الأحد  22 كانون الأول 2024

على ما يبدو أنني ذاهبٌ إلى "هناك"/ بقلم: محمد الريماوي

2021-04-13 11:28:38 AM
على ما يبدو أنني ذاهبٌ إلى
محمد الريماوي

بعد تخرّجي من جامعة بير زيت، توقّعتُ احتواءَ الناسَ والمؤسسات لي؛ ليس لأنّي مدهشٌ في أدائي، بل لأن عندي أداء على الأقل. كنتُ أراهنُ الجميع على نجاحي المحتّم، لم أفكّر قط بماهيّة الفشل، كان الفشلُ مستبعدًا بالنسبة لي. كنتُ أعرفُ نفسي وما تستحق، وأعرفُني حين أريدُ شيئًا لا أقعد عنه، أظلّ أسعى إليه حتى يتحقق.

كان لديّ طموحاتٍ كثيرة، كنتُ أراني فيها سيدًا على نفسي، ورحيمًا على غيري. كان في مخيّلتي كلّ شيءٍ يمتاز بالسهولة، فقط يحتاج إلى جهدٍ وسعي، ودائمًا ما كنتُ أقول: "نحنُ لها"!

اليوم، بعد مرور عامٍ ونصف، صُدِمتُ بل صعقتُ بمفاهيم الواسطة والمحسوبية عندما رأيتها على أرض الواقع واقفةً كقنبلةٍ أمامي، بعد كثيرٍ من الخذلان المتجدد كلُّ شيءٍ تغيّر؛ لم تعد طموحاتي ذاتها، ولم أعد أرى الأشياء سهلة، وصرتُ مشكّكًا في إمكانيّاتي، فعبارة "نحن لها" صارت "يمكن أن أكون لها"، وصار ذهني يعرفُ ماهيّة الأشياء جيدًا، يركبُ حصان الواقع لا الخيال، وينزل عند أوّل فرصة متاحة حتى لو لم تكن مرغوبة.

تنازلتُ عمّا أرغبُ به؛ لندرته أو انعدامه، وهذا التنازل حتمًا كان رغمًا عني، وتحديًا لغيري، ورأفةً بذاتي.

قلّت شعبويّتي، بمفهومها العام والخاص، أما العام فصارت الناس تبتعد عنّي، وتشعر أنني بائسٌ مزعج، وأمّا أنا فانتقلتُ من الشعبوية إلى الفردية المطلقة، صرتُ أتقوقع داخلي، وأحصر جهدي لإنماء فرديتي فقط، صرتُ أرى العالم بعين الفرد لا بعين المجتمع والوطن، وهذا كان كفيلًا بأن يُحدِثَ تغييرًا جذريًا في مخزون المبادئ لديّ، انحدرت مبادئي العليا وعلا شأنُ مبادئي الصغرى، تلك التي عجزتُ حقًا عن تحقيقها في هذا البلد المترهّل، كالاستقلال في بيتٍ أو وظيفة، صرتُ أرى الناس بعيونٍ ناعسة، وعقلٍ مترفّعٍ عن كل دنيء، وقلبٍ نائمٍ لا يحنّ إلى أحد، تحوّلتُ إلى رصاصةٍ طائشة لا تعرفُ إلى أين تذهب وماذا ستصيب في طريقها نحو القتل.

لستُ تعيسًا أو نادمًا على هذا التّحوّل أبدًا، بل سعيدًا به؛ فمن غيري سوف يشق طريقي، ومن غير محاولاتي سيجعلني سعيدًا؛ "فلا أحد إلّاكَ في هذا المدى المفتوح للأعداء والنسيان". هذه المحاولات الشخصية التي أمرُّ بها هي في الحقيقة محطّات مهمّة في حياتي، ربما أقف لحظةً لأستريح، لكن ليس للأبد.

