الأحد  22 كانون الأول 2024

الفيلسوف لوي ألتوسير.. تفاصيل قتله زوجته إيلين ريتمان (الحلقة 4 )

​ترجمة: سعيد بوخليط

2020-06-09 09:30:32 AM
الفيلسوف لوي ألتوسير.. تفاصيل قتله زوجته إيلين ريتمان (الحلقة 4 )
الفيلسوف لوي ألتوسير


 

تقديم:

توفي الفيلسوف الماركسي اللامع، لوي ألتوسير يوم 22 أكتوبر 1990، بعد أن راكم متنا نظريا مهما، بوّأه مقاما، ضمن أهم فلاسفة ومفكري القرن العشرين، الذين أحدثوا نقلة نوعية على مستوى تاريخية المفاهيم. كلنا، يعلم إضافاته الرصينة إلى الأدبيات الماركسية، بعد إعادة قراءته الثاقبة للمتن الماركسي وكذا التأويلات المنهجية الجديدة التي رافقت هذه القراءة، في أفق إخراج النظرية من عنق زجاجة التمثل الأرثوذوكسي، العقائدي الجامد، كما عانته الماركسية داخل تنظيمات اليسار التقليدي، لا سيما في أوجهها الستالينية، والبحث عن الآفاق الرحبة التي تفتحها المقاربات الإبستمولوجية. مستفيدا من مؤلفات باشلار وفرويد وستراوس ولا كان والبنيوية.

بيد، أنه لا أحد من تلامذة ألتوسير وطلبته وأتباعه وعشاقه، بل خاصة المدرسة الفلسفية الفرنسية، واليسار الفرنسي، قد توقع لوهلة،صيرورة عبقريته الأريبة إلى تلك النهاية المأساوية، بعد الحادث الذي جرى يوم 16 نوفمبر 1980، حينما قتل زوجته إيلين ريتمان داخل شقتهما المتواجدة بالمدرسة العليا للأساتذة بباريس، جراء إصابته بحالة جنون حادة، مما شكل انقلابا في مصير الرجل، لم يكن واردا بتاتا في الحسبان.

 يقول: "لقد قمت بخنق زوجتي التي جسدت لديّ كل العالم، إبان أزمة عصبية طارئة، شهر نوفمبر 1980 نتيجة خبل ذهني. زوجتي، التي أحبتني إلى درجة أنها توخت الموت، متى عجزت عن تحقيق ذلك. بلا شك، لحظة جنوني وبممارسة لا واعية ''قدمت لها، هذه الخدمة، وماتت دون أن تدافع عن نفسها".

حيثيات القضية، سيتطرق إليها، ألتوسير عبر صفحات سيرته الذاتية، التي جاءت تحت عنوان: ''المستقبل يدوم طويلا''، الصادرة عن منشورات ''ستوك" سنة 1992، فترة بعد وفاته… 

من خلال هذه الحلقات الطويلة، سنصغي ثانية إلى ألتوسير وهو يروي بدقة متناهية، على لسانه الوقائع التراجيدية، إبان صبيحة ذلك اليوم من أيام بداية سنوات الثمانينات.

                     الفصل الرابع:

خلال كل الوقت الذي قضيناه في الجزائر غاية 1930 ،احتفظتُ بنظامي ذكريات لاتطاق غير أنهما متضادتين لحسن الحظ.تلك المتعلقة بأمي وأبي،اللذين اقتسمت معهما الحياة الأسروية وكذا المدرسة التي أدرس فيها،ثم ذكريات أخرى تعود إلى جدي وجدتي من جهة أمي، طيلة مدة إقامتهما داخل المنزل الغابوي الكائن بغابة بولون.

أقدم ذكرى أحتفظ بها عن أبي (لكنها "مبكرة'' جدا بحيث لا تعكس بالتأكيد سوى ذكرى عاكسة أعدت تركيب تفاصيلها فيما بعد)، إنها نفسها لحظة عودته من فرنسا،ستة أشهر بعد نهاية الحرب. هذا ما رأيته أو اعتقدته كذلك. أشعر بالخجل،نتيجة بروز فاحش لثديي أمي، المنكشفتين تقريبا، وهي مبتهجة،تمسكني على ركبتها، حينما انفتح باب الطابق الأرضي، الذي يقود صوب الحديقة الكبيرة، ثم غاية لانهائية البحر والسماء: ينبعث من إطارها، على خلفية هواء الربيع،طيف رشيق وشاهق جدا، ثم خلفه، فوق رأسه، بين مرتفعات السحب، ينبعث الدخان الأسود الطويل لمنطاد ديكسميود الألماني، الذي استسلم لفرنسا بسبب اضطراره إلى إصلاحات، ثم خلال لحظة احتراقه وتناثر شظاياه في البحر. لا أعرف متى، ولا خاصة كيف، أمكنني، بعد ذلك مباشرة، تركيب أو إعادة تركيب هذه الصورة، بحيث ظهر أبي بين طيات رمز جلي جدا، جنس ثم موت بسبب كارثة المنطاد. لكن هذا التداخل، حتى ولو تشكل بكيفية بعدية، فينطوي بالتأكيد على أهميته، مثلما سنرى، بمعية إشاراتي الافتتاحية.

كان أبي شخصا طويل القامة (1.84)، وصاحب وجه وسيم طويل أيضا، يتوسطه أنف دقيق وجميل الشكل (إمبراطور روماني)، يزينه شارب دقيق احتفظ بشكله غاية موته، منتصب القامة يتنفس ذكاء ومكرا. في الواقع، ميزه ذكاء شديد ولم يكن فقط صاحب ذكاء عملي. يتجلى ذلك في تجارب مهنته، ما دام، أنه بدأ مسيرته كعامل توصيل بسيط في بنك متأبطا شهادة دراسية وحيدة، ثم اجتاز مختلف درجات الشركة الجزائرية، التي ضمها فيما بعد بنك الاتحاد الباريسي، وكذا مصرف الشمال. ثم انتهى المسار بأبي، مديرا عاما للفروع المغربية للشركة الجزائرية، ومديرا للموقع الأهم المتواجد في مدينة مرسيليا، بعد مرحلة مزدوجة، أولا في مرسيليا كوكيل مفوض، ثم نائبا للمدير في مدينة ليون. نتيجة كفاءته وذكائه فيما يتعلق بالقضايا المالية والتجارية، دون الحديث عن تقنيات تنظيم الإنتاج (كان يحب التوجه إلى عين المكان وفهم كيفية سير مختلف الأعمال التي سيشرف عليها بنكه) حظي بتقدير كبير من طرف رؤسائه في باريس، من هنا سبب ترقياته وتنقلاته المتواصلة ورحلاته (بين الجزائر، مرسيليا، الدار البيضاء، ليون) التي فرضها علينا نحن أفراد عائلته الصغيرة وكذا تغييرنا الدائم لأماكن إقامتنا، وضع جعل أمي لا تكف عن إبداء امتعاضها علانية لكل من أراد الإصغاء لها: بخصوص هذا الموضوع أيضا، استمرت الشكوى قائمة بحيث عانيت من ذلك بشكل فظيع.

