تدوين-ثقافات
نشرت الكاتبة والباحثة والمصورة السودانية هند طه مقالا بعنوان "العالم لا يهتم بالسودان. الأمر متروك لنا لنعيد البناء" عبر موقع openDemocracy، تتناول فيه التغييب الإعلامي والدولي لمعاناة السودانيين خلال الحرب التي اندلعت في نيسان 2023، وتروي من منظور شخصي كيف أثرت الحرب على الحياة اليومية، والتهجير، والنسيج الاجتماعي. كما تسلط الضوء على ازدواجية المعايير في تعامل النظام الدولي مع الأزمات الإنسانية، مؤكدة أن الأمل الحقيقي في إعادة البناء يكمن في صمود الشعب السوداني وإرادته.
فيما يلي نص المقال
اندلعت الحرب نحو نهاية شهر رمضان. كان معظم الناس في أنحاء السودان، بمن فيهم أنا، يستعدون للعيد. لكن بدلا من الفرح، استيقظنا في الخامس عشر من أبريل عام 2023 على حرب شاملة تدور في قلب العاصمة الخرطوم.
هذه الحرب، التي لا تزال مستمرة حتى الآن، فرضت على السودانيين النزوح والخسارة والضياع. لكننا لم نكن غرباء عن هذه المعاناة، فقد اعتدنا على حياة هشة ومضطربة حتى قبل إطلاق النار في عام 2023، بل وحتى قبل انتفاضة عام 2018. إن جذور هذا الصراع ضاربة في مشكلات متراكمة وقديمة، تتراوح بين عدم الاستقرار السياسي المزمن، والتدخلات والعدوان الخارجي، والتاريخ الطويل من الأزمات والتعقيدات الاجتماعية والسياسية.
تحمّل السودان عقوبات اقتصادية قاسية لأكثر من ثلاثة عقود، وكان المواطنون هم من دفعوا الثمن الأكبر. فقد أقصتنا تلك العقوبات عن النظام العالمي، وحرمتنا من فرص وموارد أساسية يعتبرها الآخرون من المسلمات. من بين نتائجها أنها غذت الهجرة الاقتصادية وهجرة العقول، فصار كثير من الأسر يعتمد على أقارب يعملون في الخارج منذ سنوات طويلة.
لقد ساعدت هذه الشبكات من الترابط والتكافل على بقاء الناس رغم فشل الدولة، وساعدتنا على الصمود في وجه الحرب. وهي اليوم أملنا الأكبر في إعادة بناء كل ما دمر.
النظام الدولي خذلنا
بعد عامين من اندلاع الحرب، وبعد موجات متكررة من النزوح، حاولت دون جدوى استرجاع جواز سفر والدتي. كنا على وشك استلامه من مركز تابع للسفارة البريطانية حين اندلعت الحرب. كانت السفارة قد رفضت تأشيرتها، لكننا لم نتمكن من الوصول إلى الجواز.
كان جواز والدتي واحدا من مئات الوثائق السودانية المحتجزة في السفارات الغربية آنذاك. فقد غادر الدبلوماسيون والموظفون الأجانب الخرطوم بسرعة عند اندلاع الحرب، تاركين خلفهم السودانيين ووثائقهم المقفلة في الخزائن. اضطر كثير من السودانيين، ومنهم أفراد من أسرتي، للانتظار شهورا من أجل استعادة أوراقهم الثبوتية أو تجديدها.
حتى من كانوا خارج السودان عاشوا قلقا عميقا، لا يعرفون كيف أو ما إذا كانوا سيتمكنون من تجديد جوازاتهم. ولم يُحل الأمر إلا بعد أن استعادت وزارة الداخلية لاحقا خدمات الهوية الوطنية. علمتني هذه التجربة هشاشة ما يسمى بالاهتمام الدولي. فعندما بدأت أصوات الرصاص، لم يستغرق الأمر وقتا طويلا حتى تراجع حق السودانيين في التنقل العالمي عن قائمة أولويات الدول الأخرى. واجهنا احتواء بيروقراطيا إلى جانب العنف المادي، في وقت كانت فيه حرية التنقل وسيلتنا الوحيدة للبقاء في وجه التهجير القسري.
