السبت  01 تشرين الثاني 2025

وول سوينكا ممنوع من دخول الولايات المتحدة

2025-11-01 10:21:39 AM
وول سوينكا ممنوع من دخول الولايات المتحدة
وول سوينكا في مهرجان بارما للشعر في إيطاليا، 2010 (Getty)

تدوين- راما الحموري

"ليس لي تأشيرة، أنا ممنوع بوضوح من الولايات المتحدة"

بهذه الكلمات التي تحمل في طياتها تحدياً هادئاً وسخرية مريرة، كشف الكاتب النيجيري الكبير، وول سوينكا، الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 1986، عن قرار القنصلية الأميركية في لاغوس إلغاء تأشيرته، ليطلق بذلك شرارة سجال عالمي واسع. الحدث، الذي بدا في ظاهره مجرد إجراء إداري بيروقراطي، سرعان ما تحول إلى رمز للصدام بين قوة الفكر الحر وسلطة القرار السياسي في زمن الإدارة الأميركية المتشددة.

سوينكا (91 عاماً)، الذي يُعدّ أحد أهرامات الأدب الإنساني الحديث وأول أفريقي يتوج بنوبل، أعلن عن النبأ المثير للجدل خلال مؤتمر صحافي عقده يوم الثلاثاء الماضي في العاصمة الاقتصادية لنيجيريا. وبنبرة لا تخلو من السخرية التي طالما ميزت مواقفه تجاه الاستبداد، أكد الكاتب أنه تلقى إشعاراً رسمياً من القنصلية يطالبه بإحضار جواز سفره "لإلغاء التأشيرة فعلياً".

إلغاء تأشيرة سوينكا ليس مجرد قرار بيروقراطي، بل هو إعلان عن أن أمريكا اليوم تضيق بكتّابها ومفكريها، وأن الحدود الإدارية صارت حاجزاً أمام الفكر الحر

تحدي التأشيرة الفكرية: قامة أدبية لا تعترف بسلطة

لم يكتفِ سوينكا بتأكيد القرار، بل ذهب إلى ما هو أعمق بتحليل موقفه الشخصي والفكري منه، مؤكداً أنه "راضٍ تماماً عن هذا القرار". وأردف في تصريح مؤثر يكشف عن عقود من النضال ضد القمع: "لا أحتاج إلى إذن من أحد لأتحدث أو أسافر أو أكتب. كنت أعيش من دون تأشيرة فكرية طوال حياتي".

هذا التصريح، الذي يُختزل فيه جوهر مسيرة سوينكا المناهضة للديكتاتورية والقمع، يضع القرار الأميركي في سياق يلامس حدود حرية التعبير، لا حدود الهجرة. فبالنسبة لقامة أدبية وفكرية مثل سوينكا، تتجاوز الإقامة والسفر مجرد إجراءات شكلية لتصبح امتداداً لحرية الحركة والتعبير، وهما الحقان اللذان طالما قاتل من أجلهما. إن من سُجن لعامين في ستينيات القرن الماضي بسبب مواقفه المناهضة للحرب والديكتاتورية في نيجيريا، يرى في قرار الإلغاء الجديد مجرد فصل آخر في كتاب الصراع الأبدي بين الأديب والسلطة.

هذا الحدث يرسّخ رمزية الصدام الأبدي بين قامة أدبية لا تعترف بسلطة، وبين سياسة ترى في كل نقد تحدياً يجب قمعه بالإجراءات"

 سياسة "أميركا أولاً" تستهدف النقد الثقافي

تأتي هذه الخطوة في ظل مناخ سياسي أميركي يتسم بالتشدد غير المسبوق في ما يتعلق بمسائل الهجرة وإلغاء تأشيرات غير المهاجرين، وهي سياسة تتبناها الإدارة الحالية بزعامة الرئيس دونالد ترامب. الإدارة، التي تُرفع شعار "أميركا أولاً"، تنظر بعين الريبة إلى منتقدي سياساتها سواء كانوا مواطنين أم شخصيات دولية مؤثرة.

الخلفية غير الرسمية لإلغاء تأشيرة سوينكا تشير إلى احتمالين رئيسيين يندرجان تحت خانة "السياسات المتشددة":

انتقاداته المتكررة للرئيس ترامب: حيث لم يتردد سوينكا في السنوات الأخيرة بتوجيه سهام النقد للرئيس ترامب، معتبراً أن خطابه "يهدد القيم الإنسانية المشتركة" ويعيد "عصر الشعوبية السياسية إلى الواجهة". هذا الموقف الصريح من أبرز كتّاب العالم قد يكون كلفه الامتياز الأكاديمي المتمثل في سهولة الدخول إلى الولايات المتحدة.