أبي، سلطوي جدا في جوهره، مستقل على جميع الواجهات، وربما خاصة ما يتعلق بنا، فقد فصل نهائيا بين المجالات والسلطات: لزوجته البيت فقط والأطفال، ثم خصص لنفسه العمل، المال والعالم الخارجي. كان دائما شرسا، بخصوص هذا التقسيم. أبدا، لم يبادر بأي شيء يهم شؤون منزلنا أو ما يتعلق بتربيتنا. في هذا الإطار، امتلكت أمي مختلف السلط. مقابل ذلك، لم يكشف قط إلى أفراد عائلته عن مهنته ولا كذا علاقاته الخارجية (باستثناء اثنين من أصدقائه تعرفنا إليهما بواسطته، حيث اصطحبنا أحدهما ذات يوم بسيارته غاية ثلوج جبال الشريعة). ولن يشرع أبي، في الإفصاح سوى قبل ستة أشهر عن لحظة وفاته، في البيت الصغير المتواجد في منطقة فيروفلايViroflay المكان الذي اختاره لتقاعده. يلزم القول، بأني من تحلى بالجرأة! على سؤاله، وإن حدث ذلك متأخرا، فضلا عن كونه قد استشعر بأن النهاية دقت، و''الانهيار'' على حد قوله. لقد أخبرني أولا، بأنه عرف منذ زمن طويل مآل مساره المهني في البنك.  

حينما كان أبي في ليون فترة بدايات حكومة فيشي (غاية 1942)، رفض المشاركة في جمعية مصرفيين تمجد الثورة الوطنية. أيضا في المغرب، حينما أقسم الجنرال جوان Juin بأن يجعل محمد الخامس "يلتهم القش"، فقد جسَّد أبي، حينئذ، الشخصية الأكثر أهمية داخل البنك المغربي، وبينما جماعة مدراء البنك أظهروا تملقهم إلى المقيم العام، فقد أبدى أبي علانية على مرأى ومسمع من الجميع، تحفظا لا لبس فيه. حينما تقاعد، تراكم لديه ما يكفي من الكفاءة، والتجربة وكذا الألقاب، معطيات تحتم على المدير العام لباريس ضرورة إصدار قرار بضمه إلى جماعته، مثلما جرت عليه الأعراف ومقتضيات المصلحة: ''أعرف بأنهم لن يبادوا قط إلى اتخاذ موقف من هذا القبيل، فلم أكن من أفراد العائلة، ولا من خريجي مدرسة البوليتكنيك، ولا بروتستانيا ولا متزوجا من إحدى بناتهم". اكتفوا بشكره دون النبس بأي كلمة. مع أنه امتلك كفاءة كبيرة وكذا سعة رؤاه! عندما سألته، ذاك اليوم، حول الظرفية الاقتصادية والمالية، فقد سرد أمامي الرجل المسن جدا، وقد أضحى جسده منكسرا لكن فكره صافيا، عرضا مدهشا حول الوضعية المالية والاقتصادية، لكن أيضا السياسية، فأدهشني بذكائه، وتبصره، وإدراكه للقضايا والنزاعات المجتمعية. أيّ إنسان هذا قد عشت إلى جواره، دون أن أحدس الوضع! بل احتفظ لنفسه بالصمت طيلة حياته، ولم أتجاسر قط على استفساره، وتحريضه كي يتحدث عن نفسه. بيد أنه، حتى لو فعلت، هل كان سيجيبني؟ يلزمني خاصة الاعتراف بأني كرهت أبي لفترة طويلة نظرا لما سببه من معاناة لأمي، وأيضا بالنسبة إلي.

مع ذلك في مارسيليا بعد الحرب، صادفت ذات مرة، حينما حضرت إلى لقائه في مكتبه، قدوم مجموعة من مساعديه كي يقدموا له بعض الملفات. لقد اشتهر دائما بكونه يحسم قراراته. يتصفح الأوراق والملفات، في صمت وتؤدة، يرفع رأسه ويتوجه ببعض الكلمات إلى الشخصين الماثلين أمامه. بعض الكلمات عالقة بين أسنانه، نصف مبهمة وبالنسبة إلي غير مفهومة تماما. يغادر مساعدوه القاعة، دون أن يطلبوا شيئا.

-"لكنهم لم يفهموا شيئا !

-لا تقلق أبدا بشأنهم، سيفهمون! ".

هكذا، صدفة، علمت كيف يدير أبي بنكه. وقد أكد لي فيما بعد هذا الانطباع أحد معاونيه السابقين حينما التقيته في باريس: ''بالكاد نستطيع فهم  والدكم، في أغلب الأحيان نتركه دون أن نتجرأ على أن نطلب منه تكرار جملته. بعد ذلك، ما علينا سوى التصرف!". هكذا يدير أبي الأمور: دون أن يصير مفهوما حقا، طريقة ربما تسمح له بجعل مساعديه أمام مسؤولية يدركون أنها خاضعة للعقاب، لكن طبيعة ذلك غير محددة بوضوح. بدون شك يعرفون طبيعة عملهم، وبالتأكيد تتلمذوا خلال فترة طويلة داخل مدرسته، وحتما يعرفون كفاية أبي حتى يستوعبوا نزوع أفكاره. بل إن سائقه نفسه عجز عن فهمه دائما حينما يتعلق الأمر بمسار جديد! هكذا عَكَسَ أبي نموذج شخص، طيب لكنه سلطوي بل وملغزة غمغماته، اعتاد عليها موظفوه، وصاروا بجفاء موجهين، كي يستبقوا مضمون قراراته التي كانت غالبا غير واضحة. مدرسة صلبة بخصوص ''إدارة الناس"، لم يتخيلها ميكيافيلي نفسه، وكان نجاحه في هذا المضمار مدهشا. بعض مساعدي أبي القدامى الذين صادفتهم بعد وفاته، أكدوا لي نهجه الغريب وتجليات ذلك. لم ينسوه وتكلموا عنه بتقدير يلامس الورع: كان مختلفا عن الجميع: ''نموذج قائم الذات''.

