الأحد  22 كانون الأول 2024

مذكرات معلم في الجنوب المغربي: السماء تمطر ضفادع وتحجبها أسراب الجراد

​بقلم: أحمد رباص

2019-11-02 08:35:55 AM
مذكرات معلم في الجنوب المغربي: السماء تمطر ضفادع وتحجبها أسراب الجراد
أحمد رباص

 

 ما زالت في جعبتي أشياء كثيرة خبرتها على نحو مباشر خلال سنتي الأولى بدوار الفكارة وتجاوزها قطار الحكي بشكل مقصود وممنهج؛ ما يعني أن تجاوزها نسبي وتداركها ممكن؛ ففي فترة ما بعد الزوال من يوم خميس، انحشرت في عربة مهترئة من نوع بيكاب مع بعض الأهالي العائدين إلى ديارهم بعد أن قضوا مآربهم وأغراضهم من السوق الأسبوعي لأكدز.

شهد ذلك اليوم رياحا باردة وأمطارا غزيرة. طبيعي، والحالة هاته، أن تتعدى حمولة العربة طاقتها على الاستيعاب، كان على متنها حوالي عشرون راكبا من كلا الجنسين، فضلا عن أكياس مكدسة بالعلف المخصص للدواب والماشية وبالخبز اليابس الخاص بالدواجن والكلاب، أضف إلى ذلك كله قفف وحاويات مملوءة بكل ما هو نافع ومفيد لإقامة أود الإنسان،لهذا كله، لم أجد لي مكانا آمنا وسط الركاب فاكتفيت بالتمسك بمؤخرة السيارة.

 انطلقت العربة ودارت عجلاتها بصعوبة على أسفلت الشارع الرئيس في اتجاه مدخل القرية الذي بني على شكل قوس النصر. على بعد أمتار معدودة، انعطفت العربة إلى اليسار تاركة وراءها الطريق المعبدة لتسلك طريقا أخرى غير معبدة تؤدي رأسا إلى بلدة تانسيفت حيث المدرسة المركزية ومقر إدارة المجموعة المدرسية التي سميت باسم البلدة نفسها. كانت الهيئة الميكانيكية للعربة تهتز بقوة من حين لآخر بفعل الحفر والأخاديد التي تتوسع وتتعمق بفعل مياه الأمطار المتدفقة من كل جانب.. عند كل هزة ترتج الحمولة بكاملها وتصدر عن الركاب همهمات وتأوهات تعكس خوفهم من انقلاب العربة وتوقفها في هذا الخلاء تحت وابل المطر.

 وبحكم أن المنطقة جبلية، فقد تقاطعت الطريق مع أودية ذات صبيب مرتفع، عنيف تياره. كان السائق يضغط على الكابح كلما صادف أمامه سيلا جارفا، هو يعلم أن محرك سيارته عفا عليه الزمن وأصبح على قد الحال وأن عربته لا حول ولا قدرة لها على تخطي السيل الهادر سيما وعلى متنها حمولة بهذا الوزن الثقيل… لكل ذلك كان السائق يتوقف من حين لآخر ويتوسل من بعض الرجال النزول لتخفيف العبء عن السيارة ومساعدتها على اجتياز السيول عن طريق دفعها من الخلف.

نزلت مع النازلين ودفعت مع الدافعين.. كنت قبل ذلك قد خلعت زوج حذائي وأودعته لدى أحد الركاب ثم ثنيت طرفي بنطالي إلى مستوى الركبتين..غاصت قدماي في الماء البارد المائل لونه إلى البياض نظرا لاختلاطه بتربة الكلس الموجودة بكثرة في هذه المنطقة.. استحليت الوضع ووجدته مسليا.. ابتلت ثيابي عن آخرها وتسرب الماء إلى جسمي الذي قاوم البرودة بفضل الحرارة التي اكتسبها من العدو خلف السيارة..وبينما أنا على هذا الحال، لاحظت أن قطرات المطر تنزل مصحوبة بضفادع صغيرة رأت النور لأول مرة في عنان السماء بين الغيوم الداكنة.

مرت على ذلك اليوم أيام وأيام.. صحت الأجواء ولاحت تباشير الربيع في الآفاق، دخلت البلاد في حرب معلنة على جحافل الجراد التي تأتي على كل ما هو نبات أخضر تصادفه في طريقها.. سمعنا في نشرات الأخبار أن خطر الجراد قادم إلينا لا محالة من دول الساحل الغربي لأفريقيا.. تناسلت الحكايات عن هذه الحشرة المجنحة وتضاربت الآراء حول قدرتها على الطيران وطي المسافات في أزمنة قياسية، وكيف أنها قابلة لأن تؤكل بعد سلقها في الماء المغلي شريطة أن تكون بمنأى عن تأثير الملوثات.. وفي يوم من الأيام، تأكدت من المخاوف وقد تجسدت أمامي بشكل ملموس حيث شاهدت بأم عيني انطلاقا من ساحة فرعية الفكارة، التي أصبحت الآن مدرسة مركزية، أسرابا كثيفة من الجراد غطت مساحة فسيحة من الفضاء بحيث حجبت جزءا كبيرا من السماء عن ناظري وخيمت ظلالها على المدرسة وكأن الغسق حل قبل الأوان.

مر السرب الكبير فوق المدرسة دون أن تحط ولو جرادة واحدة منه على أشجار اللوز اليانعة المغروسة في بستان صغير يقع وراء المدرسة غير المسيجة.. السبب في ذلك يكمن في أن أسراب الجراد كانت مطاردة من قبل جرادة فولاذية كبيرة تحدث صوتا يصم الآذان؛ أعني بها مروحية مجهزة وجاهزة لنفث الغازات السامة على الجراد اللعين.. تم القضاء نهائيا على أسراب الجراد التي غزت بلادنا.. وضعت الحرب أوزارها، فعادت الحياة في الدوار الى حالتها الطبيعية واستأنف المزارعون نشاطهم وهم مطمئنون على مغروساتهم ومزروعاتهم.

السنة الدراسية على وشك أن تنتهي.. عاد الدفء إلى البيوت وعرضت نساء الدوار الأفرشة والأغطية لأشعة الشمس.. الهدوء يعم هذه الناحية وصمتها يشبه صمت القبور.. لا شيء يكسر سكون المكان ما عدا الدورات التي اعتاد رجل من الدوار القيام بها حول منزل طيني فسيح الأرجاء.. كان الرجل يظهر ويختفي.. يظهر كلما بلغ واجهة المنزل ويختفي عندما ينعطف من الجهة اليسرى للمنزل وهو يخطو بهمة ونشاط لإتمام دورته المعتادة.. في بادئ الأمر، اعتقدت أن الرجل الطويل القامة يدور حول المنزل وهو يتمشى امتثالا لنصيحة الطبيب الذي وقف - ربما - على أن مرض السكري يتربص في بدايته الأولى بالرجل، لكن الحقيقة هي أن الأخير كان مصابا بحالة من الجنون المؤدي للموت.