الأحد  22 كانون الأول 2024

عندما يتحول القلم إلى سلاح في معركة ضد الأنذال (مذكرات مدرس)

أحمد رباص

2019-09-24 11:03:06 AM
عندما يتحول القلم إلى سلاح في معركة ضد الأنذال (مذكرات مدرس)
أحمد رباص

في شهر مارس 1993، استلمت من مسؤول إداري في نيابة التعليم بمدينة ورزازات تعيينا جديدا في مجموعة مدارس تورجدال على سبيل التكليف؛ بمعنى أن المهمة التي تم انتدابي لها مؤقتة وأني سأبقى محسوبا على مؤسستي الأصلية الواقعة في حوض درعة بين أكدز وزاكورة.

تقع مركزية تورجدال في مكان واطئ على سفح الجبل يمينا بالقرب من الوادي ذي الصبيب المنسوب الدافق في فصلي الشتاء والربيع والمتواضع حد التلاشي في باقي أيام السنة. تمتاز المدرسة عن مثيلاتها التي سبق لي العمل فيها بصغر مساحتها المخضرة بشجيرات يانعة ونباتات عطرية مزهرة سهر على زرعها وغرسها وسقيها وتشذيبها حارس المدرسة الذي يحمل اسما عائليا مطابقا لاسمي، وكانت تلك أول مرة في حياتي أقف فيها على هذه المطابقة. 

استقبلني المدير استقبالا يليق برجل تربية وتعليم ورحب بقدومي. بعد الانتهاء من الإجراءات الإدارية الاعتيادية، أخبرني بأني سوف أكون مسؤولا في مدرسة أكويم عن تدريس جميع المواد لمستويين هما الثالث والرابع.

في نفس اليوم، التحقت بالمدرسة الفرعية لأكتشف موقعا زاخرا بالحياة وعبقا برائحة التاريخ. عالم جديد بالنسبة لي مع أني اعتدت المرور عليه ذهابا وإيابا في رحلاتي بين ورزازات والدار البيضاء. طاقم المدرسة المكلف بالتدريس يتكون من معلمتين ومعلمين. تقربت من الأخيرين وسرعان ما اندمجت معهما، فدعواني للإقامة معهما في دوار أكويم ريثما أتدبر أمري لإيجاد سكن مستقل. أحدهما ينحدر من مراكش، ذراعه اليمنى ملفوفة في "جبيرة" بيضاء، الظاهر أنه تعرض لكسر على هذا المستوى نتيجة عراك خاضه في لحظة سكر. علمت من خلاله أن مسؤولا إداريا بالنيابة مشهورا بأخذ الرشوة ينتمي لعائلته. 

أما المعلم الآخر فهو مجاز مثلي في الفلسفة ويتحدر من أبي الجعد (شاي الله آبوعبيد الشرقي). لنا نفس التخصص وتابعنا دراستنا في وقت متزامن، فكيف لم يسبق لي ملاقاته على الأقل؟ السبب في ذلك كونه درس مرحلة الإجازة في فاس بينما قضيتها في الرباط.

الجو هنا بارد جدا.. ندف الثلج تتساقط بدون انقطاع، لأجل اتقاء لسعات البرد القارص، كنت ألبس (زوجا من الحاجة).. الحذاء العادي لا يصمد أمام البرودة الشديدة المنبعثة من الأرض، لذا كنت حريصا على تلبيس قدماي جوارب قطنية غليظة السمك وانتعال حذاء جلدي ذي أسمال متينة. 

في أكويم، أقمت أياما ضيفا على زميليّ، وعلمت أن وراء إسكانهما في قلب الدوار معلم من أبنائه جرى تكليفه بالإشراف على تسيير مجموعة مدارس تمسطينت المتاخمة لجماعة تيديلي الجبلية، ليحل محل مدير المؤسسة الذي فضل الرجوع إلى قاعدته (قسمه) سالما على تحمل متاعب لا حصر لها كمدير لمجموعة مدرسية معزولة لوقوعها في منطقة جبلية وعرة التضاريس وذات أحوال مناخية هي من القساوة بمكان.


