الأحد  29 كانون الأول 2024

الاغتراب المتشعب في المجموعة القصصية "مجنون حيفا"/ بقلم: أمين دراوشة

للكاتبة: عبلة الفاري (1-2)

2016-07-19 12:20:13 PM
الاغتراب المتشعب في المجموعة القصصية
أمين دراوشة

 

يواجه الكاتب في عصرنا المضطرب تحديات كبيرة، فهو يحاول تصوير وتحليل حياة أشخاص، في محاولة منه إنارة حياتنا المليئة بالدم والخوف والقلق والرعب. ومن الموضوعات التي يعالجها الكاتب ما سماه الكاتب السويسري "بيكار" بأننا نعيش أوضاع "انخلاع وتفكك في مفاصل عصرنا". (1)

وهذا يعني وجود عالمين للإنسان وكلاهما يضجان بالفوضى والاضطراب، العالم الداخلي والعالم الخارجي.

وسنتناول في دراستنا قضية الاغتراب في المجموعة القصصية، والاغتراب لغة، يدل على البعد، ومعناه الابتعاد عن الوطن. (2) فنقول عن المسافر إلى خارج الوطن، أنه في غربه واغتراب، ولمن تزوج من غير أقاربه بأنه اغترب. (3) أما اصطلاحا فجاء بمعنى تغيير المكان والانفصال عنه، أو الانتماء والانتساب لشخص آخر، أو إلى مكان آخر، أو قوم آخريين.

يطغى الاغتراب على الشخصيات في المجموعة القصصية، والاغتراب ظاهرة وجدت مع وجود الإنسان على الأرض، فصراعه مع الظواهر الطبيعية اشعره بعدم الفهم، والخوف ومحاولة الانتصار على أفكاره المشوشة، ومع نشوء المجتمعات ظهرت الأزمات والمشاكل التي سببت الاغتراب للإنسان، وقف الإنسان بكل قوته وطاقته العقلية والروحية في مواجهتها، كان ينجح حينا بالثورة، وأحيانا أخرى يفشل ويستسلم، وينعزل ويتكور على ذاته.

وفي عصرنا الحالي يعاني الإنسان العربي من الاغتراب المتعدد، وكون القاصة تملك مشاعر فياضة، وإحساس عميق في الحياة، كان تأثير الاغتراب عليها كبيرا، وهذا انعكس على شخصياتها القصصية، فالإنسان العربي يعاني من الاغتراب لاسباب لا تخفى على أحد، أولها شعوره بانعدام الحرية، وأن القيود تكلبه وتجعله غير قادر على ممارسة إبداعه، وحياته كما يشتهي ويريد، أما السبب الآخر فهو بلا شك، رؤية الأوطان وقد نخرها السوس، والتهما العفن، والشعور الطاغي بصعوبة أن يتخلص الوطن من أمراضه نتيجة الاستبداد السياسي، والظلم والقهر الاجتماعي والتأمر من الدول الأجنبية للبقاء على الأرض العربية لنهب خيراتها. 

وفي عالم الكاتبة الذي انهزمت فيه القيم الروحية، وطغت المادية، وجدت إنها تعيش في عالم يفتقر إلى الحب والإنسانية، فحاولت في قصصها أن تبنى عالمها الخاص. تقف فيه الكاتبة موقف الرافض للأوضاع المزرية التي يمر بها الوطن، والوطن لديها لا يقتصر على بلدها فلسطين، بل يشمل كل الوطن العربي الكبير.

خوف، وقلق، ومحاولات هروب وانسحاب

القاصة عبلة الفاري من مواليد مدنية جنين لأسرة هجرت من حيفا، اهتمت بالتعليم حتى حصلت على شهادة الطب من الجامعة الفرنسية في تونس. وحاليا تزاول عملها في وزارة الصحة الفلسطينية في جنين.

