الأحد  22 كانون الأول 2024

غسان كنفاني في ذكراه: من كاتب إلى شرط للتحرر

2019-07-08 11:38:57 AM
غسان كنفاني  في ذكراه: من كاتب إلى شرط للتحرر
الشهيد غسان كنفاني

 

الحدث - إسراء أبو عيشة 

يصادف اليوم الذكرى الـ 47 عاما على اغتيال الكلمة، اغتيال أراد الاحتلال الصهيوني منه إنهاء تلك الشرارة التي أشعلت السطور وأنارت الدروب، ففي تموز 1972 أنهى الاحتلال الإسرائيلي حياة غسان كنفاني، أحد أبرز الكتاب والأدباء الفلسطينيين والعرب، في بيروت مع ابنة أخته لميس في انفجار سيارة مفخخة على أيدي عملاء إسرائيليين.

وفي حديث الأستاذة والمحاضرة الجامعية وداد البرغوثي، مع الـ "الحدث"، أشارت أن المثقف منذ البداية لعب دورا سياسيا مهما، ليس في الثورة المعاصرة فحسب؛ ولكن منذ ثلاثينات القرن الماضي وبداية الإعلام الفلسطيني الذي أسس له أدباء كان لهم دور مهم في صناعة الثقافة وإعلاء الشأن السياسي للقضية الفلسطينية من خلال القصيدة والقصة والفن والرواية والقصة والرسم، حيث هدف الاحتلال الإسرائيلي إلى إنهاء  كل هذه المؤثرات التي يمكن أن تعطي للقضية الفلسطينية زخما، أو أن تقوم بإيصال القضية إلى نطاق أوسع، لذلك استهدف الصحفي والفنان والمثقف والأديب.

وقالت البرغوثي، إن اغتيال كنفاني لم يكن عبثا، لأن الاحتلال أراد دائما أن يحتل هذه الأرض ويؤكد بسلاحه ومعتقداته وبكل ما يمتلك من قوة وأدوات بأنه جاء إلى أرض بلا شعب، بالتالي هذه الأرض حق مستحق للاحتلال، لكن أدب غسان من "عائد إلى حيفا" و"ما تبقى لكم" و"أرض البرتقال الحزين" وغيرها من الأعمال؛ جاءت لتؤكد أن هذه الأرض لها شعب ولها حضارة، وأن هذا الشعب جذوره ضاربة في أعماق الأرض، فكان أدب غسان ردا على الرواية الصهيونية، بإبراز الحقائق وإظهارها كون كنفاني لم يكن كاتبا فقط بل كان مقاتلا وإعلاميا وأديبا، بمعنى أنه لم يقف عند حدود الرواية فقط، لذلك كان جسدا مستهدفا للاحتلال.

أما الأستاذ والمحاضر الجامعي معز الدين كراجة، فيرى بأن ما يميز أدب كنفاني هو أنه لم يكن يصف الحاضر أو يحلله، إنما تجلت عبقريته باستشراف المستقبل، وكأنه الكاتب القادر على قراءة مستقبل مجتمعه الوطني والسياسي قراءة عميقة، وكأن الاحتلال باغتياله أراد أن يستهدف وعي الثورة، لأنه كان يدرك بأن استمرار كتابات غسان الثورية يعني مزيدا من الفوضى وعدم السيطرة.

وقال كراجة لـ"الحدث"، إن وجود المثقف والحالة الثقافية ساهمت في تأسيس ونشأة المشروع الوطني الفلسطيني، بعد الخمسينات والستينات، من جورج حبش، وديع حداد، ناجي العلي، غسان كنفاني، كمال ناصر، وماجد أبو شرار وغيرهم، وهؤلاء جميعا ليسوا فقط مناضلين أو حاملين للبندقية، بل إنهم مثقفون فلسطينيون، وهو شرط لا بد من وجوده لنهوض أي مشروع وطني وحمايته والحفاظ على استمراريته، لأن أي مجتمع يخلو من الثقافة والمثقف، يكون مجتمعا هشا وضعيفا يقبل التلاعب والتسيير والتوجيه بكل سهولة من قبل الغير، لذلك تشكل الحالة الثقافية اشتباكا مباشرا مع الاستعمار.