أكثرتُ من انحرافاتي عن مسار الحياة الذي كنتُ قد رسمته أوَّلَ وعيي، وعبثتُ بمعتقداتي (في الدين والوطن) كثيرًا، والعبثُ هنا كان منظَّمًا ومنطقيًا جدًا لي، بينما لغيري قد يكون كفرًا وتيهًا. لم يعد بالنسبة لي الدينُ شيئًا أساسيًا في الحياة، بل صار شيئًا ثانويًا يمكن له، إذا تصوّفَ المرءُ به، أن يكون مكمّلًا لحياةٍ سعيدة، فالإيمان مهما كان مرتبطًا بأمورٍ لا يفهمها العقل يظل محلّ اطمئنانٍ للقلب. هكذا هي الحال. أما الوطن، فمفاهيمه انقلبت رأسًا على عقب، لم يعد في عينيّ بمثابة أمٍ تحنو وتسأل بين الفينة والأخرى عن رعاياها، بل صار كما هو، أبًا سكّيرًا أعمى، وخائنًا شرسًا وناهبًا، يأكلُ لحمَ أولاده، ويُظهر للغريبِ كرمًا زائفًا من لحمهم، ويسألهم كلّ يومٍ عن ضريبةٍ ما يختلقها بنفسه لنفسه.

بيني وبيني كنتُ أفكّر في مواجهة هذه المعتقدات البالية، بالنص المنطقي أو بالصورة الواضحة، حاولتُ ثمّ تراجعتُ عند أوّل مواجهة، ليس لضعف حجتي إنما لكثرة الضجيج، ولصوت الغباء المستفحل في النّاس.

 قررتُ المحاولة من جديد، لكن بشكلٍ مختلف هذه المرة، مشيتُ على فكرة ميكافيللي "الغاية تبرر الوسيلة" و"البرغماتية" أو التكيّف بحسب الظّروف. والآن، وجدتني في مكانٍ لا أنتمي إليه ولا ينتمي إليّ، عامل باطون في الداخل المحتل! يرثُ حزن أجداده على كتفه، ويحمل الحقد على كل مسؤولٍ في السلطة (الفلسطينية) في قلبه، ويشتمُ الناس لتجاهلهم لصيحاته وفنّه، كذلك يشتم واقعه الذي أجبره على المقايضة بنفسه لأجل لقمة عيشه.. رغم ذلك، إنني أفكّرُ في اللجوء إلى أجهزة الأمن (الفلسطينية)، كضابط شرطة، بعد أملي في النجاح والنجاة من الدورة التدريبية، تلك التي يحددون فيها شخصية الفرد، ويسرّحون شعره على ذوقهم الخاص، ويوجّهون عقله على تركيبتهم الملطخة بالتبعية.

أنا لا شأن لي بكلّ هذا الخراب، وأنت أيها القارئ، أرجوك لا تنظّر عليّ، لستُ مسؤولًا عن هذا كله، ولستُ نادمًا، أنا فقط أحاولُ جاهدًا ألا أمد يدي إلى أحد، وألا أتسول من مؤسسات رايتها الفن والحرية وتحفيز الفرد ولكنها تختبئ فعليًا خلف مصالحها الشخصية، سواء كانت مجتمع مدني أم حكومية، فكلاهما يسعى إلى الربح. لا تحاول أن تقول لي: حاول في مجالاتٍ ثانية، حاولت ويئست، وانتهى.

يا صديقي، أنا لا أبرر هزائهمي إن كانت هزائم حقًا، ولا أرجوك أن تغفر لي؛ لستُ مذنبًا، بل أنت وهو وهي. إنني أحاولُ أن أجد نفسي وسط هذا التيه العام، أحاولُ ترميمَ نفسي التي أرهقتموها وأزهقتموها قتلًا وتدميرًا. قلتُ مرّات كثيرة، سيخسرني وطني كشاعرٍ أو ككاتبٍ محترم، لكنَّ أحدًا لم يسمعني، كان التجاهلُ سيدَ الموقف، وكانت الأيامُ سريعة عندما مرّت فوقي وأنا كنتُ كسلّة المهملات، مهملٌ ومؤجّل؛ لذلك قد آن أوان الوقوف.