الأحد  22 كانون الأول 2024

وقائع من أيام الطفولة: الختان| بقلم: سعيد بوخليط

2022-01-12 02:08:39 PM
 وقائع من أيام الطفولة: الختان| بقلم: سعيد بوخليط
الكاتب سعيد بوخليط

أذكر ملامحه بالتمام والكمال، وقد ناهزت حاليا المدة الزمنية الفاصلة أربعين سنة وأكثر، كما أستعيد اسمه بغير تردد أو سهو لثانية واحدة. نعم، إنَّه بن رمضان، أشهر حلاق تحتفظ به ذاكرتي غاية اللحظة، ليس بسبب براعته ولا كونه صاحب محل من الطراز الرفيع، أو أضفى على شَعْري ذات مناسبة تسريحة مدهشة، بل حدث العكس؛ مثلما سأروي.

لم يكن سواء هذا ولا ذاك، بل مَثَّل أساسا نموذجا معاكسا للاحتمالات الثلاثة، وتكفي الإشارة، بأنه حلاق انتمى إلى سلالة قديمة ينحدر تكوينها من العهد القديم قبل التيارات البوهيمية والشيوعية لسنوات السبعينات، التي شكلت آنذاك ضربة موجعة لمهنة الحلاقة وتطورها، حينما اتفقت موضة الحقبة على كثافة الشَّعْر واللحى، وصارت فلسفة الهيبيز رمزا للثورة على كل شيء.

هكذا، مثلما تحكي الوقائع كسدت مهنة الحلاقة، وتحول أغلب أهلها إلى مهن متصلة بالمقص وعمليات القطع والبتر، ومما زاد الطين وحلا، ارتداؤهم وزرة بيضاء؛ فتداخل سرّ أمرهم مع أهل الطب.

عرفت بن رمضان، في حي الطفولة بجوار ضريح الولي أبي العباس السبتي. ارتدى صيفا وشتاء جلابتين متباينتي اللون غالبا بيضاء وسوداء، وطربوش أحمر تؤثثه لِفافة صفراء فاقعة خلال المناسبات الخاصة، وحذاء ذي مقاس واسع بكعبين بارزين، تحيل الناظر من الوهلة الأولى إلى طابعه النسائي. لم أدرك حتى اللحظة سبب اختياره الكعب العالي، مع أنه تميز بقامة طويلة. هكذا، تضاعفت سنتيمترات فائضة عن الحاجة المطلوبة، أحدثت لديه تقوسا ملحوظا على مستوى ظهره، ازدادت حدة اعوجاجه مع مرور السنوات. 

عشت مع هذا الحلاق، ثلاثة جروح عميقة، منطوية دائما بين ثنايا أرشيف تجاربي:

*أشرف على عملية ختاني.

*اقتلع من فمي سنا وضرسا بطريقة سوريالية.

*أصِبت عنده بعدوى فطرية، خلال إحدى مرات حلقه لشعر رأسي، رسمت وسط جمجمتي بقعة بيضاء فسيحة؛ لم يتراجع قُطْرها سوى بشق الأنفس بعد معركة طويلة.

طبعا، الواقعة الأكثر إيلاما وتمكنا من عقلي الباطني، تتمثل في حكاية الختان.

بلغت آنذاك سبع سنوات، بدأت ألتقط باستمرار تحريض أمي من طرف الضيوف على ضرورة الإسراع قبل فوات الأوان، باستدعاء حلاق إلى منزلنا وإقامة حفل بمراسيمه التقليدية المعهودة، تخليدا ل"طهارتي ودخولي الإسلام'' بهذا الطقس الأنثروبولوجي.

شرع الرعب يتسلل إلى قلبي، وأنا ألتقط في غضون الأحاديث، بعضا من التفاصيل الصغيرة وكذا المغامرات المرتبطة بسياق من هذا القبيل، ثم أساسا احتمال وقوع بعض الحوادث السلبية الناجمة عن عملية الختان:

-"ابن فلانة، تألم ألما شديدا"؛

-''ابن فلانة، كابد نزيفا لم يتوقف سوى داخل غرفة الإنعاش"؛

-"ابن فلانة، صرخ صرخة، فصفعه الحلاق صفعة حطمت أسنانه بالكامل''؛

-''ابن فلانة، تعفن عضوه لأسابيع طويلة''؛

-''ابن فلانة، انحرفت قليلا وجهة قامة عضوه حينما صار زوجا…".