 

تقع مدرسة أكويم في "الأوتيل" الذي لا يعني في عرف السكان فندقا لإيواء الزوار العابرين، وإنما يتجاوزه إلى محلات تجارية وحرفية متلاصقة ومتقابلة على جانبي الطريق الرئيسية الرابطة بين مراكش وورزازات. في بداية الطريق المؤدي لتيديلي، انتصبت إلى اليسار عمارة شامخة البنيان حديثة العمران، خصص طابقها السفلي لمقهى يقصده المعلمون العاملون في سائر أرجاء المنطقة فيما أفردت الطوابق الأخرى لمبيت السياح الداخليين والخارجيين. يشهد هذا المقهى ذروة رواجه يومي السبت والأحد. في الفضاء الممتد بين المدرسة والطريق الرئيسية، يقام كل سبت سوق قروي صغير تعرض فيه الخضراوت والفواكه والتوابل وأشياء أخرى، غير بعيد عن المدرسة، ترى بناية هائلة بمعمار حديث صممها مهندس أوروبي ذات يوم من أيام الحماية. فيما بعد، علمت أنها مقر قديم للبعثة المسيحية الفرنسية. استبدلت مهام التنصير والدعوة للسيد المسيح بدروس عملية في التكوين المهني: النجارة والحلاقة للذكور والخياطة والطرز للفتيات، إضافة إلى احتضان البناية لمستوصف صغير يقدم خدماته الصحية لأطفال ونساء الناحية.


 

فضلا عن أطفال دوار أكويم، تستقبل المدرسة أطفال دوار الزاوية المنزوي إلى يمين الطريق الرئيسية المعبدة في اتجاه إغرم وسط أرض منبسطة تتخللها حقول مشجرة ويخترقها نهر صغير يسيل ماؤه في اتجاه ورزازات. تبدو منازله متلاصقة بحيث تشكل تجمعا سكانيا متراصا تكاد تنعدم الفراغات بين منازله. على بعد كيلومترين أو ثلاثة، هناك دوار إغرم الشهير بحانته التي سارت بذكرها الركبان. هنا، قبل أن تذهب الجعة بعقلك، تسحرك المناظر الجبلية بجمالها وتشدك المياه المتدفقة إلى خريرها الناتج عن انسيابها بين جدوع الأشجار وجلاميد الصخور.

لست أدري لماذا تنقاد لي الكلمات بسلاسة كلما عادت بي الذاكرة إلى الأيام والليالي الخوالي التي عشتها في أكويم تورجدال، رغم قصر هذه المدة الزمنية فقد ترسخت وقائعها في ذهني بكل ظروفها وصروفها وكأنها تنتمي إلى الماضي القريب من تاريخ سيرتي الذاتية الذي لم ير منها النور سوى جزء ضئيل على شكل شذرات.

عندما تبين لي أن مجموعة من القرويين اجتمعوا بإيعاز من المعلم المكلف بإدارة شؤون المجموعة المدرسية لتمسطينت لكتابة شكوى ضدي؛ لم أدخل في حسابي في ذلك الوقت اللجوء إلى أحدهم من ذوي السلطة والنفوذ لغاية الاستنجاد به عساه يصد عني غائلة الغوغاء الذين ما أدركوا مزايا الحوار لحل العديد من المشاكل. فمن خصالي الحميدة - ربما يكون ذلك سبب تعاستي في محيط موبوء بالنفاق الاجتماعي - طموحي الأزلي لأن أكون منسجما مع مبادئي؛ مثلا، علموني في المدرسة ألا أغش في الامتحان تفعيلا لفصيلة الاعتماد على النفس وضمانا لمبدأ تكافؤ الفرص، لهذا لا أتحمس كثيرا لمسؤول إداري أو حزبي أو نقابي أو حتى مخزني اقترح علي مساعدتي على الحصول على امتياز كيفما كان نوعه، أنا هنا لست بصدد المديح الذاتي النرجسي، بل أترجم بطريقتي حبا لذاتي الذي لولاه لتعذر عليّ حب الآخر والمجتمع والوطن.

