الأحد  29 كانون الأول 2024

من رواية "ظلال ورجال" / بقلم: كفاح عواد

الرحيل من رواية رحيل

2016-05-24 12:21:49 PM
من رواية

 

كان ضربا من الجنون أن تفكر بالموت وأنت بين ذراعي إمرأة،  حاول أن يطرد الفكرة من رأسه لكنها لصقت به بقوة.

صوت عمي جريس يحاصرني "ثمّ أردفَ"

هناك أيام فارقة في حياتنا تفارقنا لكن أحداثها تسكننا للأبد

 نادى عمي جريس والدي فلما أطل عليه من باب الخيمة،  قال له:

ألا تشتاق لدق طاولة  يا شيخ صالح ؟

اغرورقت عيون الرجلينِ بالدموع ووالدي يجيب:

بلى أشتاق يا جريس أشتاق،  يا أم زكريا،  اعملي لنا القهوة وها نحن نلعب في الحوش.

 سقطت الكلمة كالصاعقة على الرجلين فأخذ جريس يحاول أن يمنع دموعا تسللت رغما عنه وجاء صوته مذبوحا:

-      أي حوش يا شيخ صالح ؟ ههههه على باب الخيمة  هاتي قهوتنا أختي أم زكريا، على باب الخيمة، الشيخ صالح نسي أن بيتنا في عكا صار خيمة في الجنوب اللبناني، وأننا بعيدون بعد حلم عن حي الجزار والحوش!

وضحكَ الرجلان بمرارة تليق بمن يسير فوق جمر،  مدعيا عليه صبرا لا يطيقه،  جلسا  يلعبان  بطاولة رسمها العم جرجس بأصابعه على الأرض اأمام الخيمة

 في ذلك الوقت كنت وماريو على أطراف المخيم نقيس المسافة بينه وبين عكا.

قال عمي جريس فيما بعد:

بينما كنّا  نلعب  فإذا برجل يقف وسط ساحة المخيم يرفع أذان المغرب،  أحسستُ بغصة في روحي، فرفعت وجهي عن رقعة النرد المرسومة  وقلت لأبيك:

كم اشتاق أن التفت فأرى مئذنة جامع الجزار وأسمع صوت الشيخ عبدلله الشامي يرفع الآذان يا حج صالح ، كم أتمنى لو أرفع رأسي الآن وأراكَ تعبر الشارع مسرعا إلى المسجد يا شيخ صالح.

فجأة تسمرت يد الشيخ صالح في الهواء، وتسمرت كذلك نظراتي على  اليد المعلقة، ولمّا أحسّستُ أن شيئا يسقط صغيراً على جنب، كان لا بد أن أرفعَ رأسي  لأرى رأس الشيخ صالح قد تدلى على جنب كتفه وفمه المفتوح قد غادر منتصف تكوين الوجه ليستقر ناحية الشمال

قم يا شيخ  لتلحق الصلاة مع الجماعة "أخذتُ أرجوه " الصلاة.. ستقوم يا شيخ.. مالك يا رجل؟ ! في عكا لم تكن تتأخر عن الصلاة أبداً، يا ولدي يا زكريا تعال، أبوك لا يصدق أن الصلاة قد قامت، ربما يقول في خاطرهِ  بعد هذا العمر الطويل :وما أدرى  هذا المسيحي بمواعيد صلاتي، تعال يا زكريا ، تعال يا ولدي وقل له إنني منذ عشرين عاماً أعدُّ خطواته الى المسجد، ذكّره كم مرة  كنتُ أصرخ فيه أن يرفع قنبازه كي لا يتعثر فيه وهو يسرع الى المسجد، سامحك الله يا شيخ صالح بعد عشرين عاما لا تريد أن تصدقني حين أقول لك إن الصلاة قد قامت !

يقول زكريا: كان العم جريس يدرك أن والدي قد فارق الحياة، ولكنه لم يكن يريد أن يصدّق ذلك، لذا أخذ يهزه بعنف وهو يبكي  ويقول:

قم يا شيخ صالح، قم لتصلي في جامع الجزار، أرجوك لا ترحل وتتركني وحدي يا رفيق الدرب، أنت ومرثا غدرتما بي  ورحلتما، لماذا فعلتها يا رفيق عمري؟ لماذا لم تنتظرني يا صالح ؟!

وأخذَ  يجهش بالبكاء  كالنساء اللواتي تجمعن يندبن بصوت عالٍ رحيل أول رجل في المخيم.

سارَ والدي في اليوم التالي إلى قبره  بجنازة مهيبة،  مشى خلفها معظم رجال المخيم،  كأنّما ليحفظوا الطريق للراحلين الجدد الذين لن ينتهوا أبداً.

 بعد وفاة والدي لم نعد نرى عمي جريس يضحك أبدا، ألا يقولون إن بعض الأرواح معلقة بخيط قنب ببعضها في السماء،  فإذا ما سقطت إحداها لم يلبث خيط القنب أن ينقطع  وتسقط الأخرى

 استيقظ عليه ماريو ذات ليلة وهو يرتل ترنيمة  ويجهش بالبكاء، في الصباح كان يحتضنُ  الصليب الذي حمله معه من عكا وعكازة أبي، وفارق الحياة، بنفس الهدوء الذي عرف عن العم جريس طوال عمره.

كان الجسد الابيض قد بدأ يتململُ  احتجاجا على سيرة الموت

سقط البرق بلحظةٍ  ثاقبة على الجسد المُمَدَّد في السرير،   فأدركَ حسن أنَّ  قطعة من رخام تشاركه سريره،  حاول أن يحسَّ  بها فلم يفلح، تأوه وهو يدرك  كم نعجزُ عن تغيّر مسار الروح حين تسلك درباً إلى الماضي.