الأحد  22 كانون الأول 2024

غزة... ما بعد بيعة الفراق

ال مش مواطن

2019-02-04 09:36:23 AM
غزة... ما بعد بيعة الفراق
أطفال غزة (ارشيفية)

الحدث - ال مش مواطن - بقلم: جودة أبو خميس

وأخيراً، استكمل اللاعبون ترتيبات مشهد غزة وتبوأ الجلادون مقاعد الصف الأول وأوعز المخرجون لفتح الستارة، وصاح المنادي بالمشاهدين للتصفيق على وقع مسلسل سبي غزة وفصلها عن روحها ودفنها في سراديب الانشقاق. سقطت ورقة التوت عن الحقيقة، وقارب المؤلفون على الانتهاء من سرد تفاصيل المشهد وتلقين الممثلين. لم تعد خريطة فلسطين تتسع لنا، واجتهد من اجتهد لتحميلنا وزر مرحلة كريهة لم نكن طرفا فيها أبدا. فنحن لم نبادر لشق عصا الطاعة على نظامنا السياسي، ولم نهلل للخوارج، ولم نحرق ذاكرتنا وحنيننا كفلسطينيين حتى النخاع. بالأحرى، فنحن الشاهد على ذبحنا والمتهم فيه، ونحن المارقون على الرغم من إخلاصنا. وما بين وليمة تفاوضية وأختها، نموت قهرا وجوعا باسم المصالحة، وكأننا نحن العقبة الأساس في وجهها.

سقطت حكومتنا الرشيدة في رام الله دون "تمكينها" بعد أن تمكنت من لحمنا وقوت أطفالنا، وتجاوزتنا حكومة الأمر الواقع بحكم ولائنا، وما بينهما أصبح رغيف الخبز هدفا مقدسا، تهون دونه كل المحرمات. ولا يعلم ولاتنا في رام الله وحكامنا في غزة بأن التعسف والقهر على جانبي الهزيمة أخذا نصيبهما الوافر من كرامتنا وصمودنا. ولا يتسع وقتهما لما تشيب له الأجنة في الأرحام من هول واقعنا والقصص التي تروى حول ما يجري بصمت بحق تماسك المجتمع ومظاهر التفكك الاجتماعي الناجمة عن قهر الحاجة والعوز.

إزاء ما يجري، وفي خضم إسدال الستار على إمكانية المصالحة ما بين الباكي على أمجاده، والطامح في صناعة أمجاده، وتكريس الفصل وتثبيت موبقات اثنتي عشرة سنة من التيه الفصائلي، فإن تضحياتنا وتشرد أطفالنا وقهر نسائنا يبرر لنا شرف المحاولة، حتى وإن كانت منافية لما هو متعارف ومتوافق عليه حول ما يسمى بالثوابت الوطنية، وأضيف الورقية.

إنني أنا "ال مش مواطن" جوده أبو خميس، حافي القدمين وعاري الصدر من نياشين ماض اندثر وبطولات لم تكتب بعد، أقترح على طرفيّ مأساتي أنا وجميع أهلي في غزة عقد هدنة الأشهر الحرم والتفكير بمنهجية مختلفة لإدارة الصراع بيننا، تقوم على أساس قبول طرفيّ الصراع الفوري بولادة فيدرالية فلسطينية-فلسطينية ما بين الضفة المنعمة المدللة وغزة الجائعة المنكوبة المطاردة، بحيث يكون لكل منهما مجلسه وحكوماته ومواكبه وفساده، تحت مظلة الرئيس، يأتمران بأمره، وينفذان برامجه ويتمتع كل منهما بحكم ذاتي واسع، يتم بموجبه حصول كل ولاية على حصتها من خيرات دولة فلسطين العظمى بقدر مساهمتها في الدخل القومي الإجمالي (حقوق-مقابل-واجبات)، مع فترة سماح أمدها خمس سنوات لتعافي اقتصاد ولاية غزة في ظل الولايات المتحدة الفلسطينية. وهكذا تستطيع رام الله النوم بعمق دون تأنيب ضمير على ما آلت إليه حالنا بسبب وما بعد سقوط غزة، وتنام غزة الأمر الواقع ما بين قيام الليل وسجوده سعيدة بأمجاد ولايتها العتيدة. وبذلك ننافس الولايات المتحدة الأمريكية وباقي الفيدراليات بفيدرالية طخلنج، يمتد نفوذها إلى ما بعد بعد الهزيمة، وتمنح نفسها فرصة لالتقاط الأنفاس، والالتفات إلى ما تبقى من هذه القضية التي "كانت تسمى فلسطين".

يا أيها العابرون في متاهات الانقسام، غزة هاشم بن عبد مناف ليست لقيطا ورث أعباء نزوة عابرة، أو صدفة في التاريخ، ولم  تتسلل إلى موقعها على الخريطة غداة وفاة الجد الثاني لرسول الله على ثراها.  غزة، هذه الصبية الساحرة الأبية الشامخة أبدا، لم تنحن للغزاة طوال أكثر من أربعة آلاف عام في عمق التاريخ، وركعت تحت أقدامها سلالات وأباطرة قدماء المصريين، وكنست غزاة الملك داوود من بني إسرائيل ومن بعدهم قراصنة مملكة السامرة والآشوريين والإسكندر الأكبر... والقائمة طويلة لمن انتحروا على أبوابها ولم ينالوا من صمودها وفلسطينيتها.

غزة هذه، التي تصلب كل يوم ألف مرة، ويتناوب الجلادون على جسدها الغض للنيل من سحرها وإبائها وشموخها، والطامحون لغرقها في البحر، المنتشرون على تخومها الحصينة غيلانا من بقايا التاريخ... عصية على كل الغزاة، علمانييهم وشيوخهم وباقي السحرة، المنتشرين بين هزائمهم والمتعطشين للمزيد.

نحن لسنا رهائن، ولسنا مرَضا معديا، ولسنا وقودكم للصراعات الحزبية والمذهبية، ولسنا محطات تجارب ولا حبر بياناتكم الرنانة ونشرات أخباركم وتقارير المراسلين الصحفية، ونحن لسنا مادة للبحوث السياسية ولا معبداً لبكاء المارقين.  لدينا أحلامنا وهواجسنا ومخاوفنا وليلنا الحزين. نحن لسنا معبدا من طين لقيام ليل الزنادقة والمارقين.

أيها المترفون على جانبي قهرنا، نحن في غزة، حيث لا يعرف الموت بأي وسيلة يموت، يخجل الجوع أمام أطفالنا، ونقضي لخطأ في تشخيص الهوية.  يرحل الموت في عروق تألمنا وهواجسنا وذكرياتنا، بينما تغتال إسرائيل وجبتها في مواعيدها، ويستثمر رصاصهم في أجسادنا براءات اختراع.

غزة ليست فتحاوية وليست حمساوية، ليست عرفاتية وليست عباسية، ليست دحلانية وليست إخوانية.  غزة أيها الأغبياء فلسطينية، فلسطينية، فلسطينية.

"ضبو الطابق يا مناضلين... وارحموا من هم بحكم الميتين"