تقع المجموعة في مئة وأربع صفحات من الحجم المتوسط، وتضم عشرة قصص، والطاغي على راوي القصص ضمير المتكلم.

في القصة الأولى "عاصفة الظلام" تتناول القاصة حياة امرأة عجوز، وحيدة في كوخ منعزل، بعد أن هجرها أحبائها إلى بلاد أخرى، ولم يبق لها سوى الذكريات التي تقتات منها.

في إحدى الأيام والمرأة تحدق في مرآتها، فتمسك بشعرها الأبيض، وتتفقد التجاعيد التي انتشرت في وجهها، وتحس أإن الزمن يهرول ولا يترك للإنسان فرصة للتعويض عن أخطائه، أو محاولة إصلاح ما تأتي به العاصفة من اضرار. إنها اعتزلت الحياة وعاشت مع ذكرياتها الماضية، والآمها التي تعيش معها كحاجة حميمية.

مع العاصفة تشعر المرأة بقوة غامضة تتملكها، فما كان منها إلا أن "انقضّت على جرّة الفخار القديمة المركنة إلى جانب قنديل الزيت المحتضر لترفعها عاليا وتقذف بها المرآة لتجعلها كومة من حطام...". (4)

وضحكت بصوت عال، حتى اهتزت لضحكتها كل ذرة من الكوخ المتداعي، اندفعت إلى الخارج بكامل إرادتها، تركض داخل العاصفة حتى لم تعد تظهر.

أهل البلدة تناقلوا قصتها، ونقلوها إلى أبنائهم وأحفادهم، حدثوهم عن المرأة التي تسكن الكوخ المتهاوي وحيدة، وعن ثورتها المجنونة، وشبحها الذي ذاب في الظلام في ليلة عاصفة. والبعض ما زال يحدث ابنائه عن المرآة الشبح التي تزور كوخها بين الفترة والأخرى، وتتمتم بأغاني شعبية حزينة، وهي تحمل قنديل الزيت.

فالاغتراب يقود الإنسان إلى الشعور بالوحدة والانعزال، والانسحاب من الحياة، وقد قاد الاغتراب العجوز إلى الضجر من كل شيء المدنية والقرية، وصادقة الليل، ورافقت الحزن، وسلمت نفسها للعاصفة راضية مطمئنة.

في قصة "ابن الشاطىء" تتناول القاصة سيرة حياة مسعود الفتى الذي كبر وسط عائلة فقيرة ومعدمة، ولم ينل حظه من التعليم، وتظهر شخصيته تعاني من الاغتراب القاس، الذي ينخرها بقوة، يقول: "إخطبوط عملاق يجثم ثقيلا على صدري يطوقني حتى الاختناق، فأحس بحشرجات الموت تداهمني كلما غفوت قليلا لأستيقظ مرعوبا مصفر الوجه مزعزع الكيان". (ص 28) فهو يقضي وقته في أحضان أم صديقه منصور التي يعمل زوجها خارج البلاد ولا يعود إلا أيام قليلة في السنة، يقضيها في التدخين وشرب الكونياك، ولا أصدقاء له سوى منصور الذي يقدم له مسعود الحماية من الفتيان المشاكسين والعدوانيين.

وهنا نرى الشخصية تعاني من الانفصال الاجتماعي والمكاني، ويورد الباحث يحيى عبد الله في كتابه (الاغتراب) (5) مجموعة استخدامات للمصطلح في وقتنا الحالي، ومنها:

التصدح الذهني الذي يعني نقص في الشخصية وعدم اكتمالها، إذ يشير إلى عدم الوعي، أو نقص الصحة العقلية، ويطلق على الأشخاص غير الأسوياء، وهنا نرى استخدام المصطلح بدلالة طبية.

والاغتراب الداخلي حيث ينكفىء الشخص وحيدا، وتمتاز علاقته بالآخرين بالبرود، كما يشير إلى اضطراب الذات وعدم قدرتها على القيام بواجباتها اتجاه نفسها والآخرين.