ فردية واجتماعية، تُبنى عبر التفاعل، النقد، والتساؤل، لا عبر الامتصاص السلبي للمعلومات.
منذ البداية، يُعرّي ابن مخيم الشاطىء حلقة اللوم المستمرة بين المدارس والجامعات حول ضعف مخرجات الطلبة. فالمعلمون يلومون النظام، والجامعات تشتكي من الطلبة "الضعفاء"، فيما تبقى المنظومة أسيرة خطاب تقليدي رسّخه الاستعمار وأعاد إنتاجه النظام السياسي والاجتماعي المحلي. وبحس نقدي، يشير الشويخ إلى أن هذا الخطاب التربوي ليس بريئًا، بل هو إرث استعماري صاغ نظرتنا للتعليم والتعلم والتقييم، وكرّس التبعية المعرفية للغرب، حتى صار التوجيهي والامتحانات أداة ضبط اجتماعي أكثر منه وسيلة تعليم.
تتشابك التجربة التاريخية في السياق الفلسطيني بعمق مع تشكيل الهوية والموروثات الاستعمارية والذاكرة الجماعية، والتي أثرت بشكل كبير على المشهد الاجتماعي والسياسي. يتجذر الصراع الإسرائيلي الفلسطيني في الروايات التاريخية التي شكلتها الإدارات الاستعمارية، من الإمبراطورية العثمانية إلى الانتداب البريطاني، ثم الاحتلال الإسرائيلي لاحقًا، والتي أثرت جميعها على التعليم الفلسطيني والحياة المدنية[19]. وإذ يتقاطع هذا الإرث التاريخي مع واقعنا التربوي، يقترح الشويخ صياغة بديلة لدور المعلم والتعلم والتعليم، لا باعتبارهما أدوات لإعادة إنتاج الخطاب الاستعماري، بل كفضاءات لبناء المعنى والذات.
يرى الشويخ أن التعلّم، في جوهره، فعل تحرري لأنه يمنح الإنسان فرصة بناء معناه الخاص. وهو هنا يستلهم من إرث عربي وإسلامي عميق، من الجاحظ والجرجاني إلى الإمام علي، ليعيد وصل الحاضر بجذورنا الفكرية، وليطرح سؤالًا مركزيًا: كيف يمكن للتعليم أن يصبح أداة لفهم الذات والحفاظ عليها بين الحرية والزهد؟ بذلك يضع مشروعه في قلب معركة الهوية الفلسطينية، حيث التحرر المعرفي شرط للتحرر الوطني.
ولكي تكتمل رؤيته، ينتقل الشويخ إلى إعادة تعريف التعليم نفسه. فالتعليم ليس تلقينًا، بل "تصميم لبيئات تعلم" تحتضن الاختلاف وتشجع الاجتهاد والتأمل. المعلم، في هذا التصور، ليس ناقلًا للمعرفة بل شريكًا في بنائها، يصوغ مع طلبته خبرات حيّة تتجاوز الكتب الميتة. هنا يبرز البعد الإنساني العميق لفكر الدكتور الشويخ، إذ يرى أن المعلم قبل أن يعلّم غيره، عليه أن يعلّم نفسه ويؤدّبها بسيرته قبل لسانه. وفي هذا السياق، تؤكد العديد من الدراسات[20] حول ديناميكيات التعلم الجامعي طرح الشويخ: فالثقافة التعليمية ليست ثابتة، بل هي تفاعل بين خطابات متعددة، الأمر الذي يتطلب مساحات للتجريب التربوي والتحول الفكري، لا الاكتفاء بنسخ قوالب جاهزة.
أما التقييم، فيقلبه الشويخ رأسًا على عقب. فبدلًا من أن يكون أداة قمع وتصنيف، يقترحه كمساحة وصفية ونقدية تُعنى بمحاولات المتعلم لبناء معناه الخاص، مع فتح المجال للتقييم الذاتي. وهو بذلك يفتح نقاشًا حساسًا في فلسطين حيث يهيمن التوجيهي والأرقام على مصائر الطلبة ومستقبلهم. يقترح الشويخ بجرأة ثقافة بديلة تثمّن الجهد والتفكير، بدلًا من تحويل الطلبة إلى أرقام في جداول.
القيمة الكبرى لمقالة الشويخ أنها تدعو إلى "انتفاضة معرفية" شبيهة بانتفاضة 1987، ولكن في حقل التعليم. فكما فجّرت الانتفاضة الأولى طاقات شعبية وسياسية غير مسبوقة، يطمح الشويخ إلى انتفاضة تربوية تزعزع ركائز النظام القائم، وتفتح أفقًا لثقافة جديدة أكثر تحررًا. في زمن الإبادة المستمرة في غزة، لا تأتي هذه الدعوى كَ ترفًا فكريًا بل واجبًا وطنيًا، لأن أي نهضة لا يمكن أن تقوم على منظومة تعليمية أسيرة لإرث استعماري.