لا أعرف أبدا طبيعة الحيز الذي يشغله الوعي القصدي أو التردد الباطني، بل والغثيان، ضمن سلوك أبي في علاقاته مع الآخر بل ونفسه. تآلفت كل كفاءته وذكاؤه مع انزعاج دفين يعبر عنه بجلاء أمام الآخرين، مع مخزون على مستوى المبدأ وليس الفعل، يستند على تردد مترسخ في الروح. فهذا الرجل السلطوي، المنساق أحيانا خلف دوامة انفجارات عنيفة، كانت عباراته في نفس الوقت وبلا ريب معطوبة بنوع من العجز للظهور أمام الآخر، خوف جعل منه متحفظا وكذا عاجزا بخصوص التعبير عن قراراته بكيفية واضحة. فضلا عن ذلك، تقوم بالتأكيد قناعة أخرى صامتة في ذاتها، تعود إلى أصوله الفقيرة. بدون شك، هذا الحذر بدون تعبير واضح، جعل منه الشخصية الوحيدة سواء في ليون أو الدار البيضاء، التي لم تستدرجها لعبة الفئات المنغلقة وكذا المتسيدين خلال تلك الحقبة. تأملوا أين تقوم في نهاية المطاف النزاعات و التعارضات الطبقية.  

لقد طال حديثي عن هذا الأمر، لأن أبي يهيئ لنا نفس المصير داخل المنزل. هكذا قرر استثناء التخلي لأمي عن مهمات البيت، والتربية، وحياة الأطفال اليومية ومختلف الحيثيات المرتبطة بسياق ذلك: اللباس، العطل، المسرح، الموسيقى، لا أدري؟ أبدا لم يتدخل-وإن حدث فنادرا جدا- سوى وفق دندنات مقتضبة وفقط من أجل إبراز مزاجه السيئ. نعرف على الأقل بأنه حانق، لكن لماذا؟ لا ندري قط. لقد ميزه ولع حقيقي نحو أمي وهي حبيسة واجباتها المنزلية "مدام ألتوسير المفعمة بالحياة!" مثلما أحب تكرار ذلك في كل مناسبة، خاصة حين تواجد طرف ثالث، مستعيدا كلمة مديره في الجزائر، السيد رونجيير، الذي عرف كيف يدرك تميزه، وكان يبادله الاحترام. على العكس منه، لم تتوقف أمي عن التحدث دون احتراس ولا رقيب، بعفوية لا واعية و طفولية، ولاندهاشي الكبير (وخجلي أيضا)، كان أبي يخرج كل تلك التفاصيل إلى العموم. ولا يتفوه بأي شيء، سواء إلي أو أختي. وبدل أن يشبع تطلعاتنا، كان يرعبنا بصمته الذي يتعذر الفصل فيه، عموما كان يشعرني بالذعر.  

أدهشني أولا بجبروته، ضخما وقويا. مثلما أعرف بأنه احتفظ في دولابه على مسدسه (موديل1892)، ثم أرتجف حينما ترد إلى ذهني إمكانية اضطراره إلى استخدامه في يوم من الأيام. مثلما حدث تلك الليلة في الجزائر، فلكي يخرس ضوضاء جيران طابق سطح الدرج، فقد سيطرت عليه أقصى درجات الهيجان، ونوبات صراخ جنوني مصحوب بدقات طنجرة ثم مشهرا سلاحه. كنت أرتعد خوفا من احتمال أن ينتهي الموقف بمجابهة جسدية وكذا طلقات النار. ولحسن الحظ أو جراء الخوف، فقد ساد الصمت فجأة.

ليلا، يصدر غالبا جدا، حين نومه عواء مخيفا لذئب مُطاردِ أو نباح لا متناه، يميزه عنف لا يطاق، تلقي بنا أسفل السرير. ولا تستطيع أمي إيقاظه من كوابيسه. هكذا صار الليل رعبا بالنسبة إلينا، وبالخصوص أنا، بحيث أعيش باستمرار تبعا لهذا الخشية من تلك الصرخات التي يصعب تحملها، ويستحيل قط أن تمحوها ذاكرتي. ثم، فيما بعد، عندما أخذت جراء العدوان الأخير، جانب الدفاع عن أمي الضحية ضده، حينما تبين لي بما يكفي، أنها تعرضت لاستفزازه، ينهض واقفا، مغادرا الطاولة قبل إنهائه الأكل، متلفظا بكلمة واحدة ''اللعنة!'' يصفق الباب ثم يختفي طيلة الليل. يلفنا قلق فظيع، أو على الأقل يلفني: لقد ترك أمي، لقد تركنا (تبدو أمي غير مكترثة): هل ذهب بغير رجعة؟ هل سيعود ثانية أو يختفي إلى الأبد؟ لم أكن أعلم أبدا طبيعة ردة فعله بناء على سياق، من هذا القبيل، بالتأكيد سيهيم ليلا في الشوارع. لكن خلال كل مرة، وفي غضون فترة زمنية معينة تبدو لي طويلة الأمد، يعود إلى المنزل، دون أن ينبس ببنت شفة وتحديدا نحو فراشه أساسا. لقد تساءلت دائما مع نفسي بخصوص ما يمكن أن يقوله بعد ذلك، أبي إلى أمي، المعذبة، بل مجرد أن يقول لها شيئا. أظنه بهذا الخصوص عاجزا تماما. وقبل انفجاره مثلما بعد ذلك، نجدنا أمام نفس الشخص، العاجز عن التعامل معنا بكيفية مختلفة، غير الاكتفاء بتحريك رأسه بصمت وعلانية. ثم ينتهي المشهد.