دعم القضايا "المثيرة للجدل": يُشار أيضاً إلى أن الكاتب النيجيري عُرف بدعمه الصريح لقضايا إنسانية وسياسية حساسة، على رأسها الحقوق الفلسطينية، وهي قضايا كثيراً ما تثير حفيظة البيت الأبيض وتضع الداعمين لها في مرمى المراجعات الأمنية والقنصلية المتشددة.

إن الجمع بين النقد اللاذع للرئيس ترامب والدعم المعلن للقضية الفلسطينية يُشكل مزيجاً "قابلاً للاشتعال" في ظل السياسة القنصلية الحالية، مما يثير تساؤلات جدية حول ما إذا كانت التأشيرات غير المهاجرة تُستخدم أداة للضغط أو العقاب على المواقف الفكرية والسياسية.

إرث الالتزام: سوينكا والمزج بين الأسطورة والسياسة

من يتابع مسيرة وول سوينكا يدرك أن الصدام مع السلطة ليس جديداً عليه. فمنذ شبابه، كان سوينكا منخرطاً بشكل عميق في قضايا وطنه والقارة الأفريقية. سجنه الشهير في ستينيات القرن الماضي تحت حكم الجنرال ياكوبو غوون كان بسبب محاولاته للتوسط في الحرب الأهلية في نيجيريا، وهو ما وثقه في سيرته "عامي في السجن".

سوينكا، الذي يمزج في أدبه ببراعة بين الأسطورة الأفريقية والفكر الغربي، وبين الشعرية العالية والالتزام السياسي، لم يكتفِ بالنقد من منصة الأدب، بل كان ناشطاً سياسياً لا يتوانى عن رفع صوته. أعماله مثل "الأسد والجوهرة" (1963) و "أسطورة الحصان الغاضب" (1985) ليست مجرد نصوص أدبية، بل هي مرآة تعكس صراع الإنسان مع القمع والجهل.

وقد كرّس عقوداً من حياته لتدريس ونشر فكره في أرقى الجامعات الأميركية، مثل هارفارد وكورنيل، حيث كان ضيفاً دائماً ومكرماً على الحرم الجامعي الأميركي، مما يجعل قرار الإلغاء الحالي أكثر مرارة ورمزية.

الإدانة الثقافية العالمية: خسارة للحرم الجامعي الأميركي

ما إن انتشر خبر إلغاء التأشيرة، حتى تحولت الأوساط الثقافية والأكاديمية العالمية إلى منصات للتعبير عن الغضب والقلق. تلقى سوينكا دعماً واسعاً، حيث عبّر كتّاب وأكاديميون عن تخوفهم من "تسييس" القرارات القنصلية واستخدامها لتقييد حركة المثقفين ومنتقديهم.

في تعليق مؤثر، أشار أحد زملائه السابقين في جامعة كورنيل إلى البعد الأخلاقي للقرار، قائلاً: "إذا كانت الولايات المتحدة تلغي تأشيرة سوينكا، فهي تلغي تأشيرتها الأخلاقية أمام العالم".

"لقد أرسل البيت الأبيض رسالة واضحة للمجتمع الثقافي العالمي: نحن لا نرحب بالنقد، خاصة إن أتى من قامة بحجم نوبل. إنها خسارة للحرم الجامعي الأميركي قبل أن تكون خسارة لسوينكا."

هذه الإدانات تركز على فكرة أن أميركا، التي طالما تباهت بأنها معقل للحريات الفكرية ومركز لاستقطاب العقول اللامعة من شتى بقاع الأرض، تخاطر بمكانتها المعنوية حين تبدأ في إغلاق أبوابها بوجه من يختلف معها سياسياً، مهما كانت قامته الفكرية. إنها رسالة سلبية عن تقلص هامش الاختلاف في عاصمة الفكر الغربي.

الرمزية الكبرى: الحدود الفكرية تتقلص

في المحصلة، يتجاوز قرار إلغاء تأشيرة وول سوينكا كونه مجرد بند إداري ليصبح بياناً سياسياً قوياً. إنه يثير تساؤلات جوهرية حول حدود حرية الكاتب، ودور المثقف العالمي في توجيه النقد للسلطات العظمى، وحق الدولة في استخدام أدواتها البيروقراطية لترسيم حدود فكرية جديدة.

بالنسبة لسوينكا، الذي عاش حياته متحرراً من الحدود الجغرافية والفكرية، فالقرار لن يوقفه عن الكتابة أو النقد. لكنه يمثل نقطة تحول دالة في المشهد الثقافي العالمي، مؤكداً أن الصراع بين "القلم والسلطة" لا يزال مستمراً، وأن ثمن حرية التعبير غالباً ما يكون أغلى من ثمن التأشيرة. إن وول سوينكا، الرافض للسلطة على كل مستوياتها، يذكّر العالم بأن الفكر الحر لا يحتاج إلى ختم رسمي لعبور الحدود.