الأحد  22 كانون الأول 2024

"أينَ أنيابك؟" بقلم: مهند ذويب

2019-06-18 06:06:53 PM
مهند ذويب

 

اعتقد الفلاسِفة السفسطائيون أنّ القوة هي الحَق، وأنّها الفَضيلة العُظمى، ويوضِّح ذلك أفلاطون وهو يتحدث بِلسان سقراط في حوار جَرى في بيت سيفالوس بحضور السفسطائي ثراسيماخوس، حيث يسأل سُقراط عَن تعريف العَدالة، فيجيب السفسطائي: القوة هي الحَق، والعَدالة مصلحة الأقوى، وفي حوار آخر يَنبذ السفسطائي كاليكس الأخلاق ويستنكرها على أساس أنّها خدعة من اختراع الضعفاء. وقد اعتَقد هذا نيتشه فيما بَعد، فقال: إنّ الأخلاق اختراعُ الضّعفاء لتقيد الأقوياء، فإذا قامَ رجل لديه القوّة الكافية واستَطاعَ أن يهزّ هذه القيود والسلاسل الأخلاقية ويحطمها، فإنه سيقوض جميع قوانيننا، ودَساتيرنا، وشرائِعنا. وشتيرنر كذلك، حيثُ قال: حَفنة مِن قوة خير مِن كيس حق. هذه النّظرة تقابلها تمامًا الدعوات الأخلاقية التي تتَمثل في الدين، كالإنجيل والكنيسة واللاهوت في العصور الوسطى، والقرآن حَديثًا، مع تغيّرٍ نظريّ لبعض المفاهيم كالعدالة، وعدالة السّماء، والحق والإيمان، والظلم و موازين القوّة، لكنّ هذا التّغير النظري لم يتبعه تغيّر عملي ملموس، فبقيت القوّة أساسًا للحق بغطاء الدين أو العقل أو الحريّة كالحروب الصّليبيّة قديمًا، والنّزاعات الطائفية حديثًا، والممارسات المجتمعيّة، وحتّى العلاقات الإنسانيّة.

أمام كلّ هذا أحمل أسئِلتي وأقف، فقديمًا وفي أسطورة أنتيشِيناس قالت الأسود للأرانب في مجلس الوُحوش عِندما طالبَت الأرانبُ بالمُساواة: "أينَ أنيابُك؟"، وعَبر التاريخ ظلّت القوّة الفضيلة الأسمى في العالم، واستَطاع هذا العالم ربطها بالأخلاق، وتمجيدها، فصار الناس يعبدون القوة، حتى ضحاياها يعبدونها -كما قال نجيب محفوظ-.

حاولتُ كثيرًا أن أبتعدَ عن تبني شيء كهذا، لكنّ الجدات لم يتركنَ شيئًا من حِكمتهن: "الفاجِر أكل مال التاجِر"، ابتَعدت قدر استِطاعتي إلى قول الفرنسي كورناي: " كلّ قوة لا يكون مبعثها القلب تكونُ ضعفًا"، هكذا أعلّل نفسي، وبتعاليم المثالية عند روسو أيضًا، "فأيّ حق يزول بزوال القوّة؟"، هكذا ظلتُ أسأل دائمًا.

هذه فكرة مؤذية جدًا، تشكّل دوامات عجز دائم في الرأس، نسبيّة الأخلاق مؤكّدة، لكن هل الأخلاق حجة الضّعيف؟، وهل تتناسب عكسيًا مع مقدار القوّة؟ فأهرب للمرّة الألف لأقول ما قاله أرسطو: "إنّ طبيعة الإنسان أقرب إلى الوحش مِنها إلى الإله"، وللمرّة الألف أسأل: ألهذه الدّرجة؟

منذُ اندلعت الخليقة على هذا الكَوكب بحثَ الإنسان عن مبرّرات لتصرفاته، عن شماعات لتعليقِ غريزة التّعطش للبطش، بحثَ أيضًا عن آلهة يتحدث باسمها، وينفّذ سطوته تحتَ جناحِها، تمامًا كما بحث الضّعيف عن آلهة يلجأ إليها، فالضّعيف دائمًا يبحث عن قوي، حتّى ولو تخيّله: " قالَ لو أنّ لي بكم قوّة أو آوي إلى ركنٍ شديد" مُسيلمة كانَ عبقريًا، صَنع شبهَ طائرة ورقيّة، من العيدان ومن رِدائه الأبيض، طيّرها في الهواء، وصرخ في النّاس: " إلى بيوتكم، لقد جاءني جبريل اللّيلة"، كانَ رأسه قويًا بما يكفي ليصطنع المُعجزات، ولا أعرف تحديدًا ما علاقة هذا بما سَبق.

كلّ هذا لا يُهم، لدرجة أنّني أفكّر في نسيانه، لا فائدة من استمرار سعالٍ كهذا في رأسي، عليّ أن أنسى فقط، وأعاقب المهزلة، المَهزلة الكَبيرة جدًا: الحياة، وعليّ أن أصيح بالسّماء؛ لأنّها استرقت السّمع، وهي تعلمُ أنْ لا شُهب لدي، عليّ أن أهدأ، وأن أقف في الوسط: "الحقّ هو انسجام القوّة والرّغبة".