غير أنها صورة، لا تمثل سوى جانبا من الشخصية. فعندما يلتقي أصدقاءه (شخصيات نادرة عرفناها)، بعيدا عن هواجس العمل، ينقلب إلى  صاحب سخرية لاذعة لا تقهر. يلعب معهم، يراكم مهارات الذهن وكذا سلسلة مزاحات مستفزة، تضمر دائما تقريبا إيحاءات جنسية، مع إبداع عجيب، تضع محاوريه ضمن بوتقة ضحكه، ضحك متواطئ وأيضا مزعج: لقد كان قويا جدا ولا شخص يملك سلطة إبداء الكلمة الأخيرة أمامه. لا شخص، خاصة أمي، يستحيل بالنسبة إليها اقتحام عالمه أو مماهاة هجوماته. أسلوب، شكَّل لديه أيضا دفاعا، قصد تحاشيه قول ما يفكر فيه أو يريده، ربما لعدم معرفته حقا ما يريده، ولا يريد، خلف الحجاب الشفاف لسخرية مطلقة العنان، سوى أن يخفي انزعاجا وغموضا عميقين.

لقد أحب، فضلا عن ذلك، لعب كل شيء مع نساء أصدقائه، أيّ مشهد ! أحس بمعاناة أمي وهي تتابع مجلسا فاضحا إلى ذلك الحد. كان خاصة منجذبا إلى زوجة أحد زملائه في المكتب، من زملائه النادرين الذين عرفناهم. تدعى سوزي، امرأة في غاية الجمال، منشرحة، واثقة من مفاتنها وسعيدة لكونها مغرية على ذلك النحو. هكذا، وأمام أنظارنا، يندفع نحوها أبي، فتكون مبارزة ماجنة لامتناهية تنتقل بسوزي نحو عالم مفعم بالارتباك، والضحك والسعادة. أتألم في صمت من أجل أمي ثم بخصوص الفكرة التي يلزمني تأطير أبي ضمنها.

في واقع الأمر، كان هذا الرجل القوي في العمق شبقا، يعشق النبيذ وشرائح اللحوم المشوية قليلا، بنفس حدة عشقه للنساء. حينما ذات يوم، ونحن مدينة مارسيليا، حينما انجذبت أمي نحو شخص يدعى الدكتور أومو، استمال سذاجتها أيضا بعقله المميز. امتلك منزلا ريفيا رائعا وسط حدائق مزهرة شمال المدينة، حيث يهتم بزراعة خضروات نظامه الغذائي، ويتبنى نظاما نباتيا خالصا (يسوق تلك المواد في أوعية صغيرة تحمل اسمه ويبيعها بوتيرة مقبولة وبسعر مرتفع). إذن، بسبب هذا الشخص ألزمتنا أمي، أنا وأختي، بشكل سلطوي بنظام غذائي نباتي أساسا، ثم استمر الوضع طيلة ست سنوات تماما! لم يبد أبي أي اعتراض، لكنه يطلب كل يوم، قطعة لحم نصف نيئة. كنا نتناول، أمامه علانية، وهو يقطع بتؤدة قطعة لحم، أطباق الكرنب، والكستناء ثم مزيج من العسل واللوز، حتى نبين له بكيفية واضحة استنكارنا المشترك. ويحدث معي إذن، الاستهزاء منه ومهاجمته بأقصى درجات العنف : لا يجيبني قط، لكن يحدث أن تصدر عنه كلمة ''اللعنة !'' .

بالتأكيد، يلتمس أبي أحيانا ودِّي. يصطحبني بالمناسبة إلى الملعب، حيث يحب ولوجه، دون تسديد ثمن التذكرة، ما دام المراقب موظفا يشتغل عنده في البنك، يزيد شيئا ما في مدخوله حينما يفحص معه الإيرادات. لقد كنت مفتونا بقدرته على ''التدليس''. غير أني لم أجرؤ قط لمجرد التفكير في ذلك، وقد تلقيت من طرف أمي وكذا أساتذتي، المبادئ الكبرى للاستقامة و العفة. أذكر مثالا سيئا، عند مدخل ملعب كرة المضرب، ترك في أعماقي ذكرى فظيعة. دخل أبي إلى الملعب دون تأديته ثمن التذكرة كعادته. أنا خلفه، لا أستطيع الدخول. تركني وحيدا. لكن اقتضى الوضع مني فيما بعد استيعاب كنه مهارته في ''الاحتيال''. يدخل إلى الملعب، أتعقب خطواته، تابعنا أطوار اللقاء، التي جرت في إطار حماس صاخب. أتذكر خلال مرتين، في سان أوجين، تعالت طلقات نارية بين صفوف الجمهور. دائما طلقات نارية! (أيّ رمز هذا) كنت أرتعد كما لو أنها تترصدني.

أيضا أحتفظ من تلك الحقبة بذكرى مرعبة. تلقينا داخل حجرات المدرسة دروسا عن الحروب الصليبية، والمدن المنهوبة المحترقة، وكذا سكانها الذين قتلوا بالسيف: يتدفق الدم نحو مجاري الأزقة. ثم فتك عدد من السكان المحليين بواسطة الخازوق. لقد رأيت دائما في ذلك، صورة واحدة، شخصا  بدون سند يذكر، ممددا فوق خازوق يغوص ببطء من فتحة الشرج غاية جوف بطنه وكذلك قلبه، هكذا  يموت في إطار معاناة فظيعة. ينساب دمه على امتداد الخازوق وعبر ساقيه غاية الأرض. أيّ وحشية تلك! فأنا إذن من يخترقه الخازوق (ربما من طرف لوي (عمي) هذا الميت الذي تواجد دائما خلفي).