كان عليّ إذن مواجهة المتآمرين ضدي وحيدا أعزل إلا من أسلحة أقل خطورة من تلك الموصوفة بالبيضاء مع أن استعمالها يترتب عنه نزيف الدماء الحمراء، من هذه الأسلحة كان هناك القلم الذي كنت أرى فيه أحيانا سيفا بتارا شريطة توفر حامله، الذي كنته وما زلت، على عنصري الحقيقة والموهبة، تقديم الأولى على الثانية ليس من قبيل العبث بل هو متأت عن أولوية تستحقها الأولى بنسبة أكبر مقارنة بالثانية، هذا الحلم مشروع بالنسبة لمن يفضل، مثلي، الترقية الأفقية على الترقية العمودية، لا لشيء سوى لأن الأولى تتضمن الثانية ولهذا يقول الفرنسيون إن أخص خصائص الأفق الاحتضان ، الله يجيب من يفهمني وما يعطيني والو!

في صباح الغد، أخبرني أحد أصدقائي من أبناء مجمع أكويم أن المعلمين انفردا البارحة في أحد المنازل بنفس الوجوه التي تم استدعاؤها لحضور الاجتماع المنسوف والذي كان مقررا تنظيمه في أحد أقسام المدرسة، لم يفاجئني هذا الخبر لأني كنت على علم مسبق بأنهم سوف يعقدون جمعهم غير المبارك في مكان آخر. مع ذلك، أعربت لصديقي عن شكري وامتناني لصنيعه الجميل. التحقت بمكتبي في القسم واستويت على مقعده بعد المناداة على التلاميذ كل واحد باسمه حتى أتأكد ممن حضر منهم وممن غاب.. تناولت قلما أسود ووضعت أمامي دفترا من حجم كبير يقال له commercial بلغة الإفرنج.

فتحت الدفتر وبدأت أدون المعلومات التي عليّ توظيفها في معركتي ضد الأنذال التي ليست سوى في بدايتها.. منذ مجيئي إلى هنا، لاحظت جيدا كيف يطبع المعلمان المراكشي والشرقاوي (نسبة إلى شرقاوة أبي الجعد) على خدود بعض تلميذات المستوى الخامس قبلات حارة هي أقرب إلى التحرش الجنسي منها إلى الحنان العاطفي.. استبعدت تماما هذا النوع من المعلومات من التقرير المفصل الذي كنت بصدد كتابته بهدف إرساله إلى النيابة بورزازات عن طريق السلم الإداري.

عند هذه النقطة بالذات، أتقبل بصدر رحب اعتراضين اثنين لا ثالث لهما يمكن أن يعبر عنهما القارئ اللبيب، من يغامر بفك الشفرات الخبيئة بين السطور: 1- بدأت في تدوين المعلومات ونسيت تمرير التعلمات، 2- تريد إرسال تقريرك الشامل عن طريق السلم الإداري وقد خسرت علاقتك بالمدير عندما استدرجك المعلم الشرقاوي إلى قضاء ليلة في الفندق على حسابه بمقابل كتابة مقال صحافي تهاجمانه فيه. بالنسبة للاعتراض الأول، أقول في تلك الآونة تكون قد مرت على تعييني خمس سنوات مارست فيها مهنتي بكل حماس وعنفوان ما مكنني من اكتساب مهارات بيداغوجية تسعفني في تحفيز المتعلمين وتنشيطهم عوض أمرهم بأن يبقوا مكتوفي الأيدي.. وبالنسبة للاعتراض الثاني، أبادر إلى توضيح شيء أساسي وهو أن المدير لم يعلم بمحاولتنا تلك الفاشلة.. كنت متأكدا من مساندته لي سيما وقد علمت منذ وطات قدماي أرض أكويم وتجرعت أول قطرة من مائه أن معلمي م/م تورجدال يناصبونه العداء ويتربصون به الدوائر ما عدا عنصر أو عنصران.