الجمعة  12 كانون الأول 2025

مؤرخ إسرائيلي يفكك معاداة السامية: فصل النقد عن العنصرية

2025-12-12 07:47:44 AM
مؤرخ إسرائيلي يفكك معاداة السامية: فصل النقد عن العنصرية

تدوين- راما الحموري

في خضم الصراعات السياسية والثقافية التي هزّت الغرب على هامش الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة، يبدو مصطلح «معاداة السامية» وكأنه فقدَ حدودَه التعريفية الواضحة. تحوّل المفهوم من توصيف لظاهرة تاريخية إلى ساحة معركة دلالية مُسَيَّسة، ما دفع المؤرخ البريطاني البارز وأستاذ التاريخ في جامعة كولومبيا، مارك مازور، لإصدار كتابه الجريء الذي يحمل عنوان: «عن معاداة السامية: تأريخ للمصطلح».

لا يكتفي مازور بسرد تاريخ كراهية اليهود القديم، بل يغوص في تاريخ "الكلمة" نفسها، كاشفاً كيف تحولت من توصيف لحركة سياسية أوروبية في القرن التاسع عشر، إلى سلاح جيوسياسي في القرن الحادي والعشرين يُستخدم لخدمة سياسات دولة إسرائيل ضد الفلسطينيين والعرب. الكتاب ينقسم إلى قسمين رئيسيين يحللان الجذور والتحولات الجذرية لهذا المفهوم.

مارك زورو

الجذور: التمييز الحاسم بين الكراهية القديمة والاختراع الحديث

ينطلق مازور من تمييز جوهري وحاسم: العداء لليهود كظاهرة قديمة مرتبطة بالتاريخ الديني في أوروبا، وبين مصطلح «معاداة السامية»، وهو اختراع حديث نُحِت في أواخر القرن التاسع عشر في ألمانيا. ويشدد المؤرخ على خطورة الخلط غير البريء بين العداء الديني التقليدي والظاهرة الحديثة المُسَيَّسة.

يرى مازور أن معاداة السامية "الكلاسيكية" نشأت كحركة سياسية معادية للحداثة، وكانت رد فعل مباشر على عصر التحرر الذي منح اليهود حقوق المواطنة المتساوية. كان هدف هذه الحركة تجاوز الصور النمطية السلبية، والسعي لإقناع الجمهور بأن اليهود يشكلون تهديداً وجودياً للقضايا الاجتماعية والسياسية للدولة القومية الصاعدة.

بلغت هذه الحركة ذروتها مع صعود النازية، لكن هزيمة هتلر، بحسب مازور، لم تنهِ التحيز ضد اليهود، بل أدت إلى «نزع الشرعية عن معاداة السامية كبرنامج سياسي إيجابي». بمعنى آخر، أصبح التباهي العلني بكراهية اليهود والترويج لها كمنصة انتخابية أمراً منبوذاً رسمياً وأخلاقياً في الغرب بعد عام 1945.

التحول الجذري: "صهينة" المصطلح لخدمة إسرائيل

يُفرد القسم الثاني من الكتاب، والأكثر إثارة للجدل، لمعالجة المعضلة المعاصرة، مُجادلاً بأن العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، وتحديداً بعد تأسيس إسرائيل عام 1948 وحرب 1967، شهدت تحولاً جذرياً في معنى ووظيفة المصطلح.

يوضح مازور كيف حدثت "صهينة" للحياة اليهودية الأميركية، حيث أصبحت إسرائيل ركيزة أساسية للهوية اليهودية العلمانية. هذا الاندماج أدى إلى ولادة ما يُسمى «معاداة السامية الجديدة» في السبعينات، وهو نموذج مفاهيمي ساوى بين «معاداة السامية» و«معاداة الصهيونية» أو النقد الجذري للدولة العبرية.

يشير الكتاب إلى جهود مؤسسية قادتها منظمات يهودية أميركية والحكومة الإسرائيلية لترسيخ فكرة أن أي عداء لإسرائيل هو بالضرورة نابع من كراهية أزلية لليهود. وفي نقطة حاسمة، يرفض مازور السردية التي تقول إن العداء العربي لإسرائيل هو مجرد امتداد لمعاداة السامية الأوروبية. يستشهد مازور باعترافات خاصة لديفيد بن غوريون، مؤسس إسرائيل، الذي أقر بأن العداء العربي نابع من نزاع على الأرض («لقد جئنا وسرقنا بلدهم»)، وليس من كراهية عرقية.

أداة قمع: نقد تعريف "التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست" 

يخصص مازور مساحة مهمة لنقد «الأرثوذكسية الجديدة» التي هيمنت على الخطاب الغربي في القرن الحادي والعشرين، خاصة ما يتعلق بتعريف «التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست» (IHRA) لمعاداة السامية.

ينتقد مازور هذا التعريف بشدة، عادّاً إياه أداة إدارية غامضة أكثر منه تعريفاً علمياً دقيقاً. ويرى خطورته في كونه شاملاً وغير دقيق، ما يسمح باستخدامه لقمع الخطاب السياسي المشروع، فبدلاً من حماية اليهود من العنصرية الحقيقية، تحوّل المصطلح إلى وسيلة لحماية دولة إسرائيل من النقد السياسي.

للمفارقة، أصبحت أحزاب اليمين المتطرف الأوروبية (التي جددت تراث الفاشية) واليمين المسيحي في أميركا، وهم مُعادو السامية التقليديين، يتبنون مواقف داعمة لإسرائيل بشدة، ما يسمح لهم بـ"غسل سمعتهم" عبر توجيه تهمة معاداة السامية نحو اليسار والنشطاء الحقوقيين والطلاب الذين ينتقدون السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين.

مخرج من المأزق: العدالة للجميع بلا وصم

يؤكد المؤلف، بوصفه يهودياً تأثر بأحداث السابع من أكتوبر والحرب على غزة، أن المبالغة في استخدام المصطلح وتوسيع دلالته يؤديان في النهاية إلى إفراغه من معناه، وتقويض النضال الحقيقي ضد الكراهية.

يقدم مازور مخرجاً من هذا المأزق المفاهيمي عبر مسارين متوازيين: الأول، يقترح التعامل مع معاداة السامية كشكل من أشكال العنصرية والتحيز العرقي-الديني، ومحاربتها ضمن استراتيجية أوسع لمناهضة العنصرية بأشكالها كافة. والثاني، التعامل مع الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني كصراع سياسي ونزاع على الأرض والسيادة وحقوق الإنسان، وهو مجال قابل للنقاش والنقد السياسي الحاد دون أن يوصم بمعاداة السامية.

ويحذر مازور من أن الخلط بين الأمرين يخدم أغراض المتطرفين من الجانبين: أولئك الذين يريدون تحصين إسرائيل من أي نقد، وأولئك الذين يريدون تبرير كراهيتهم لليهود بغطاء سياسي.

يخلص الكتاب إلى تحذير رؤيوي: إن «معاداة - معاداة السامية» بصيغتها الحالية قد تتحول إلى آيديولوجيا قمعية تغلق باب النقاش، وتضر في نهاية المطاف باليهود أنفسهم عبر عزلهم عن حلفائهم الطبيعيين في حركات العدالة الاجتماعية، وربط مصيرهم بشكل حصري بسياسات دولة واحدة. إنه دعوة لقراءة التاريخ بمساءلة، وضمان ألا تصبح اللغة أداة للقمع بدلاً من كونها وسيلة للفهم.