أبقيت من تلك الفترة على ذكرى ثانية، استلهمتها من بين صفحات كتاب. يتعلق الأمر بضحية تحتجزها عذرية فولاذية من الأعلى إلى الأدنى، تخترق ببطء عينيها وجمجمتها وقلبها، مسامير دقيقة وصلبة. فأنا من كنت مسجونا في جوف تلك العذرية الفولاذية. كم متوحش هذا الموت البطيء! أرتعش لفترة طويلة ثم أحلم بذلك ليلا. سيتم تصديقي إن أرادوا،لكني لاأمارس هنا كما في موضع ثان ''التحليل الذاتي''، وأترك هذا الشأن لكل أذكياء "النظرية التحليلية'' قياسا لهواجسهم واستيهاماتهم الخاصة بهم. أروي فقط مختلف ''المؤثرات الأولى''، التي وسمت حياتي دائما، في صيغتها البدئية ثم تدرجها المابعدي.

مرة أخرى، وأظنها الإشارة الأخيرة، يتعلق الأمر بأبي، هذا الرجل العائد من الحرب محملا بالعديد من الصور عن سلاح المدفعية، حيث نراه دائما منتصبا أمام مدفع ضخم، وقطع أسلحة ذات مدى طويل، ينقلني إلى بلدة القبة وتحديدا وجهة موقع عسكري للرماية. وضع على كتفي بندقية حرب ثقيلة. أحسست بثقل الحمولة الرهيبة، جراء ذلك، فوقعت ساقطا على ظهري وسط ضجيج انفجار لا يطاق. بعيدا عن الأعلام التي ترفرف دليلا على أني قد أخفقت  الهدف. كنت أبلغ من العمر تقريبا تسع سنوات. كان أبي فخورا بي. بينما أنا مذعور دائما. 

لكن فيما بعد، حينما نجحت سنة 1929 (في ذيل اللائحة، مع أني كنت تلميذا متفوقا) في مباراة ''المنح الدراسية"، سألني لحظتها أبي عن طبيعة الهدية التي يمكنني التطلع إليها. أجبت بغير تردد "بندقية تسع مليمترات من مصنع الأسلحة والدراجات بسانت-إتيان"، بحيث التهمت سلفا قائمة دليل منتوجاته (عددا من الأشياء التي لم أسمع بها قط ولم أشاهدها، تحفز رغبتي)، ثم حصلت دون تردد على بندقية وخراطيش ورصاص، مع رفض من جانب أمي، لكن أبي ودون أن يناقش ثانية واحدة اختياري المنصب على بندقية، استعملتها ذات يوم حقا بطريقة غريبة.  

أصبحت منذ وقت مبكرا جدا، قويا للغاية، على جميع مستويات الرماية: من إلقاء الحجارة على معلبات فارغة، إلى المقلاع أيضا. حاولت أن أرمي الطيور، غير أن الإخفاق كان دائما سيد الموقف. فقط ذات يوم، في حقل جدي بغابة دو فيل Velle، شرعت أطارد دجاجا أتى لينقر البذور. سددت عن بعد مسافة (عشرين ميترا) صوب ديك أحمر جميل اقترب من سياج الحقل. رميته بمقلاعي، وبرهبة بدا لي، مصابا في صميم عينه، يهتز تألما، يغرز بعنف رأسه في الأرض ثم يفر متجشأ. بقي قلبي يخفق مضطربا طيلة ساعات.  

أما بخصوص تلك  البندقية، فهذا ما حدث بشأنها. لم أستعملها أولا سوى من أجل تجريبها على أهداف كرتونية، وكنت أنجح فعلا. لكن ذات يوم، تصادف أن تواجدنا في  مزرعة صغيرة لنباتات البقوليات، لأن أبي اعتقد من الأفضل الاهتمام باقتناء ملاذات تنتمي إلى مرتفعات منيعة. صرت أطوف الغابات ماسكا ببندقيتي بحثا عن طرائد. فجأة، لمحت تِرغلَّة ثم أطلقت صوبها النار: سقطت، بحثت عنها بلا جدوى وسط نبات السَّرخس اليابس، اعتقدت في العمق بأني أخطأتها، ولم تسقط سوى بكيفية مخادعة، كي تفلت مني. تابعت طريقي، ثم بغتة خطرت لي فكرة، دون مبرر أو بالأحرى دون معرفة لماذا، أنه بعد كل شيء يمكنني السعي إلى قتل نفسي. هكذا وجهت فوهة السلاح نحو بطني ومحاولة الضغط على الزناد، ثم حال بين ذلك نوع من التردد، لم أعرف قط سببه. فتحت إذن مغلاق البندقية: احتوت على رصاصة داخلها. كيف أمكنها أن توجد هناك؟ مع أني لم أدسّها. لم أعرف قط مصدرها. هكذا، غمرني فجأة عرق مرعب، ترتعد كل أطرافي ثم تمددت طويلا على الأرض، أكثر من متأمل، قبل عودتي إلى المزرعة. يتعلق الأمر ثانية بالموت: لكن هذه المرة على مقربة من موتي.        

لا أعرف لماذا تقودني هذه الذكرى صوب أخرى، تالية، تبعث لدي نفس الذعر المفزع. كنت بصحبة أمي، في مارسيليا، غادرنا شقتنا بحي سيباستوبول، وسلكنا كي نختزل المسافة،  طريقا فسيحا تحيط بها جدران عالية. هكذا لاحظنا عن بعد، على الرصيف الأيمن، امرأتين ورجلا. امرأتان غاضبتان، تصرخان، وتتعاركان بعنف. كانت إحداهن منبطحة أرضا، بينما الأخرى تجذبها من شعرها. الرجل، واقفا جانبا، يتأمل ما يجري دون أن يتدخل. حينما مررنا بالقرب منهم فقد أصدر نحونا إنذارا بنوع من الهدوء التام:"انتبهوا، إنها تمسك بمسدس !''. تابعت أمي طريقها، متماسكة، تركز نظرها نحو الأمام، رافضة الانتباه أو الإصغاء إلى أي شيء آخر، فاقدة الإحساس كليا. دون انفعال، لم تنطق بأي كلمة حول الواقعة التراجيدية. كان واضحا فيما يخصني، بأنه موقف اقتضى مني تدخلا. لكني اتسمت حينئذ بالجبن. لقد سادت علاقات خاصة بيني وأمي، وكذا أمي والموت، أبي والموت، أنا والموت. لم أستوعب كليا ذلك، بين طيات تحليلي، إلا بعد فوات الأوان.

