تدوين-ثقافات
في مقالها المنشور على موقع TRT World بعنوان "الانتفاضة الثالثة ثقافية: كيف يقاوم الفلسطينيون من خلال الفن والوجود الرقمي"، تسلط الكاتبة بيرير كانبور -وهي باحثة وممارسة في مجالي الفنون والثقافة، مقيمة بين لندن وإسطنبول- الضوء على التحول العميق في مسار النضال الفلسطيني، من المقاومة السياسية والميدانية إلى مقاومة ثقافية ورقمية، تخاض بالأدب والفن والهوية والذاكرة، في مواجهة منظومة الهيمنة والدعاية التي تحاول طمس الرواية الفلسطينية.
فيما يلي الترجمة الكاملة للمقال
الانتفاضة الثالثة ثقافية
لقد تطور النضال الفلسطيني من أجل السيادة على مدى عقود، مكتسبا في كل جيل أشكالا جديدة من التعبير والمقاومة.
اعتمدت الانتفاضة الأولى أساسا على الفعل الجماعي والمدني والرمزي، بينما اتخذت الانتفاضة الثانية نهجا مختلفا، ركز على المقاومة المسلحة والحضور الإعلامي. أما اليوم، فإن ما يعرف بـ "الانتفاضة الثالثة" يتشكل في صورة انتفاضة ثقافية شكل من أشكال النهوض يرتكز على الفن والتمثيل الرمزي.
منذ تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964، كان الفن والإنتاج الثقافي عنصرين أساسيين في استراتيجية التحرير الفلسطينية. ففي المخيمات، سعت الجهود الشعبية إلى حفظ التاريخ الشفهي والتقاليد من خلال اللقاءات المجتمعية، محافظة بذلك على الهوية رغم تحديات التهجير.
لقد كانت الثقافة دائما ذات أهمية، لكنها اليوم أصبحت أداة استراتيجية للاعتراف والظهور.
المعركة على الرواية في الفضاء الرقمي
في الأسابيع الأخيرة، صرح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قائلا: "علينا أن نحارب بالأسلحة المناسبة لساحات المعارك التي نخوضها، وأهمها اليوم وسائل التواصل الاجتماعي". بهذه الكلمات، كشف نتنياهو عن مشروع "إستير" حملة دعائية إسرائيلية تهدف إلى تشويه الخطاب العام تحت شعار "الرد".
وقد أفادت تقارير أن وزارة الخارجية الإسرائيلية، من خلال متعاقدين مثل شركة Bridge Partners، دفعت لمؤثرين مبالغ تصل إلى 7,000 دولار للمنشور الواحد لنشر محتوى مؤيد لإسرائيل على منصات مثل TikTok وX، مستهدفة الشباب والجمهور الأمريكي.
وفيما بعد وصفت الشركة هذه المدفوعات بأنها جهود لتعزيز "التبادل الثقافي بين الولايات المتحدة وإسرائيل"، غير أن هذه الاستراتيجية تكشف عن مدى تغلغل الآلة الدعائية الإسرائيلية التي تحول وسائل التواصل إلى ساحة تشوه فيها الحقيقة ويُقمع فيها الصوت المعارض.
لماذا يهم هذا الأمر؟ لأن الظهور هو شكل من أشكال القوة. فحين تُسيطر على الفضاء الرقمي، تستطيع أن تشكل السرديات عبر الخوارزميات، وتعيد إنتاج روايات استعمارية وهيمنية طالما سيطرت على الطريقة التي ينظر بها إلى فلسطين.
قوة السرد في العصر الرقمي
لقد ضاعف الانتقال من التلفاز إلى الشاشات من أهمية الظهور. ففي العصر الرقمي المرئي، أصبح التحكم في السرد شكلا من أشكال السلطة.
تظهر "الانتفاضة الرقمية" المترابطة بالمقاومة الثقافية عبر السرد البصري والعاطفي فالفيلم والفن والشهادة يُحرّكون التعاطف والعمل السياسي، ويخلقون مشاعر مشتركة تربط الناس.
في هذه الحرب على الظهور، تتنافس الحقيقة مع الانتشار الفيروسي. وبينما تطلق الحكومات حملات دعائية لتجميل الاحتلال، يوثق الفلسطينيون حياتهم اليومية، وحزنهم، وصمودهم بصدق خام.
قصصهم تخترق ضجيج الإنترنت لأنها تنبع من التجربة المعيشة، لا من النفوذ المدفوع. ولكي تسمَع الأصوات الفلسطينية حقا، يجب أن تنتقل سردياتهم إلى المنصات الثقافية والفنية، لا أن تظل محصورة في دوائر الأخبار.