وأشارت وداد البرغوثي، أن الفجوة بين السياسي والمثقف ليست كبيرة، لكن ما جعل هذه الفجوة موجودة هو الانشغال السياسي بشكل عام نتيجة الحاجة الملحة لإبراز القضية الفلسطينية، خاصة في البدايات حيث كان الهم السياسي أكبر من الهم الأدبي أو جاء الهم السياسي على حساب الهم الأدبي وهذا ما خلق هذه الفجوة.

وأما كراجة، يعتقد بأنه في آخر ثلاثة عقود بدأت التحولات في الواقع الثقافي الفلسطيني تظهر بشكل واضح، حيث لم يعد المثقف الذي كان موجودا سابقا المنغمس بإظهار قضايا مجتمعه ومعاناته، وهذه التحولات تأتي نتيجة التحولات السياسية والاقتصادية بالأساس، "حيث تحول مفهوم ومعنى المثقف الفلسطيني الذي أصبح أقرب ما يكون إلى منظر وليس مثقفا، الأمر الذي من يمكن أن نصفه بين المثقف والأكاديمي، والأكاديمي لا يصبح مثقفا إلا إذا انخرط بشكل أساسي بقضايا مجتمعه، لكن تحول هذا الحال أدى إلى أن يكون هناك فجوة واسعة بين المثقف وقضايا مجتمعه، حتى أصبح معظمهم الآن يشكلون الطبقة العليا للمجتمع، بمعنى أنه أصبح يعمل في الثقافة وليس مثقفا، بتخليه عن انخراطه الميداني في قضايا مجتمعه، وهذه المشاكل ظهرت وتشكلت بسبب تردي وهشاشة المشروع الوطني، لأننا حاليا في حالة وطنية متردية جدا، لأن المثقف غائب عن الميدان، وأصبح يشكل أحد أدوات هيمنة الحالة المتردية أو استمرارية هذه الحالة".

وأوضح كراجة، أن هناك تحولات كبيرة في الثقافة الموجودة اليوم، حيث تعاني معظم الكتابات منذ عقدين من صفات سلبية، أهمها:  

  1. معظم ما يكتب يكون غير نقدي، حيث إننا نفتقد لوجود المثقف النقدي، أو النقدي اللاذع، وما يكتب لا يعبر عن حقيقة الواقع السياسي الوطني الفلسطيني، وإنما هو خارج السياق الوطني، ويظهر ذلك من خلال الندوات الثقافية التي تقام، حيث أصبحت الثقافة تتحدث عن شيء آخر منفصل عن ما نعيشه، أو هي ثقافة لنخبة منفصلة عن الأغلبية الفلسطينية.

  2.  دخول مشروع أوسلو، والانكسار الذي أصاب المشروع الوطني، حيث أصبح كثير من المثقفين جزءا من هذه الحالة وليسوا جزءا من نقد هذه الحالة.

وفي ذات السياق، أكدت البرغوثي، أن ما تغير في وقتنا الحالي هو دور المثقف، حيث لا نجد المثقف العضوي أو المشتبك، وإن وجد فإنه سيستهدف من قبل الاحتلال، ومثال ذلك باسل الأعرج وهو نموذج حديث، لأنه شكل دور المثقف الفاعل، لأن الكلمة إذا انفصلت عن الفعل لن يكون للكلمة أي تأثير، لكن إذا اقترنت الكلمة بالفعل هنا يشكل المثقف خطرا بالنسبة للاحتلال.