أكان أبي حقا أبا لي؟ بالتأكيد، احمل اسمه وتواجد فعلا هنا. لكنه من ناحية ثانية: لم يتدخل قط بهدف توجيه حياتي في أيِّ لحظة من اللحظات. لم يبادر أبدا كي يلقنني تلك الشروط الأولية للدفاع الجسدي، خلال صراعاتي مع أقراني، ثم فيما بعد حينما أصبحت راشدا. بخصوص هذا الفصل، دائما أمي من تتدخل للقيام بالواجب، رغم الفزع الذي يثيره لديها كل ما يتعلق بالجنس. في نفس الآن، أعاد أبي البحث بشكل واضح لكن دائما في صمت عن تواطؤي: بخصوص ممارسته المخادعة مثلما سيحدث فيما بعد عبر تلميحاته إلى علاقاتي النسائية. طبعا، لم يقبل بتاتا الإنصات إلى كلامي عن النساء اللواتي يمكنني معرفتهن، أو ما بوسعي القيام به في هذا الإطار، لكن كلما غادرت المجلس، يلاحق أثري، في حضور أمي الصامتة، بكلمة بسيطة لا تقتضي لا تعليقا ولا جوابا: "حاول أن تجعلها سعيدة!''. ما لمقصود بضمير(ها)؟

بالتأكيد يفهم من السياق دعوته كي أجعل أمي سعيدة! غير أن الأمر لم يكن قطعا كذلك: في العمق، امتلك أبي ما يكفي من الذكاء، كي يضع أبسط تلميح حول هذه القضية. كانت أمي في شبابها امرأة في غاية الجمال، تصغر أبي بإحدى عشر سنة، طفلة أبدية مرت بلا تمهيد من وصاية أبويها إلى وصاية زوجها، دون تجربة حياتية تذكر، سواء مع الرجال أو النساء: يسكن قلبها  حنين وحيد وأبدي، ذكرى لوي (عمي)، هذا الخاطب الطويل القامة الذي قتل أثناء التحليق بطائرته، وكذا المدرِّسين الذين احتكت بهم خلال مهنتها العابرة، والتي أنهى مسارها أبي فجأة. كانت لها أيضا، في الجزائر، صديقة وحيدة شابة، اسمها جورجيت، تقاربها عمرا، بنفس شفافيتها، أصبحت طبيبة، لكن فجأة اقتلعها داء السل من الحياة. حينما وُلدت أختي، فقد منحتها أمي بشكل طبيعي لقب صديقتها المتوفاة: جورجيت. استعارة أخرى للقب الموت.

 أمي قصيرة القامة، شقراء، وجه متناسق الملامح، وثديين في غاية الروعة، بحيث أستعيد تذكرا شكلهما، بمعنى استعادة صورتهما، بنوع من الرفض. بالتأكيد أحبتني بعمق. كنت الطفل الوحيد الذي أخرجه، جسدها، بفخر. حينما، ولدت أختي، سأوكل إلى نفسي مهمة التعهد بها طيلة الوقت، ومداعبتها وفيما بعد الإمساك بيدها كي أعبر بها الشوارع تبعا لكل الاحتياطات اللازمة، وفيما بعد أيضا الحرص عليها خلال مختلف أطوار الحياة. أقوم بهذا العمل  بصدق، حسب العناية الضرورية، مهمة طفل ومراهق ارتقى لمهمة رجل يافع، بل وفي موقع أب (كان لأبي بخصوص أختي زلات أثارت غضبي، وأتهمه صراحة بمحاولات ارتكاب زنا المحارم حينما يضعها على ركبتيه بطريقة بدت لي فاحشة)، مهمة وقياسا للجسامة التي اكتستها، يلزمها أن تكون شاقة بالنسبة إلي وأنا طفل صغير  أو مراهق.

لا تتوقف أمي أن تشرح لي بأن أختي رخوة (مثلها بالتأكيد)ل أنها امرأة، وما زلت أحتفظ في ذهني بذكرى أخرى بذيئة أزعجتني وأغضبتني. كنا في مارسيليا، وأمي تغسل لأختي عارية في مغطس البيت. وأنا كذلك عار تماما، أنتظر دوري. أسمع أمي تقول لي: "كما ترى، فأختك كائن هش، لذلك تعتبر أكثر تعرضا للميكروبات مقارنة مع صبي" ثم تصل القول بالفعل كي تبين الأشياء بكيفية ملموسة: "أنت تتوفر فقط على ثقبين في الجسد، بينما أختك فلها ثلاثة". شعرت بالخجل نتيجة هذا التطفل الفظ لأمي على مستوى الجنسانية المقارنة.

أرى حاليا على وجه التحديد، بأن أمي كانت مرهقة تماما جراء إيمانها بمختلف أنواع الفوبيا: يساورها الخوف صوب كل شيء،أن تكون متأخرة، أن لا تمتلك ما يكفي من النقود، تفزعها تيارات الهواء (عانت باستمرار من آلام في حلقها، مثلما حدث معي أيضا، ولم تغادرني أعراض الحالة سوى فترة خدمتي العسكرية)، ثم ارتياب شديد من الميكروبات وعدواها، خوف من الجماعة وضجيجها، الخوف من الجيران، الخوف من إمكانية تعرضها لحوادث في الشارع وجهات أخرى، وقبل كل ذلك الخوف من اللقاءات السيئة وكذا العلاقات الاجتماعية المشبوهة التي يمكنها الانقلاب بشكل سيئ: ثم نضيف أبعد من كل ذلك، خوف من الجنس، السرقة والاغتصاب، بمعنى ربما أن يتعرض شرفها الجسدي لاعتداء وتفقد من خلال ذلك الطهارة المريبة لجسد ما زال مجزَّءا.  

تلتصق بتلابيب ذاكرتي، واقعة تجاوزت بالنسبة إلي كل مقاييس الرعب والمجون. إنها ليست عبثا مجرد ذكرى-عاكسة، غذتها لاحقا مؤثرات أخرى، ذكرى تعود بي إلى سن الثالث أو الرابع عشر، دقيقة للغاية وقائمة بذاتها كما هي، دون أن يتم تطعيمها ثانية بأي تفصيل. ربما، ترسخت حيثيات  تأثيرها الأولي بعد مرور الوقت بحوادث أخرى من نفس المضمون، لكنها لم تعمل سوى على تفاقم اتجاهها الذاتي الفظيع الذي شعرت به حينذاك، وكذا تمردي الحانق.