أسترق السمع لتلك الروايات ببراءة طفولية قياسا لعمري، بحيث يجدر أن لا أحملها أكثر مما تتحمل، غير أنه للأسف توقُّد انتباهي الزائد عن حده واشتعال حواسي الدائم، أضفى على متنها بعدا تراجيديا، رفع من وتيرة الفزع والارتياب بشكل كبير، إلى درجة أنه بدأت تطرق ذهني وبإلحاح، دواعي الهروب خلسة من البيت، حماية لنفسي من هذه المجزرة التي تتربص بي؛ خلال الأيام القليلة القادمة.

بدأت لحظة الحسم تدق، ومعها الاستعدادات لإقامة حفل بسيط، أهمها تحضير بعض الحلويات، شراء ملابس خاصة بالختان أساسا الجلباب، البرنوس، البلغة، الطربوش، ثم انطلق الجدال بين أبي وأمي فيما يخص قائمة المدعوين؛ والأكثر أهمية في خضم مختلف ذلك، الاسم المرشح لأداء المهمة على الوجه الأكمل، فانتهى التوافق بينهما، إلى أن شخص بن رمضان، يعتبر مناسبا كي ينتشل قطعة من جهازي.

 لا زلت أذكر، بأن أمي أصرت خلال آخر الاجتماع، بأنها لن تعاين الموقف في تفاصيله الحية، بل ستغلق عليها القفل بالمفتاح داخل غرفة، وتدس رأسها تحت وسادة، إلى أن يغادر الحلاق وأصحابه المنزل.  

فعلا، أتى الحلاق بفريق يتكون من مساعدين، سيتكفلا بإمساكي من الجهتين اليمنى واليسرى، قصد الحيلولة دون أيّ تحرك نشاز ربما أدى إلى مآل مأساوي لا تحمد عقباه، رغم أن الوضع لم يكن يقتضي عتادا فيزيائيا بعينه، فقد كنت صاحب بنية جسدية واهية يسهل التغلب عليها، ولا يحتاج الوضع إلى تعبئة استثنائية للقوى، غير أنها استراتيجية اندرجت لا محالة ضمن التحايل المهني من طرف الحلاق حتى يضمن أجرتين إضافيتين. 

صبيحة اليوم المعهود، استيقظت على أنغام الطبل والغايطة والبندير وسط ساحة الدار، بحيث تحلقت نسوة وهن ينشدن أهازيج مختلفة تنهل من مرجعيات روحية وأحيانا شعبية. وقفت جامدا عند باب الغرفة، يلتهمني الهلع، إلى درجة استحالة التحكم في أطرافي السفلى من شدة الارتعاد، وقد زاد الوضع سوءا برودة المناخ، فقد كان الفصل شتاء، إضافة إلى أن الموعد تزامن مع فترة صباحية مبكرة، كما أكتسي فقط فوق جسدي قشابية خفيفة.

منصبة عينايا وجهة باب المنزل، وجوارحي معلقة بأكملها عند لحظة ولوج الحلاق عتبة دارنا محمَّلا بمحفظته الجلدية الضخمة والمترهلة، التي تحوي أجهزة حديدية، ذات مقاييس متفاوتة حسب الحاجة والحالة.

خلال شرودي، أحسست بحنو يد أبي تربت على كتفي، ويشجعني بكلمات طيبة كي أتقدم نحو الحلاق الذي حضر فعلا، وقد هيأ المكان دون أن أشعر بوجوده قط.

- "هيَّا يا بني! تشجع، بعد عملية بسيطة أخف من رفة العين، ستصبح رجلا مسلما".

رغم التحفيز ترددت في التقدم، وأنا أشاهد الحلاق يرصدني بنظرات تخبر عن أشياء كثيرة، وطقطقة المقص تنساب بحركات بهلوانية من أصابعه؛ كأنه يقوم بعمليات تسخينية قبل اللحظة الحاسمة.

لذلك اضطر أبي جذبي بشيء من الخشونة، كأنه يسوق خروفا إلى الجزار، ثم رأيتُني مرفوعا بسرعة خاطفة عن الأرض وصراخي يشق الأجواء طولا وعرضا، بالكاد أتبيَّن هويات دعوات تحثني جميعها كي أتملى جمال طائر يغرد فوق الدربوز العلوي للبيت، ثم شعرت بلطمة حادة بين رجلي، لم أستفق بعدها إلا وأنا ممدد في فراش غرفة، أدركت حين انقشاع غشاوة الغيبوبة أنها غرفتي، مع ألم فظيع يعصر كل جغرافية المنطقة السفلى، وبعض الضيوف عند رأسي بجانب مجموعة من الهدايا واللعب.