أكبر أزمة نزوح في العالم كانت تُتجاهل، أو تختزل في عناوين سطحية وأرقام خاوية. وعندما تظهر تغطية، كانت غالبا تشوه وتنزع منها سياقاتها السياسية
لم يهتم العالم بما يجري، ولا يزال كذلك. قضيت السنة الأولى من الحرب داخل السودان، وخلالها، كلما سمح الاتصال بالإنترنت، كنت أمضي ساعات يوميا أقرأ الأخبار العالمية والإقليمية. أكبر أزمة نزوح في العالم كانت تُتجاهل، أو تختزل في عناوين سطحية وأرقام خاوية. وعندما تظهر تغطية، كانت غالبا تشوه وتنزع منها سياقاتها السياسية. ما أزعجني لم يكن الصمت فحسب، بل الرفض حتى لمحاولة فهم التحالفات المتغيرة، والتخريب الاقتصادي، والمصالح الإقليمية التي تغذي الحرب.
الانقطاع التام للاتصالات الذي فرضته قوات الدعم السريع في فبراير 2024 أوقف أكثر من مجرد اطلاعي اليومي على الأخبار. كتبت حينها في مذكراتي: “أحتاج أن أستيقظ أبكر لأن الشبكة تكون أفضل قليلا، لأتصفح الأخبار. لا أستطيع أن أفعل الكثير بهذه الجودة، لكن لا يحق لي الشكوى وأنا أعلم أن نصف البلاد يعيش في ظلام تام منذ شهر كامل. أستيقظ كل يوم والسودانيون يواجهون تحديات مالية لا تُصدق لأنهم لا يستطيعون الوصول إلى حساباتهم المصرفية أو طلب المساعدة، ويصارعون الخوف وعدم اليقين لأننا لا نعرف ما يجري في الولايات الأخرى أو حتى في مناطقنا".
في وقت يسوده الخوف والضبابية، وجد السودانيون أنفسهم محاصرين بحرمانهم من الوصول إلى التنقل، والتمويل، والمعلومات، والدعم. ولم يبدُ أن أحدا يهتم. كان الفارق بين تعامل الغرب مع الحرب في أوكرانيا وتعاطيه مع السودان صارخا. فبينما فُتحت الحدود والدعم لضحايا العدوان الروسي، واجه السودانيون سياسات غير معلنة من الاحتواء والإقصاء. ازدواجية المعايير في النظام الدولي، خصوصا فيما يتعلق بحقوق اللاجئين، لم تكن يوما أوضح مما هي عليه الآن.
واقعان متوازيان
عدت إلى الخرطوم مطلع عام 2023 بعد إنهائي دراسات عليا في الخارج، وكنت أخطط للبقاء هناك لبعض الوقت للبحث عن عمل. لكن الحرب غيرت كل شيء. تبدلت فرص العمل جذريا، واضطر ملايين السودانيين إلى البحث عن أنواع جديدة من الوظائف. رأيت كثيرين، من أصحاب المهن المستقرة قبل الحرب، يبحثون عن أعمال غير رسمية. شاهدت نساءً يبدأن مشاريع صغيرة لبيع الطعام والمشروبات والعطور وغيرها لتغطية احتياجات أسرهن. كما رأيت رجال أعمال يحاولون استئناف أنشطتهم في مدن سودانية أخرى أو في الخارج رغم المخاطر الكبيرة.
آخرون فروا إلى بلدان مثل مصر ودول الخليج، لكن الحصول على تصاريح عمل كلاجئين كان شبه مستحيل. أصبح كثير من السودانيين اليوم يعملون في أكثر من وظيفة لإعالة أسر متعددة في الداخل والخارج. وفي ظل غياب مؤسسات الدولة، أصبح النسيج الاجتماعي طوق النجاة. ساعدت المبادرات المجتمعية والمطابخ الشعبية وشبكات العائلة الممتدة في تخفيف آثار النزوح والمعاناة اليومية، خصوصا لمن فروا من ديارهم بمال قليل وحاجيات بسيطة.
العيش وسط الحرب يجعلك تتساءل: إلى أي مدى يمكن أن تصمد القدرة الشخصية في وجه العنف البيروقراطي؟ بينما يكافح الأفراد لإعادة بناء حياتهم، تواصل القوى الكبرى تقييد حركتهم وأمنهم وبقائهم. وغالبا ما يقودني هذا التساؤل إلى التفكير في حكومات مثل الإمارات، التي تعرض تأشيرات طوارئ ضمن جهودها "الإنسانية"، بينما تتهمها تقارير عديدة بتسليح قوات الدعم السريع.