دائما في مارسيليا، وقد بلغت تقريبا سن الثالثة عشر. منذ أسابيع لاحظت بنوع من الارتياح الشديد أن قضيبي شرع يمنحني ليلا تلك اللذات المحتدمة والساخنة، يعقبها استرخاء رائع، وخلال الصباح أكتشف بقعا غزيرة غير شفافة فوق أغطية السرير. هل كنت على علم بأن الأمر يتعلق بتدنيس ليلي؟ لا يهم: في كل الأحوال أعلم علم اليقين بأن الأمر يتعلق بكوني ذكرا. لكن ذات صباح، استيقظت كالمعتاد، أتناول قهوتي في المطبخ، ثم هاهي أمي تأتي،وتخاطبني برصانة وأبهة: "تعال، ولدي"، ثم قادتني نحو غرفتي. أزاحت بحضوري أغطية سريري، وأشارت بأصابعها نحو تلك البقع الكبيرة المتجمدة فوق الأغطية، دون لمسها. تأملتني لحظة بنوع من الزهو المقيَّد الممزوج بقناعة مفادها أن لحظة أسمى قد دقت، ويلزمها أن تكون في مستوى واجبها، ثم قالت ''الآن، أصبحتَ رجلا، ولدي !'' .   

تجمدت خجلا، وفي نفس الوقت أحسست ضدها بتمرد داخلي يصعب ضبطه. فأن تسمح أمي لنفسها بالتنقيب في أغطيتي الخاصة، وكذا مراقبة جانبي الحميمي الأكثر إخفاء، داخل المتن الباطني لجسدي عاريا، أي ضمن نطاقي الجنسي، كما كانت تفعل مع سروالي الصغير، بين فخدي، متناولة قضيبي بين يديها  وملوِّحة به (كما لو أنه ينتمي إليها !) ، أمي التي ينتابها نوع من الفزع نحو  كل حضور للجنس، ستجبر نفسها كما لو يمثل ذلك واجبا (شعرت حقا بهذا الإحساس) بسلوك من هذا القبيل يصحبه تصريح فاحش –فأخذت مكاني، بل عموما موقع الرجل الذي انتقلت إليه قبل انتباهها لذلك ودون أن يقتضي منها واقع الحال شيئا- هذا ما بدا لي، أو على الأقل شعرت، بأنه يعكس أوج مرتب التدهور الأخلاقي والانحطاط، وما زال الأمر مستمرا على منواله غاية اليوم. تحديدا، تعرضت ضمنيا لاغتصاب وإخصاء. نعم من طرف أمي، التي تشعر بدورها، أنها اغتصبت من طرف أبي (ولكن ذلك شأنها، وليس قضيتي).

إننا لا نتملص بقرار إرادي من مصير عائلي. وبأن أمي من صنعت هذا البذاءة والاغتصاب، ما دامت  بكل بداهة، قد كشفت عن عنف ضد الطبيعة كي تحقق ما تعتبره واجبا بالنسبة إليها (في حين يعود إلى أبي أمر تدبير المسألة) فأكملتْ مشهد الرعب. لم أتفوه بأي كلمة، غادرت وقد صفعت الباب، تائها بين الدروب، مضطربا وأكظم غيضا لاحدود له.

أقاسي من خلال جسدي وحريتي جراء قانون المخاوف المرضية أمي. أنا من حلم بلعب كرة القدم مع هؤلاء الفتيان الفقراء والمشاغبين، وأنا أتابع أجواء مرحهم، على امتداد فضاء فضاء شاسع، من أعلى الطابق الرابع  في منزلنا بحي سيباستوبول. لكني، مُنِعت من ممارسة كرة القدم: "تحاشى تلك الجماعات السيئة وربما تكسرت قدمك!". كنت شغوفا باصطحاب الأطفال الذين يقاربون سني، ورغبت في الارتباط بهم، حتى لا أبقى وحيدا، ثم يقبلون انضمامي، ويعترفون بي واحدا ضمن زمرتهم، فأتبادل معهم بضعة كلمات، وكرات البنانير، بل وأيضا لكمات، وأتعلم منهم مختلف ما أجهله عن الحياة، وأخلق أصدقاء لي (لم يكن لدي أيّ واحد)… أي حلم هذا ! انتشِل مني.

حينما كنا في الجزائر، ألزمتني أمي دائما، بصحبة سيدة طيبة من سكان المنطقة، تعتمد عليها في توفير بعض الخدمات، كي تقودني إلى المدرسة القروية البعيدة  فقط عن منزلنا (شارع ستاسيون-سانيتير) بمسافة لا تتجاوز ثلاثمائة متر واجتياز شارع واحد هادئ. وتجنبا لأي تأخر (هذه الفوبيا التي تعود لأمي)، ترسلني باكرا إلى المدرسة. أرى الأطفال، الفرنسيين وأبناء البلد، يلعبون كريات البنانير نحو الجدران ثم يركضون ويفعلون ما يحلوا لهم تعبيرا عن مظاهر حرية طفولية مصحوبة بصرخات كبيرة.

في المقابل، أصل أنا متصلبا مثل واجب يلزم تحمله، تحت حراسة ''السيدة المغاربية'' الصامتة دائما، وأنا أحس بالاحتقار والخجل داخل نفسي بخصوص امتياز من هذا القبيل ينعم به الأثرياء (بينما كنا فقراء في تلك الفترة)، وعوض الانتظار في الخارج حتى يفتح باب المدرسة، فقد كنت، برعاية من طرف زملاء قدامى لأمي، أحظى بامتياز الدخول بمفردي إلى المدرسة، قبل الجميع ثم أنتظر  وسط الساحة حتى  وصول الأساتذة.