لا يمكن للقارئ أن يغفل البعد الشخصي والوطني في نص الدكتور الشويخ_ كيف لا وهو ابن المدينة التي تُباد_ يكتب "إلى غزة وأهلها، مع طلب المغفرة"، فيمزج بين الهم الفكري والوجع الوطني، بين التنظير الأكاديمي والإحساس العميق بالمسؤولية الأخلاقية. هنا تتجلى فرادته كمفكر تربوي فلسطيني: يزاوج بين العمق النظري والالتزام العملي، بين الفلسفة والتجربة الحية.
ورغم أن مقالته غير منشورة بعد، فإنها تمثل محاولة جادة لطرح بديل نقدي في التفكير التربوي الفلسطيني، ودعوة إلى تحويل الأفكار إلى ممارسات تعليمية يومية. فالقيمة الحقيقية تكمن في استثمار هذا الوعي الجديد لبناء خطاب تربوي تحرري ينبض بالحياة.
خلال المساق[21]، كان حضور الشويخ محفزًا على التساؤل وإعادة التفكير، وأسهم في توجيه الحوار نحو رؤية أكثر نقدية وإنسانية للتعليم. تجاوز تأثير أفكاره حدود النصوص المقروءة ليشمل طريقة تفاعلنا داخل الصفوف، وكيفية رؤيتنا لها كفضاءات تعلم حيّة ومفتوحة على التغيير. ومن هنا علينا، كقراء وتربويين وأكاديميين، أن نلتقط هذا النفس الجديد الذي نفخه فينا، وأن نحوله إلى ممارسة يومية، لئلا يظل كلامه حبرًا على ورق. فالتاريخ لن يرحمنا إذا واصلنا إعادة إنتاج خطاب ميت، بينما بين أيدينا بذور خطاب تحرري نابض بالحياة.
هذه الرؤية تكمل الصور السابقة: من تجربة الطلبة تحت النار، إلى التعليم الشعبي، والموسيقا، والمتحف، والجامعة، وصولاً إلى فلسفة الشويخ، نجد خيطًا متصلًا يربط كل هذه المساحات كأدوات للتربية التحررية الفلسطينية... نجد بذورًا تمهد لنا الدرب والطريق ومسؤوليتنا أن نختار موقعنا، دورنا، وبوصلتنا...
لنرحم التوجيهي: ننهي من حيث بدأنا... لأجل غزة وطلبتها
ومع نهاية هذه الرحلة الفكرية، نعود حيث بدأنا: إلى التوجيهي، إلى صلب تجربة الطلبة في غزة. هناك، بين دفاتر الامتحانات وقلق الأهل، يختبئ الحاضر ومستقبل الأجيال. على كل مسؤول، أكاديمي، معلم، أن يعي أن الرحمة بالتعليم ليست رفاهية، بل ضرورة. لنحرر الطلبة من ضغط الامتحان، لنفتح لهم مجالًا للعيش والتفكير والإبداع. خلق بديل للتعليم التقليدي لم يعد خيارًا، بل أصبح أمرًا اضطراريًا، استجابة لواقع غزة وصمودها، ولحق كل طفل وشاب في التعلم بكرامة. لنسمع دعوة شاعرنا الحاضر الغائب ولنتوقف عن أسطرة طلبة القطاع، فهم لحمٌ ودم، لقد حذرنا ابن قرية البروة[22]: " ونظلم غزة حين نحولها إلى أسطورة لأننا سنكرهها حين نكتشف أنها ليست أكثر من مدينة فقيرة صغيرة تقاوم، وحين نتساءل: ما الذي جعلها أسطورة؟ سنحطم كل مرايانا ونبكي لو كانت فينا كرامة أو نلعنها لو رفضنا أن نثور على أنفسنا ... ونظلم غزة لو مجدناها لأن الافتتان بها سيأخذنا إلى حد الانتظار، وغزة لا تجيء إلينا، غزة لا تحررنا، ليست لغزة خيول ولا طائرات ولا عصي سحرية ولا مكاتب في العواصم، إن غزة تحرر نفسها من صفاتنا ولغتنا ومن غزاتها في وقت واحد وحين نلتقي بها ذات حلم ربما لن تعرفنا، لأن غزة من مواليد النار ونحن من مواليد الانتظار والبكاء على الديار..."
