15 أغسطس 1948، ليلا
إنه يوم حفل! حفلي! آه كنت مدلَّلة بمناسبة احتفالي!
استيقظت هذا الصباح كالمعتاد على الساعة الثامنة، جلست أقرأ خلف النافذة، وأنا أتأمل شاردة الطريق، فإذا بي أرمق، أتدري من؟ السيد بول رافي، جالسا في سطح الفندق يتناول وجبة فطور كاملة ويترصد في ذات الوقت شيئا معينا عبر نوافذ المنزل (أنا تحديدا!).
لذلك وبدافع من انفعالي، وتمردي، وسخطي! هرولت بسرعة، عند أبي كي نحاول معا العثور على وسيلة معينة للتخلص من الحضور المزعج لهذا الرجل طيلة اليوم.
خرجنا والرغبة في الخصام تقودنا، لكننا لم نعثر له على أثر، فقد تركناه ينتظر طويلا غاية الساعة الحادية عشر (يلزم بالتأكيد أن أرتدي ملابسي).
حقا، أتى دائما، متواضعا، منزويا على الدوام، خجولا إلى الأبد، باستمرار ''عاشقا خلف الظل"، دائما مرتبكة حركاته، أحاديثه، أفكاره، عقده، القبيحة بلا انقطاع، المستهجنة، الكئيبة دائما والباعثة على الحزن، كي يقضي اليوم معنا. ربما أنا قاسية، لكنه صدقا يزعجني أحيانا.
بعد استقبال فاتر، عبرت له صراحة بأني لا أشعر بالسعادة حين رؤيته، ويحضر بهذا الصدد في وقت غير مناسب، مثلما جرت عليه العادة لديه، وبأني أرغب في البقاء وحيدة، زيادة، على كون أبي لا يستلطفه، لذلك بدا مستحيلا بالنسبة إلي أن أبقيه غاية تناوله معنا وجبة العشاء.
هكذا أبدى أسفه ورغبته الفورية في العودة من حيث أتى، مع ذلك دعوته إلى احتساء مشروب، دون أن أشاركه ذلك.
بعد استنفادنا موضوعات مختلف ''المجالات المشتركة'' لحواراتنا، تحولت به نحو حقل لم نلامسه قط سابقا سواء أنا أو هو. أقصد، استدرجته كي نتكلم عنا ووجدت الفرصة سانحة لأوضح له ضرورة أن لا ينتظر مني شيئا آخر غير القائم سلفا. لكنه قاوم، وانتفض. مدعيا عدم وجود مبرر معين لموقفي، بحيث صاح: ''لماذا؟".
كان يفترض إفحامه بالجواب التالي: "لأنكم السيد بول بشع، مزعج، كئيب، بئيس جسدا وروحا، وأشبه بطفل!". مع ذلك اكتفيت بعبارة: ''لأني لا أحبكم ولن أحبكم قط''.
هكذا غادر، يرتجف ذقنه، مغرورقة عيناه بالدموع، ويلتمس مني أن ألتقية للحظة بعد الظهر. تأثرت نحوه، ولم أمتلك فؤادا يرفض طلبه ذاك.
حددت معه توقيت الخامسة مساء. حضر إلى مكان اللقاء عند الساعة الرابعة ونصف. تنطلق الحافلة على الساعة الخامسة وخمس وأربعين دقيقة، ثم استعنت بالصبر استعدادا لمدة ساعة وخمسة عشر دقيقة سأقضيها بجواره واصطحبته في نزهة.
بدا جموحا، متوترا، ساخطا، قبيحا. حاولت الثرثرة في موضوع آخر تماما، لكن هذه المرة أتى من تلقاء نفسه. طلب مني تفسيرا واضحا، لا غبار عليه.
ماذا بوسعي أن أقول له؟ لا شيء يجدي في هذا السياق، أخيرا وأنا منهكة، كشفت له عن تعلقي بشخص آخر، وهذه المرة بعمق وفعليا، بحيث أودُّ أن يسود هذا الحب كل حياتي. حينها انهار منتحبا فوق حوض نباتي على قارعة الطريق. جلست بهدوء إلى جواره، حتى انقشعت الأزمة، ثم قدمت له سيجارة وبقيت أنتظر.
بعد ذلك، شرع يطرح أسئلة على شاكلة. من؟ منذ متى؟ إلخ.
رفضت تقديم أيّ جواب عن أسئلته تلك. غريب؟ فقد استشرف فورا جوابا، رغم رفضي المطلق كي أبرر له خطأ أو صوابا، واستمر تمسكه، حسب اعتقادي، بفكرته الأولى.
أخيرا رجعنا، ولاحظنا طبعا، بأنه تخلف عن موعد الحافلة. لذلك اضطر كي يذهب مشيا صوب فيرنون (Vernon) ويسافر بواسطة القطار.
أخذ الطريق، وبما أني تأثرت قليلا بما جرى، رجعت إلى الفندق للبحث عن درجتي الهوائية ثم التحقت به، ورافقته غاية مدخل فيرنون.
غادر، ولا زالت ملامح وجهه مضطربة، لكنها هادئة شيئا ما، ثم خاطبني قائلا: "ماريا التعيسة! مهما فعلتِ فلا يمكنكِ أبدا أن تتجنبي تسكعي خلفكِ!''.
يوم وأفق رائعان، مثلما تريد!
*المرجع:
Albert Camus/ Maria Casarés :correspondance(1944- 1959) ;Gallimard ;2017.