دوما، يأتي، رجل متقدم في السن ضامر ووديع، يقف أمامي ويسألني، لم أعرف قط لماذا: "لوي، ما المقصود بفاكهة  الزان؟ أو الزانة" (مثلما أفهمني). يربِّت على كتفي ثم يرحل. عشر دقائق تحديدا، تنتهي عزلتي: يدخل جميع الأطفال فناء المدرسة يركضون ويصرخون، لكن صوب الحجرات مباشرة: لقد انتهى أملي في الاختلاط بهم. أتحمل، إذا أمكنني القول، ضمن سياق خجل  يسجنني بأن ينعتني المدرِّسون بكوني مجرد "شوشو"، مشاهد الاحتفال الذي لا يطاق، يبرره  مغزى واحد يكمن في طمأنة أمي ضد أخطار الشارع: أصدقاء السوء، عدوى الميكروبات، إلخ.

أيضا ذكرى عنيفة. ذات يوم وأنا في الساحة، إبان فترة استراحة، ألعب البنانير مع طفل أقصر مني. كنت قويا في هذه اللعبة وأكسب دائما. ثم، ها أنا أحصد مختلف كريات الطفل الصغير. بيد أنه أراد بأي ثمن الاحتفاظ بواحدة. ليس عدلا! فجأة، ودون أن أعرف من أين أتاني هذا الاندفاع العنيف، وجهت صفعة قوية إلى خده. هرب، ثم هرولت على الفور وراءه، كي أصلح ما تعذر إصلاحه: الألم الذي أحدثته له. بالتأكيد، أن أتعارك كان بالنسبة إلي تصرفا لا يطاق.

وبما أني بصدد استحضار أهم ذكريات تلك الحقبة، ما زالت في جعبتي واحدة. كنت داخل الفصل الدراسي مع أفضل مدرِّس يعاملني دائما بمشاعر الحب مقارنة مع باقي التلاميذ. يكتب الأستاذ على السبورة وقد أدار لنا ظهره. في تلك اللحظة، التلميذ الجالس مباشرة ورائي، أطلق العنان لضرطة. التفت الأستاذ ثم وجه نظره إلي بكيفية تنطوي على مؤاخذات عدة: "أنت لوي من فعل ذلك..". لم أقل شيئا، بقدر ما أقنعت نفسي بأني حقا الفاعل الحقيقي. أفحمني الخجل، مثل مذنب حقيقي. بعد حالة من القنوط، رويت الحكاية لأمي، وهي تعرف الأستاذ جيدا لأنه سبق له أن أطَّرها فترة استعدادها للتدريس، وتضمر له مشاعر التقدير: ''وهل أنت متأكد بأنكَ لست من (ثم توقفت دون أن تجرؤ على التفوه بالكلمة) اقترف هذا السلوك الشنيع؟ فلا يمكن لهذا الرجل الطيب جدا أن يخطئ'' دون تعليقات.

لقد أحبتني أمي بعمق، و تبيَّنت ذلك أكثر فيما بعد، عندما استوعبت حيثيات  مشاعرها، على ضوء تأويلي. فمعها وبغير وجودها أحسست دائما  بالعجز كي أحيا بنفسي ولنفسي. انتابني دائما الإحساس بوجود سوء تفاهم، فلست الشخص الذي أحبته أمي أو تطلعت إليه. فلم أرهقها قط، حينما تتضح إشارة مايلي: تعيش البئيسة، بقدر الإمكان المصير الذي تأتى لها: أن يكون لها طفل لم تستطع تمالك نفسها بأن تباركه باسم لوي، اسم الرجل الميت (عمي) الذي أغرمت به، ثم بقي دائما عشقها له بين ثنايا أعماق نفسها. حينما كانت تنظر إلي، فليس لشخصي تحديدا، بل وراء ظهري نحو لا نهائية سماء متخيلة أبديا يطبعها موت آخر، يتمثل هذا الآخر في لوي (عمي) الذي أحمل اسمه، ولست أنا، بل الكائن الذي صرعه الموت فوق أثير منطقة فيردان، تلك السماء الصافية لماض حاضر باستمرار.

كنت إذن كما لو مخترقا بنظرتها، أختفي بالنسبة إلي بين ثنايا هذه النظرة، المحلقة بي كي ألتحق في مكان بعيد للموت بوجه شخص اسمه لوي، ليس أنا تحديدا، ولن يصير قط أنا. أعيد في هذا المقام صياغة ماعشته ثم خلاصاتي المؤوِّلة لمختلف ذلك. بوسعنا أن نطرح حول الموت كل الآداب والفلسفات التي نريد: الموت، المنساب في كل مكان ضمن الحقيقة المجتمعية حيث ''يستثمر'' تماما كالنقود، ليس دائما حاضرا دائما بنفس الصيغ واقعيا وكذا على مستوى الاستيهامات.

فيما يخصني، كان الموت موت رجل عشقته أمي أولا وأخيرا. ومن خلال ''عشقها'' إلي، تأثرت منذ أوائل طفولتي، بشيء ما، أصابني بتخدير وقد كبح لأمد بعيد مآل مصيري. لا يتعلق الأمر باستيهام، بل أساسا حقيقة حياتي. هكذا يصبح الاستيهام بالنسبة لكل واحد حياة.

فيما بعد، فترة المراهقة، حينما كنت أعيش في منطقة لاروشميلي مع جدي وجدتي من جهة أمي، فقد حلمتُ بأن أحمل اسم جاك: اسم عَرَّابي، ابن الشبقة سوزي باسكال. قد يبدو ربما ما سأدلي به إفراطا إلى حد ما في اللعب بظواهر الدال، لكن(je) اسم (Jacque)، مثلت قذفا (Jet) للحيوان المنوي، ثم (a) فيما يتعلق دائما باسم (جاك) وأيضا نفس الأمر بالنسبة ل شارلز(charles) لقب أبي، تحيل (ques) ببداهة واضحة إلى (الذيل) (La queue)، ثم جاك (Jacques) مثل La jacquerie)) (انتفاضة القرويين)، ذلك التمرد الصامت القروي وقد اختبرت وجوده عند جدي.

على أية حال، منذ بداية طفولتي، كان لي الحق في اسم رجل لا يقف عند مجرد  تجسيد الحب  داخل رأس أمي: اسم رجل ميت.   

        

                                                          (يتبع)

المصدر:

Louis Althusser : L' avenir dure longtemps ;Stock /IMEC ;1992.PP :35- 49.