الحدث- ال مش مواطن / بقلم: جوده أبو خميس
مع الاعتذار للمرحوم أحمد زكي، لن نضحك في رام الله فالصورة لم تعد "حلوة"، فخلال أسبوعين صحونا على واقع لطالما أنكرنا وجوده بين المطاعم والكافي شوبات والمسارح والندوات والمواكب والخطابات النارية، ولم يتبق لنا في فضائها سوى الوجه الحقيقي لما نحن فيه من قتامة الحال وألم الاكتشاف ووجع الانكسار.
انهار عنفوان عاصمتنا الإدارية بلمح البصر واختفت المواكب، ولم يعد الجند يرابطون على ثغورها، وأعادنا الاحتلال فجأة إلى المسرح في مشهد تعمدنا تجاوزه بالمواكب والاجتماعات القيادية، وشحذ الخناجر على المارقين في غزة. اختفى الجاه والسلطان، وغادر الممثلون مواقعهم ولم يعد للعاصمة الإدارية المؤقتة، أي مكان على الخريطة. وبالمختصر المفيد، رام الله اليوم قرية كغيرها من القرى مع مفارقة الاكتشاف، ومرارة الحقيقة. رام الله اليوم استعادت شعورها بأنها محتلة أيضا كباقي جغرافيا دولة الورق، ولم تعد كسابق عهدها، عاصمة لجمهورية عظمى، عصية على الانكسار والنوم، يختال فيها أصحاب الياقات والمرافقون، المتربعون على صهوة الجاه والنفوذ ونهب المال العام.
لقد استعظم الكثيرون الاقتحامات المتتالية لرام الله، وكأن دولة الاحتلال تقيم وزنا لأي شبر مما تبقى من هذا الوطن، وعلى الرغم من أن رام الله ليست أهم أو أقدس من أصغر بقعة من أي جزء من بقاياه، فإنني أتفق معهم لكونها صنفت كعاصمة مؤقتة لمشروع الدولة، وتصرفت بفعل تموضع القيادة السياسية وحكومتنا الرشيدة ومظاهر الجاه والسيطرة والنفوذ فيها وكأنها دولة كاملة، وتكرست فيها مظاهر السطوة بأبشع صورها.
رام الله المنضوية على نفسها اليوم هي نفس رام الله التي يختال فيها قاضي قضاتنا مع ثلة من المرافقين المدججين بالأسلحة ومركبات الدفع الرباعي، ونفس رام الله التي تستعرض فيها إحدى المستشارات جبروتها ببروتوكولات لا تليق إلا بالجنرالات وحاشية الدكتاتوريات، ولا تتحرك من موقع إلى آخر إلا بنسق لم يحظ به ربما الجنرال جياب أبو فيتنام الحرة، وهي نفس رام الله التي تعج مؤسساتها العامة بالحراس والبوابات الإلكترونية، والكاميرات التي تحصي أنفاسنا، وأصبحت تقدم خدمة جليلة للباحثين عن أي شريان حر. وهي نفس رام الله التي تضم بين جنباتها مقرا لسلطة النقد فاقت تكاليف تشييده مجموع الموازنة التطويرية لعدة وزارات، واستهلك على صبة أساستها دزينتان من الخرفان المحشية.
تعلم دولة الاحتلال ويعلم القاصي والداني بأن رام الله العاصمة الإدارية لدولتنا العظمى بمؤسساتها وجاهها وزلمها هي أيضا تحت الاحتلال، ولكن كرامتها من كرامة السلطة المتربعة على تضحيات الغلابا والمؤمنين بقضيتنا وبحق شعبنا المقدس بالحرية والانعتاق من براثن الاحتلال، وبالتالي فإن اغتصابها المتلفز على مدار الأسابيع الماضية يشكل طعنة نجلاء في كرامة النظام السياسي، الذي يتنازل طوعا عن كرامته وكرامتنا جميعا بالاستكانة للأفعال الفاضحة الجارية الآن. إن رام الله ليست أقدس من أي مكان تدب فيه أنفاس أي فلسطيني، ولكن إعلانها كعاصمة إدارية، واستمراء ذلك من ذوي النفوذ، يحتم عليها التصرف كعاصمة محتلة، ويحتم على منظومة السلطة الانتفاض على هذا الانتهاك الصارخ لهيبة السلطان ومرمغة كرامة علية القوم وعوامهم، ودون ذلك فمن حق وواجب أقل المواطنين شأنا أن يتف بوجهها كل صباح.
إن الاستكانة غير المسبوقة للمنظومة السياسية والحزبية والمدنية بالتعامل مع صلف دولة الاحتلال، وأطماع نتنياهو بكسب تأييد اليمين من خلال الاقتحامات المتلفزة لعاصمتنا الورقية ، يمثل نزعا تلقائيا لشرعية الجميع، ويوجب التوجه فورا إلى صندوق الاقتراع ليقول الشعب المغيب كلمته الفصل. ولا يفوتني في هذا المقام توجيه تحية المهزوم لجنرالات الحجارة الذين يحاولون جاهدين التمسك ببقية من كرامة في تصديهم اليائس لهذا الاستخفاف المرعب بحق النظام السياسي، ووطنية الجميع.
إن ما يجري اليوم في رام الله وباقي محطات الوطن، يتطلب من القيادة فيما تبقى من شرعية عمادها التاريخ، وليس الفعل والإنجاز، أن تعقد هدنة فورية في دق طبول الحرب على غزة حماس، على الرغم من كل شيء، وشحذ السكاكين على الرافضين للضمان الاجتماعي، ومحاولة استعادة ما تبقى من هيبة متبخرة، وتعلنها بوجه الغاصب المحتل بلغة جلية ومدوية... كفى، وليكن ما يكون، حتى لو أدى الأمر إلى تقويض السلطة "بيدي لا بيد عمرو".
ضبي الطابق يا فتح وشوفيلك حل... فاحت ريحتنا