الثقافة كهوية وسيادة
تتيح وسائل التواصل الاجتماعي والفن والأدب للفلسطينيين تأكيد هويتهم، وصون ذاكرتهم، واستدامة صمودهم الجماعي.
ورغم محاولات إسرائيل المنهجية لمحو الهوية الفلسطينية عبر السلب والتدمير والسطو على التراث، يواصل الفلسطينيون حفظ تقاليدهم من اللغة والمطبخ إلى الموسيقى واللباس محوّلين الفن والأدب إلى أدوات قوية للتحدي.
من خلال المشاريع الشعبية والمعارض والمبادرات التعليمية، يشاركون قصصهم عبر الحدود، موحدين المجتمعات ومبقين على القضية حية، خصوصا بين الأجيال الشابة في الشتات.
فمبادرات مثل "رواق"، مركز الحفاظ المعماري الفلسطيني، تعمل على ترميم البيوت والقرى التاريخية، بينما يجمع مهرجان قلنديا الدولي الذي يقام كل عامين الفنانين والجماهير لإبقاء الإبداع الفلسطيني حاضرا.
الثقافة ليست مجرد فن أو تراث؛ إنها الحياة اليومية كيف يطبخ الناس، ويبنون، ويغنون، ويجتمعون.
وقد حاول الاحتلال الإسرائيلي تجريد هذه الممارسات من معناها، مستوليا على كل شيء من الطعام إلى العمارة إلى شجرة الزيتون ورموز مثل الكوفية. ومع ذلك، يواصل الفلسطينيون تأكيد سيادتهم من خلال الثقافة، مستعينين بالرموز والدلالات للتعبير عن الصمود والهوية.
السيطرة الخوارزمية والهيمنة الرقمية
نعيش في قرن وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تصاغ السرديات وتنتشر عبر المنصات الرقمية. أصبحت هذه المساحات اليوم الأقوى وأحيانا الوحيدة لتضخيم صوت المقاومة وجعل الأصوات مسموعة.
على مدى العقد الماضي، حلت الخوارزميات محل الإعلام التقليدي كحراس جدد للمعلومة، يقررون أي القصص ترى وأيها تدفن. إنها أدوات سيطرة ثقافية حديثة، تحدد أي السرديات تبقى حية في النظام الرقمي.
كما كتب أنطونيو غرامشي، "الهيمنة لا تحافظ عليها بالقوة وحدها، بل من خلال تشكيل ما يقبل كفطرة اجتماعية". فالهيمنة الثقافية تحدد من يرى، وكيف يرى، وماذا يعتبر قابلا للتصديق.
كسر أزمة التمثيل
الانتفاضة الثقافية إذن ليست مجرد حركة إبداعية، بل ضرورة سياسية. إنها مقاومة ضد التحكم الخوارزمي، والتحيز الإعلامي الغربي، والروايات الاستعمارية التي تحجب الصوت الفلسطيني.
لقد تجاوز الفلسطينيون حظر العلم باستخدام رموز مثل البطيخ، كوسيلة مبتكرة لاستعادة حقهم في الظهور والسرد. وتتفاقم هذه المعركة على الظهور بفعل دور الإعلام الغربي، الذي يصيغ لغته الخاصة لخدمة الدعاية.
تعكس أفلام مثل طيور غزة والخلاص المقدس هذا النهج، إذ تخلق لغات جمالية جديدة للتعبير عما تعجز الكلمات العادية عن نقله. من خلال توثيق القصص الشخصية والإيماءات والمشاعر، تستعيد هذه الأعمال إنسانية الفلسطينيين وتقاوم نزعها.
وحين تصبح اللغة نفسها جزءا من الظلم، يصبح الفن لغة جديدة. تنشأ الانتفاضة الثقافية من هذه الحاجة، لتحول الصمت إلى تعبير، وتبني سرديات مناقضة للهيمنة.
الفلسطينيون وحلفاؤهم لا يقاومون فقط السيطرة الأيديولوجية، بل يقترحون أيضا أطرا أخلاقية جديدة، ويعيدون ابتكار لغة المقاومة ذاتها.
خلاصة
ما يجري اليوم ليس مجرد رد على القمع، بل إعادة كتابة لشروط المقاومة. الانتفاضة الثالثة هي بالفعل انتفاضة ثقافية انتفاضة للفن والذاكرة والخيال، تتحدى المحو والخوارزمية معا.
أمام آلة الدعاية والسيطرة، يواصل الفلسطينيون الحديث والرسم والغناء والتصوير لتخليد وجودهم. وبذلك يذكرون العالم أن التحرر ليس مطلبا سياسيا فقط، بل حق ثقافي الحق في تعريف الذات، والوجود على صورتها الخاصة، وعدم النسيان.