كنت نزقا وحركيا للغاية، لا يتحمل مزاجي سجن الفراش، لذلك أسرعت بعد مضي فترة وجيزة، إلى الهرولة خارج البيت كي ألعب الكرة مع الأطفال، اندفعت كما لو أن التجربة التي اختبرتها واقعيا مجرد حلم ليلي، فنسيت ما جرى، غير أني سأتلقى ركلة في ذات المكان المعلوم من أحدهم بسبب شجار خلال المباراة، أحسست حينها مثلما أذكر، كما لو أن جسدي ارتطم  بنيزك. طار عقلي من مكانه. تضاعف المشكل واستغرقت النقاهة أياما أخرى. 

أيضا، الحلاق بن رمضان، مختص في تطهير الأفواه من كل سن أو ضرس افتقدا صلاحيتهما أو انتابهما خلل معين. بهذا الخصوص، امتلك في حوزته مئات الأسنان والضروس والأنياب، تراكمت لديه تباعا، يجدها الزبون معروضة فوق طاولة تتوسط دكانه، للنظر والاستجمام والعبرة، عيِّنات مختلفة تثير التقزز قدر الرعب، لأفواه بشرية مرت من هنا  طيلة سنوات.

مثلما حدث مع المقدمة الأصلية لجهازي (نتيجة الختان)، فقد احتفظ كذلك غاية وفاته بأثرين من فمي، حينما اجتمع ذات يوم ألم سن وضرس دفعة واحدة، فلم يتجلى من مفر أمامي سوى الاستعانة بالمختص الوحيد في حيِّنا، الذي يتوفر على وسائل التدخل الناجعة، رغم ترسخ الذكرى المؤلمة للختان، وإن بعدت المدة قليلا.

بعد استفساره عن أحوال الأهل والمدرسة، ألبسني وزرة رثة ومتسخة، رائحتها كريهة جدا أشعرتني برغبة عارمة في القيء، غير أن معدتي رفضت الانسياق لأني لم أتناول أكلا؛ ذا بال منذ يومين تقريبا بسبب وجع الفم. بدأ يتحرى بأصبعه المتسخ المنطقة المصابة، ثم أكد لي على ضرورة الالتجاء إلى حبل صغير من أجل انتزاع السن أما الضرس فيحتاج إلى كُلاَّبة.

تصورت رحلة جهنم التي تنتظرني ذهابا وإيابا. أردت أن ألتمس منه اللطف والرحمة. لم يترك لي فرصة.

-''جيد! إبق على فمكَ مفتوحا بهذه الطريقة، سأسوِّي أمر الحقيرين في نفس الوقت ودفعة واحدة. هيا تماسك! استعنا على الشقاء بالله''.

وضع إناء ماء فوق المِجْمر، نفخ في النار نفختين سريعتين، تناول فوطة وخيطا ثم ملقط. ألح علي بضرورة الصبر، للحظات فقط وسيخرج السن والضرس بليونة كالشعرة من العجين. لم يكن تقديره صائبا، بل حدث الأمر معي كما لو ولج حقا الجمل من ثقب إبرة، ثم لازمتني تأثيرات آلام البتر لأيام عدة، مثلما خلق داخل فمي حفرتين هائلتين، تداركتهما حينما اشتد عودي، لدى طبيب أسنان حقيقي.  

أخيرا، استلهمت مبكرا جدا عند بن رمضان، درسا طبيا في عدوى الفطريات، عندما استوطنت إحداها وسط رأسي، جراء عدوى التقطتها من أدوات حلاقته، لم ينفع معها علاج طيلة سنوات، رغم لطخات الثوم والقطران بل وحتى وقود السيارات المحترق، مثلما بادرت أمي إلى فعل ذلك بجمجمتي إصغاء لفتاوى إحدى الجارات. بقعة، لا زلت أتحسس بعضا من خباياها غاية اليوم، لا سيما خلال فصل الصيف، حينما آتي على شعري بالكامل، تخفيفا من غلواء الحرارة.

غير أني سرعان ما أتوقف عن تلمسها، حتى لا ينبعث ثانية بن رمضان من قمقمه، كما يحدث لعفريت مصباح علاء الدين.