وبين كراجة، أن كنفاني يعتبر المثل الصحيح لتعريف المثقف؛ لأن ثقافة غسان آتية من انخراطه والتصاقه المباشر بقضايا المجتمع الفلسطيني وتحديدا قضاياه الوطنية والاجتماعية والثقافية، وما زالت رواياته حتى اليوم موجودة وخالدة لأنها تعبر عن نبض الشارع الفلسطيني وعن أكثر الشرائح بساطة في المجتمع الفلسطيني، "غسان لم يكتب عن الشعب من البرج العاجي الموجود اليوم إنما كتب عن قضايا شعبه في المخيمات وأظهر أفراد شعبه في ميادين القتال، ولم يكن في السياسة منظرا بل كان مناضلا ومثقفا يكتب بكل صدق ليس من أجل الكتابة فحسب

وأكدت البرغوثي، على أن كنفاني أسس لشيء لم يكن موجودا في السابق، حيث إنه قام بربط القضية ماضيا وحاضرا ومستقبلا، ومثال على ذلك روايته الأشهر "عائد إلى حيفا"، حيث نجد أن الأدب بشكل عام  يتحدث في تلك المرحلة عن النكبة والانكسار الذي أصاب الشعب الفلسطيني، لكن أن تكون النكبة حافزا فيما بعد للثورة هذا ما وجد بشكل أساسي عند غسان كنفاني في الرواية، لأنه حين نجد أن خالد الفتى الثائر في الرواية الذي لم يولد في جيل النكبة لديه روح الثورة وقرر أن يلتحق في الثورة؛ هنا قام غسان كنفاني بإخراج الشعب الفلسطيني من عالم الأحزان إلى التمرد وإلى الفعل الحقيقي الذي يسعى إلى تحرير الوطن المسلوب.

وقال كراجة، إن كنفاني تمكن من الكتابة لجميع الفلسطينيين بمختلف مستوياتهم المعرفية والثقافية والمجتمعية، ويمكن بسهولة فهم الفكرة  والأهم أن القارئ يشعر أن ما يكتبه هو عنه كمواطن ويؤثر فيه.

وأشارت البرغوثي، أن سياسة الاحتلال في تصفية واغتيال المثقفين مستمرة بفعل وجود الأدب والفعل المقاوم، ومثال ذلك ماجد شرار الذي اغتيل بعد غسان كنفاني بعقدين من الزمن، حيث كان ماجد أديبا وسياسيا ومقاتلا، وكان يشكل جزءا من امتدادات غسان، ونجد ناجي العلي والكثيرين، ولم يتوقف السير.

في المقابل، يُعتقد كراجة بأن الاحتلال اليوم قد وصل لمرحلة أنه يقوم باستهداف الثقافة بمستويات أخرى، حيث إنه لا يستهدف الثقافة اليومية للناس ولا "الرواية والشعر والأدب"، وإنما يستهدف القيم الوطنية بشكل خاص.

وفي مقالة نشرها الباحث علي موسى حول اغتيال كنفاني؛ يرى أنه على الرغم من اختلاف ظروف الحياة بين غسان كنفاني وباسل الأعرج "زمانيا ومكانيا ومهنيا"، واختلاف شكل الاستعمار الإسرائيلي الذي عايشاه، إلا أنهما تشابهان في فعل الكتابة عن التحرر من الاستعمار، والتحريض ضد الواقع، لذلك نجد بأنهما شكلا أداة خوف بالنسبة للاحتلال الذي قام باغتيالهما.

وأضاف موسى، أن مفهوم المثقف تبلور عند كنفاني من موضع المثقف من عملية الإنتاج الثقافي ومشروع التحرر من الاستعمار، في إدانة جبن قطاع من المثقّفين - المتعلّمين وانتهازيّته وفردانيّته، مقابل الإشادة بنبل قطاع آخر من الفئة ذاتها وشجاعته وتضحيته؛ فالمعيار لم يكن مدى الثقافة أو شكلها أو نوعَها، ولا نوعَ المثقّف - المتعلم أو الكاتب، بمقدار ما كان المعيارُ هو اقتراب هذا المثقّف أو ابتعاده عن مقاومة مشروع الاستعمار بتجلّياته المختلفة. وكذلك تبلور مفهوم المثقف عند كنفاني بعدم الاكتفاء بالتأريخ والنظر للكفاح المسلح.