الوكالة، المقاومة، والعودة
قوات الدعم السريع، التي كانت في الأصل تابعة للجيش قبل أن تتمرد عليه، نهبت المنازل والمشاريع الزراعية، ودمرت البنى التحتية والمصانع عمدا في المناطق التي سيطرت عليها. كان الدمار ماديا ونفسيا على حد سواء.
مؤخرا تمكن اثنان من أفراد أسرتي من زيارة الخرطوم بعد استعادتها من قبل الجيش، فوجدوا مشهدا مدمرا: عملية نهب ومحو منظمة جردت منزلنا من كل شيء الأثاث، الأدوات، وحتى الأسلاك الكهربائية بعد أن استخدمته قوات الدعم السريع لعامين كاملين لأغراض عسكرية.
لم تترك قوات الدعم السريع خلفها خسائر فحسب، بل جرحا لم يلتئم بعد. البعض يقول إن مثل هذه الأفعال "طبيعية" في الحرب، لكنها ليست كذلك. فالدمار كان متعمدا، وملايين السودانيين اختبروه بدرجات مختلفة.
لا تزال الخدمات الأساسية مثل المياه والكهرباء والرعاية الطبية شحيحة، ومع ذلك بدأ نبض الحياة يعود إلى المدن المحررة. يحاول الناس ترميم ما تبقى بجهودهم الخاصة، بإمكانات محدودة ودون دعم يذكر. لا مجال للرومانسية هنا. إذا تعافى السودان، فلن يكون بفضل الإرادة السياسية أو المساعدات الدولية، بل بفضل السودانيين العاديين. يعود الناس تدريجيا، لا إلى منازلهم المألوفة، بل إلى عالم تغير جذريا. بعضهم يتحمل عبء إعادة الإعمار، يدفع ثمن ما فقد بالدم، ومدخرات العمر، وكل ما يملك.
الحرب تجربة شخصية عميقة تشكل موقف الفرد السياسي. كثير ممن فرّوا يعانون شعورا عميقا بالذنب لأنهم نجوا، إلى جانب معاناة نفسية أخرى. ومع ذلك، تعد هذه معاناة “مخففة” مقارنة بالرعب الذي يعيشه الملايين.
بعد ما شهدته من الحرب، ومن التمييز الصارخ في استجابة العالم للنزاعات المختلفة، تغيرت نظرتي جذريا إلى النظام الدولي، سياسيا وإنسانيا. أصبحت مدركة تماما لعجزه عن تلبية احتياجات الناس الحقيقية، ولأنه يعمل ضمن شبكة معقدة من مصالح الدول والسرديات المتنافسة والطموحات الجيوسياسية، حيث يبدو الإنسان الفرد بلا قيمة تذكر.
فعلى سبيل المثال، لا تطبق مؤسسات ضخمة كالأمم المتحدة تفويضاتها باستمرار، حتى أو خصوصا، في مواجهة الفظائع الجارية مثل تلك في السودان أو الإبادة في فلسطين. هذه ليست مجرد غفلة أو ضعف كفاءة، بل إهمال متعمد. فالفشل في الضغط على الأطراف التي تغذي الحروب، والتقليل من معاناتنا في الإعلام العالمي، والتقصير الدائم في تمويل المساعدات الإنسانية العاجلة كل ذلك يكشف عن خلل بنيوي وحقيقة أعمق: إن هذا ليس نظاما "معطوبا"، بل نظاما "جائرا" يعمل تماما كما صمم.
وهذه الحقيقة لا يمكن تبريرها، ولا يجوز تجاهلها بعد الآن.
يجب إصلاح النظام الدولي من جذوره بطريقة تراعي الواقع المعيش للاجئين. ومن خلال الإصغاء الجاد لرواياتهم الخاصة، يمكننا وضع أساس لاستجابات قائمة على الكرامة والقدرة الذاتية والاحتياجات الحقيقية. ربما عندها فقط يمكننا أن نستعيد قدرا من الثقة في نظام دولي يخدم الناس بدل أن يهملهم أو يوصمهم.
في نهاية المطاف، ليست هذه مجرد انتقاد شخصي أو استسلام ساخر، بل محاولة لطرح الأسئلة الحقيقية التي تفكر بها وتسألها المجتمعات النازحة على الأرض. أما أصحاب السلطة، فهم من يدينون لنا بالإجابات.