للاطلاع على الجزء الأول عبر الرابط التالي بالضغط هنا
[1] Paulo Freire. Pedagogy of the oppressed. New York: Continuum (1970).
[2] Jose Carvajal Martínez. La música popular urbana palestina como forma de resistencia anticolonial en la actualidad (1998-2020). Historia Actual Online, 56, 7–20. (2021): https://doi.org/10.36132/HAO.VI56.2021
[3] Marcy Jane Knopf-Newman. Hip-Hop Education and Palestine Solidarity (pp. 149–192). Palgrave Macmillan, New York. (2011): https://doi.org/10.1057/9781137002204_5
[4] أشرف دباح. محاضرة عبر تطبيق الزوم خلال مساق التربية من أجل التحرر_ جامعة بيرزيت _ السبت 6-9-2025.
[5] Carol Frierson-Campbell. A Sociological Travelogue of Music Education in Palestine (pp. 147–159). . (2022): https://doi.org/10.1093/oso/9780197600962.003.0011
[6] Menelike Tafari. Journal Statement on Palestine and Palestinian Liberation. Interactions: UCLA Journal of Education and Information Studies, 19(1). (2024): https://doi.org/10.5070/d41.35428
Sabrine Azraq. “What Can I Do?”: A Guide for Academics Who (Want to) Support Palestine (pp. 225–243). Palgrave Macmillan, Cham. (2019): https://doi.org/10.1007/978-3-030-00716-4_10
[7] محمود درويش. "عن إنسان": https://2u.pw/6ZDhTd
[8] موقع الجزيرة الالكتروني. "جامعة بيرزيت... مدرسة البنات التي تحولت لأهم جامعة فلسطينية" (11-6-2017) : https://2u.pw/3wImxd
[9] عبد الرحيم الشيخ. "مفهمة فلسطين الحديثة – العدد الأول". مؤسسة الدراسات الفلسطينية صفحات 1 – 14. (2021)
[10] الشيخ، مصدر سبق ذكره (2021)، صفحة 1.
[11] عبد الرحيم الشيخ. "عظة الوادي". الحدث صحيفة اقتصادية اجتماعية ثقافية (22-8-2016): https://2u.pw/O3Mci
[12] قسم الحاج. "تفكيك الخطاب الجامعي: نماذج من الأكاديميا التحررية". مجلة الجنوب، العدد 1، صفحات 60 -81 (2025) : https://shorturl.at/7taj8
[13] ناجي العلي. اقتباس من موقع الكتروني: https://2u.pw/0Y3wht
[14] عبد الرحيم الشيخ. من كلمته كرئيس اللجنة التوجيهية للمئوية (27-12-2024): https://www.birzeit.edu/.../files/upload/bd_lrhym_lshykh.pdf
[15] الشيخ، مصدر سبق ذكره (27-12-2024).
[16] عبد الرحيم الشيخ. "الجنوب: الحقيقة والأوجه الغائبة". مجلة الجنوب، العدد الأول صفحة 8 (2025): sahab.fra1.digitaloceanspaces.com/algnwb_articles/pdfs/ugfVBnDqAovLzL9vpJqZ3ipzCGXV6vxzYHc4jRxv.pdf
[17] عبد الرحيم الشيخ. "سطر حسين البرغوثي". مجلة رمان الثقافية. (19-3-2021): https://rommanmag.com/archives/20419
[18] جهاد الشويخ. "التعلم كنهج للتحرر: نحو انتفاضة معرفية". مقالة لم تنشر بعد (2025).
[19] Ismael Abu-Saad & Duane Champagne. Introduction: A Historical Context of Palestinian Arab Education. American Behavioral Scientist, 49(8), 1035–1051. (2006): https://doi.org/10.1177/0002764205284717
[20] Vesna Holubek, Pauliinia Alenius, Vesa Korhonen, & Nazmi Al-Masri. Construction of Teaching and Learning Cultures in Transnational Pedagogical Development: Discourses Among Palestinian University Instructors. International Journal for the Scholarship of Teaching and Learning, 16(2). (2022):https://doi.org/10.20429/ijsotl.2022.160209
[21] مساق التربية لأجل التحرر في فلسطين. مساق اختياري تم طرحه في الدورة الصيفية الثانية للعام الدراسي 2024-2025 في برنامج الدكتوراه في التربية التحررية – جامعة بيرزيت، وقد كان د. جهاد الشويخ مدرسًا لهذا المساق
[22] محمود درويش. "صمت من أجل غزة": https://2u.pw/7qa2nX