الأحد  29 كانون الأول 2024

داعش في رام الله!

2018-09-11 05:36:46 AM
داعش في رام الله!
بوابة مبنى في البلدة القديمة في رام الله (تصوير: الحدث)

 

الحدث الثقافي ــ محمد بدر

لقد أذهلتنا جميعا مشاهد تدمير تنظيم داعش للأماكن التاريخية والمعالم الأثرية في كل المناطق التي سيطرت عليها في سوريا والعراق، قبلها بسنوات كانت تماثيل أفغانستان من رموز الهوية الأفغانية على موعد مع التدمير، ويمكن تفسير هذه الحالة بأنها إحدى تجليات الحرب، ومحاولات الانتقام من التاريخ، وهكذا يجيء الجديد حاملا معه الانتقام للتاريخ.

ولكن وكما يقول الأديب الأمريكي فوكنر فإن الماضي لا يموت أبدا وهو حتى لا يمضي، لأن التاريخ ليس ماضيا، بل سياق تكويننا الاجتماعي والسياسي والفكري، والاحتجاج ليس لكون الهدم يطال الطرقات والمباني؛ وإنما يطال روايتنا وذاتنا وتعريفنا لأنفسنا أمام أنفسنا وأمام العالم.. إنه الصراع البسيط المعقد بين الحديث والجديد، بين مرحلتين، بين خيارين، وبين طريقتي كفاح إذا تخصصنا أكثر في الطرح كفلسطينيين، إن صح أن نطلق على الثانية طريقة كفاح..

إن اتخاذ السلطة الفلسطينية لمدينة رام الله "عاصمة سياسية" لها، بعد توقيع اتفاق أوسلو، أدى إلى تسارع الحركة العمرانية في المدينة من خلال ثلاثة مستويات تأثير تفاعلت مع بعضها البعض؛ أولها: حضور منطق الدولة وغياب منطق التحرر، وظهور استراتيجيات جديدة تحت شعارات "كفاحية" جديدة كالمقاومة من خلال البناء وإشغال الحيز، وثانيا: بروز طبقات رأسمالية مرتبطة بالعمل الحكومي والشركات الخاصة والمنظمات غير الحكومية، وأخيرا: التمويل الأجنبي وظهور قطاع جديد من المؤسسات والموظفين المرتبطين بهذا القطاع.

وقد أدت هذه العوامل وما أنتجت من تسارع في الحركة العمرانية، إلى تحولات كبيرة في الحيز العام؛ خاصة في ظل التمدد العمراني العشوائي، وحضور التشتت المراكزي وغياب بعض الأشكال التقليدية كالساحة المركزية والفراغات والحارة و"الحوش"، إلى التعدي على أراض واسعة كأراضي الوقف والمناطق التاريخية وتحويلها إلى مناطق سكنية من قبل المستثمرين.

السبت الماضي، رافقتني طفلتي لتغطية فعالية ضد هدم المباني التاريخية في رام الله، ولأنني وعدتها بأن نتجول في رام الله، وقفنا في "رام الله التحتا" نغطي الفعالية، ولم يكن العدد الموجود كاف لاستدارة الكاميرا خلال التصوير المباشر للاعتصام، العدد قليل والفراغ في الصورة ممنوع في زمن الاستهلاك والنيولبرالية.

ــ "خذني على رام الله"..

"بس احنا برام الله بابا"..

ــ "لا هاي مش رام الله.. خذني على رام الله اللي فيها أشياء".

إن هذا الحوار ليس قصصا شخصيا، وإضفاء لطابع شخصي على مادة صحفية، بقدر ما هو إلا تبسيط للغة الأكاديمية في بحث للباحثة ليزا تراكي بعنوان "من صنع رام الله".  وهكذا يتم تصنيع رام الله جديدة مليئة بـ"الأشياء" بلغة الطفلة، وفارغة من "الروح" بمنطق الهوية الوطنية والتاريخ.

يذهب البعض لكون التخطيط العمراني في فلسطين، يخضع لواقع سياسي متمثل بالاستيطان الإسرائيلي، ومصادرة الحيز الفلسطيني، وأن المساحة الموجودة لم تعد تتناسب مع الأعداد المتزايدة للسكان واحتياجاتهم، ولكن السؤال الأهم الذي يمكن أن يجيب على هذه الإشكالية: ما الخطأ في دمج هذه المباني في المنظومة المعمارية الحديثة بما يحافظ على خصوصية الماضي ولا يعيق التطور العمراني الحديث!!..

عمليا، فإن الشكل المعماري الجديد ــ ما بعد أوسلو ــ يهدد بشكل أساسي الطبيعة الاجتماعية التقليدية للمجتمع الفلسطيني، ويستحدث علاقات اجتماعية تتوائم والطرق الجديدة في السكن (الشقق السكنية في العمارات)، كما أن تزايد تأثير الرأسماليين الجدد ــ من انتاج أوسلو ــ في النظام السياسي الفلسطيني، أدى إلى زيادة تأثيرهم في طبيعة العمران من خلال استثمارهم الكثيف في بناء المقاهي والمطاعم والفنادق والعمارات والأبراج على حساب العام في أحيان كثيرة، وخلق حالة من عدم الاكتراث بالموروث، وهذا أمر يؤكد على ضرورة مقاومة هذا التوغل الكبير المدجج بـ"السلطة" على التاريخ. وإذا كانت أوسلو تريد استحداث بيّنات جديدة في الواقع الفلسطيني واستطاعت، فإن من حق التاريخ أن يحافظ على بيّناته حتى لا نخسر صراع البيّنات مع الاحتلال، فـمتى يتأكد الذين استثمروا آمالهم في تدمير الأضرحة، أنهم فشلوا في التجربة!.