ماذا لو عاد كل منا إلى ذلك اليوم الذي سبق إعلان حالة الطوارئ في فلسطين الذي سببته الكورونا؟
طلاب منغمسون في كتبهم بين امتحانات نصفية وواجبات بيتية، أصوات البائعين تعلو في الشوارع ليعرض كل منهم بضاعته، عامل يستيقظ من الخامسة صباحا ليركض وراء لقمة العيش، عروس تحلم بيوم زفافها القريب وتحضر بكل شغف له من اختيار الفستان ومصفف الشعر وكل التفاصيل الأخرى، طلاب جامعات في فصلهم الأخير يحضرون لحفل تخرجهم، ويجربون ثوب التخرج صباحا ومساء كحبة الدواء لهم تماما؛ لتخفف أوجاع الدراسة وقلة النوم ويكون حافزا لهم لِألّا يتوقفوا. في ذلك اليوم الذي يسبق الطوارئ، كنا نردد "ما أسوأ الروتين!".. "ما هذه الحياة المملة".
جاء ذلك اليوم الذي بدأت تظهر فيه حالات مصابة بفيروس كورونا في فلسطين. أهي مزحة؟ أهو خبر صحفي كاذب لجلب المشاهدات؟
أصبحت الأسئلة تتصارع في أذهاننا وكأننا كنا نستبعد وصول ذلك الوباء اللعين لنا بعد انتشاره في الصين البؤرة الأولى للمرض في العالم.
كنا نخوض الواقع إلى ذلك اليوم، الذي دخلت فيه الدولة إلى عالم المجهول بعد إعلان إصابة أربع حالات بفيروس كورونا في فلسطين وهم سياح من الخارج وتم إعلان حالة الطوارئ بعدها. دول تتسابق في الدخول إلى ذلك العالم من دون أن تشعر أو تحسب حسابا إلى خوض ذلك السباق. أعداد المصابين تزداد، يتبعه انهيار في الاقتصاد، كوادر طبية على أهبة الاستعداد، وطواقم أمنية تقف بالمرصاد، والحجر المنزلي هو الخيار وعليه كل الاعتماد.
بدأت دولة فلسطين بحكومتها باتخاذ إجراءات صارمة بحق نفسها وحق الشعب من أجل الشعب؛ لتحارب ذلك الكائن الخفي المجهول والذي يجرنا إلى المجهول، فلم يكن بيدها سوى التطلع إلى الأسباب التي تؤدي لانتشار الفيروس وسد الثغرات وتجنبها؛ فأغلقت المحلات، ومنعت التجمعات. أُلغيت حفلات الزفاف، أغلقت الحدود أمام المسافرين، تم حجر كل من يعاني من أعراض وإجراء الفحوصات اللازمة له. توقف العمل، وبقي الأمل. فالوقاية خير من قنطار علاج، فماذا لو لم يكن هناك علاج؟
وبعد سد معظم البؤر التي تنشر المرض، خرجت بؤرة عن السيطرة، ألا وهي بؤرة العمال الفلسطينيين الذين يعملون داخل الخط الأخضر، والذين رفض معظمهم الالتزام والبقاء في بيوتهم وأصروا على الذهاب والنوم في أماكن عملهم، ومنهم من يذهب ويعود كل يوم. فالغريب أن الاحتلال الإسرائيلي رغم تفشي المرض لديه إلا أنه لم يتخذ أي إجراءات تحد من انتشاره، لا بل إنه لم يتم إغلاق الحواجز (المعابر) أمام العمال الفلسطينيين؛ رغم أن المستوطنات الإسرائيلية والتي تعج بالعمال الفلسطينيين هي أحد أكبر ينابيع الفيروس في الداخل الفلسطيني. ويبقى السؤال، ما السبب وراء عدم أخذ هؤلاء العمال الموضوع بجدية؟ ولماذا لم يتوقفوا عن العمل ليجلسوا في بيوتهم إلى حين انتهاء الأزمة؟ أهو الجهل؟ هل هو عدم إدراك حجم المصيبة التي اجتاحت الكرة الأرضية من شرقها لغربها، وشمالها لجنوبها؟ أم أنها لقمة العيش الصعبة المرة؟ ومن يتحمل مسؤولية جوعهم إن جلسوا في بيوتهم؟ وماذا بعد أن أصبح العامل الفلسطيني مصدر خوف وقلق وخطر لمن حوله؟
رغم ضعف الإمكانيات في بلادنا مقارنة بدول العالم الأول والثاني أيضا إلا أن حكومتنا أثبتت أنها تسير بالاتجاه الصحيح، بعقل حكيم تحاول إنعاش ذلك الجسد الذي توقف قلبه مؤقتا.
كم هو مقلق السير في عالم مجهول، تفتح عينيك كل يوم لانتظار البيان الرسمي بعدد المصابين الجدد، وتتلهف من جهة أخرى بكل شغف لسماع حالات شفاء. يأكل خلايا دماغك التفكير، آلاف الأسئلة في دماغك ولا إجابة لها، إلى متى هذا الحال؟ ماذا لو استمر الوضع لفترة طويلة ودخلت عائلات كثيرة إلى خانة الفقر؟ وهل سينهار نظامنا الصحي ذو الإمكانيات المحدودة لو استمر العدد بالازدياد؟ متى سنجد ذلك اللقاح الذي يقضي على هذا الفيروس؟ متى تعود الحياة كما كانت؟ فقد اشتقنا لتلك الحياة الروتينية المملة، متى سنسلم على جيراننا ونحضن أصدقاءنا، ونلتقي كل من نحب؟ متى ستلبس العروس طرحة زفافها ويلبس الخريج قبعة تخرجه؟ وتعود أصوات الباعة تملأ الشوارع؟ والمساجد تكتظ بالمصلين؟ إلى أين يذهب بنا هذا المجهول؟ وهل ستبقى الدول العظمى عظمى؟ هل سيبقى الأقوى هو الأقوى؟ هل كانت تلك حرب بيولوجية كما يقولُ البعض أم أنه مجرد فيروس طور من نفسه دون تدخل بشري؟ هل سيحدث هذا الكائن معجزات لم يستطع أن يحدثها العالم خلال سنوات وسنوات؟ هل سيسطر العام ٢٠٢٠ نقطة انتقالية في كل الوقائع والمجريات؟ هل سيغير هذا الفيروس كل شيء وتخلده الصفحات الأولى من كتب التاريخ في العصور القادمة؟
وبالنهاية متى نخرج من المجهول ونعود إلى الواقع؟
ربنا إننا ننتظر الخير، فلا يأتِ منك إلا الخير.